حاجتنا إلى قافلة الفقهاء (1)

حاجتنا إلى قافلة الفقهاء (1)

عمر حيمري

القافل لغة هو الراجع ، والقافلة  هي " الرفقة الراجعة من السفر أو المبتدئة به يكون معها دوابها وزادها " (معجم المعاني الجامع  والمعجم الوسيط ) . وابن منظور في لسان العرب يقول " سميت القافلة قافلة تفاؤلا بقفولها عن سفرها الذي ابتدأته . والمقفل : مصدر قفل إذا عاد من سفره ، قال وقد يقال للسفر : قفول في الذهاب والمجيء .

وفي المتداول اليومي تعني كلمة القافلة ( الكافلة ) مجموعة من الأفراد يتفقون على الرفقة والصحبة تحسبا للمشاكل والمصاعب ، التي قد تواجههم أو تحدث لهم  أثناء  السفر أو الرحيل ، والتي تتطلب التعاون والتضامن والمواجهة الجماعية للتغلب عليها ، فيتفقون مسبقا ، على الانطلاق من مكان معين ، ويتجهون نحو وجهة مشتركة ، وقد يكون لهم هدف مشترك  كالحج ، أو التسوق ( التجارة ) ، أو السياحة ، أو الهجرة  ، أو تقديم مساعدات طبية مجانية ومتعددة للمحتاجين لها ، كتشخيص الطب العام - قياس السكري والضغط الدموي - طب الأسنان - طب الجلد – طب العيون ... إلى جانب التحسيس والتوعية ضد الأمراض المزمنة والمعدية ، وطلب العلاج والتداوي ، أو القيام بأنشطة اجتماعية ذات الصبغة الإنسانية  التضامنية ، كتوزيع المواد الغذائية ، والملابس ، والأغطية ، والأشجار ، والمستنبتات في المناطق النائية والمعزولة ...

أما مصطلح الفقهاء ، فهو جمع لكلمة فقيه ، وهو من يحفظ القرآن عن ظهر قلب ويفهمه  ويعلمه ويعمل به . وقال مجاهد  : ( إنما الفقيه من يخاف الله . ) والفقه هو الفهم والمعرفة المتعلقة بالأحكام الشرعية العملية ، ويشترط في الفقيه أن يكون على قدر كبير من الفهم والمعرفة العقلية الشاملة ، والاطلاع الواسع على قواعد أصول الفقه وعلى مناهج استخراج الأحكام الفقهية للنوازل ، كالاستنباط ، والاستدلال ، والقياس . كما  عليه أن يكون فطنا وعلى دراية كاملة بمعتقدات وأفكار  وأعراف وعادات مجتمعه المحلي والوطني ، حتى وإن كانت على قدر من الخرافة والتفاهة ، وعليه أيضا أن يكون على علم بما  يدور بين مواطنيه  من أحداث سياسية  وتغيرات اجتماعية ، أو أخلاقية ، أو دينية  .

هذا الواقع المتنوع الذي يجمع بين السلبي والإيجابي وبين الحلال والحرام وبين كل المتناقضات ، هو ما يجب على الفقيه فقهه والانتباه إليه والتعامل معه بذكاء وفهم عميق ، حتى يتجنب كل اصطدام محتمل ويجتنب كل الصعوبات المعيقة للدعوة إلى الحق ، وحتى يتم التواصل مع العينات التي يريد دعوتها بنجاح . وإلا بقي في معزل ، بعيدا عن المجتمع الذي يريد إصلاحه . ولنا عبرة في قوم شعيب ، إذ اتهموا نبيهم بعدم القدرة على التواصل معه بحجة أنهم لا يعلمون ولا يفهمون ولايعقلون الكثير من كلام نبيهم وأقواله وحكمه ونصائحه . وهذا ما سجله القرآن الكريم في الآية الكريمة : [ قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ] (سورة هود آية 91 ). قالوا هذا لنبيهم تهربا من التواصل معه ، وتهكما ، وعنادا ، وجحودا ، ونكرانا للحق لما جاءهم ، وكفرا بالدين الجديد ، وليس جهلا ، أو قصورا في عقولهم ، أو تقصيرا من نبيهم ، فيكون لهم بذلك عذر عند ربهم ، لأنه من العبث ، ومن غير الحكمة والمنطق والعقل ، أن يبعث الله رسولا بغير ما يفهم أو يعقل قومه . لأن المراد من بعثة الرسل ، هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وتحقيق الحاكمية لله وحده لا شريك له . مصداقا لقوله تعالى : [ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ] ( النحل آية 43 ـ 44 ) وقوله : [ وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يومنون ] ( النحل آية 64 )   . وهذه الغاية ( أقصد هداية الناس ) لا تتم ، إلا إذا كان هناك توافق في لغة وفكر المرسل والمرسل إليهم ، لكي يحدث التواصل ، فيحصل الفهم والبيان ، ثم يبقى الهدي أو الضلال بمشيئة الله وإذنه ، وهذا ما قررته الآية الكريمة [ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ] ( سورة إبراهيم آية 4 ) . إن مهمة الرسول هي البيان أما الهدي أو الضلالة ، فخارج عن قدرة ورغبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومرتبط رأسا بمشيئة الله سبحانه وتعالى .

إن الفقه في الاصطلاح الإسلامي ، قد ارتبط مفهومه  بمعرفة الأحكام الشرعية العملية المرتبطة بالجانب الواقعي ، التطبيقي . لأن المسلم ، لا يقبل على أمر ما ، أو يتركه ، حتى يعلم  حكم الشرع فيه . ومن ثم كان تعلم الفقه ضروري ، بل يصبح واجبا، عندما يتعلق الأمر بعلم الفرائض ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب ، ولأن الله لا يعبد بجهله وجهل شريعته وسننه ، فهو عليم ، ولا يعبد إلا بعلم . وقديما قيل ( عبادة الجاهل في حجره إذا قام هرقها ). فالفقه إذن ، هو العلم المقرون بالعمل والتطبيق . وقد  نسب إلى الإمام علي رضي الله عنه ، أنه عرف الفقه بقوله : ( الفقيه حق الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ، ولا يؤمنهم من عذاب الله ، ولا يرخص لهم في معاصي الله  ، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها ، ولا خير في علم لا فهم فيه ، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها .) ( نقلا عن مفتاح دار السعادة – علي حسين ) .

إن الفقيه هو خزان العلوم الشرعية التطبيقية ومرجعيتها في مواجهة النوازل ، والإفتاء بما يتفق مع شرع الله  بفضل التمكين الإلهي ، وبفضل ما وهبه الله إليه من عقل راجح وعلم واسع وقدرة على استنباط واستخراج الأحكام وفق الشريعة الإلهية ، وهو رجل عملي يهتم بكل ما يجري حوله من أحداث سياسية ووقائع اجتماعية وصراعات فكرية ... وكوارث لسر النبوة ، فتواه تلزم المسلم أين ما كان دون أي اعتبار للحدود الجغرافية أو المكانة الاجتماعية للأفراد والجماعات ، كما تلزم الأمة والحاكم على السواء بالطاعة والانقياد .  انطلاقا من هذا الفهم للفقه كانت مسؤولية الفقهاء.