هل كان (داروين) كافراً
كما يدعي المدعون ؟؟
راسم المرواني
العراق / عاصمة العالم المحتلة
البعض يقتنص أول العبارات ويبني عليها مواقفه من الآخرين ، والبعض يكتفي بسماع عبارة (لا إله) ،ليتهم قائلها بالكفر ، دون أن يمنحه فرصة إكمال العبارة التي تغير معنى النص المنقوص تغييراً واضحاً حين تنتقل من نفي الإلوهية بـ (لا إله ) إلى توكيدها بـــ (لا إله إلا الله) ، وهذا دأب المتسرعين والمصابين بعقدة إلغاء وتغييب ومصادرة الآخر ، وهي من أشد أعراض الإصابة بمرض الرغبة (بتسقيط الآخر) .
للموضوع علاقة بنظرية داروين ، هذا العالم الرائع الذي لا يقل أهمية عن العلماء المتخصصين بحقول العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية الأخرى ، ولكنه خضع لسطوة غباء المتشدقين والمنغلقين من علماء ورجال الدين ، فقد اقتنصوا منه عبارة خاطئة وموضوعة تفيد بأن (أصل الإنسان هو القرد ) ، وراحوا يشتمون هذا الرجل ، ويلعنونه ، ويحذرون من قراءة كتابه (أصل الأنواع) كما يحذرون أبنائهم من قراءة قصائد (نزار القباني) ، ولم يكلفوا أنفسهم مسؤولية أو جهد مناقشة الرجل ، أو على الأقل لم يكلفوا أنفسهم أن يراجعوا حقيقة متبنياتهم الأصلية التي فارقوها ونبذوها وتشبثوا بما ينفعهم منها ، أو يطابقوها مع أطروحة هذا الرجل .
لن أحاكم داروين ، ولن أحاكم هؤلاء ، ولا يتوقعن مني القارئ أن أستخدم (الريموت كونترول) وأدله على المصادر التي لدي والتي تؤيد أغلب ما أثبته دارون علمياً ومختبرياً ، ولن أمارس معه دور الأب أو المتسلط أو الموجه ، ولن أكون له عاملاً رخيصاً أقدم له عصارة جهدي على طبق من ذهب ولا من خزف ، بل أجد أن من مسؤولية القارئ أن يبحث بنفسه ، وأن لا يستخدم مقالتي وسيلة للهو أو قضاء الوقت في السفر أو أثناء انتظار صديقه في المقهى ، ولكني سأحاول أن أذكّر أعداء هذه النظرية من الإسلاميين بما لديهم ، وأدينهم من أفواههم .
1- حين يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن (وجعلنا من الماء كل شي حي) ، فهو يعني به كل الكائنات الحية ، بما فيها الإنسان ، ولكن !! ، أفلا يشيرنا هذا النص إلى أن مصدر الحياة هو الماء ؟ أولا ينبهنا إلى أن بداية الخليقة كانت من الكائنات الوحيدة الخلية (كالأميبا) التي بدأت خطواتها الأولى في ضحاضح الماء بعد برودتها من الانفجار الأول ؟ ألا يعني لنا هذا أن كل الكائنات الحية متأتية من مصدر واحد ، أو من مصنع واحد ، أو من منشأ واحد ؟ ولماذا لا نحتمل أن الله سبحانه قد بث (سر الحياة والتطور) في الخلية الأولى ومنحها القدرة على التطور ؟؟ حتى توصلت إلى نتائج عليا على مر ملايين السنين ؟ حتى وصلت الخلية الواحدة الى كائن (إنساني) قادر على التعلم والاستنتاج والاختيار قبل أن يخلق اللهُ آدم الأخير ؟ ولماذا يحاول (الإعتباطيون) أن يفهمونا بأن تفسير الآية يكمن في إثبات أهمية الماء للحياة ، وهل هناك من لا يقر بأهمية الماء للكائنات ؟ وهل القرآن العظيم أو من أنزله – سبحانه - لا يعرف بأن (أشكل المشكلات إثبات البديهيات) ؟ وهل نزل الوحي على الرسول ، وأقام الدنيا ولم يقعدها لكي يخبرنا بأن الماء ضروري للحياة ؟؟ مالكم ؟؟ ، وحتى الماء (الدافق) الذي أشار إليه القرآن ، فهو يشير عنايتنا إلى الأصل ، وأن الإنسان لم يكن ليتخلى عن بداياته الأولى في الخلق .
2- حين يقوم أحد الصحابة بتوجيه سؤال للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) قائلاً (كم بيننا وبين أبينا آدم عليه السلام ؟) ، فيبادره الرسول (ص) بسؤال لسؤال قائلاً (أي آدم منهم ) ؟ ثم يستدرك قائلاً ، (إن الله خلق ألف آلف آدم قبل آدمكم) ، وحين يقول الرسول بأن (كل من على الأرض هم من آدم ...إلاّ يأجوج ومأجوج) أ فليس هذا مدعاة لفتح شهيتنا للبحث عن أصول الكائنات ، ثم ، أ ليس من الحري بنا أن نفهم بأن (آدمنا) وذريته هم ليسوا كل ما شغل – أو يشغل - الأرض من الكائنات ، ولكن تبقى الأسئلة ، أين هم ؟ أين آثارهم ؟ ماذا حل بهم ؟ هل تزوجنا منهم وتزوجوا منا ؟؟ أم أن الله عجز عن تزويج ابني آدم بمخلوقات أخرى فألغى قانون الترابط الأسري ، وألغى – مؤقتاً – قانون الأحليـّة والحرمة ، وسمح لقابيل وشيت أن يتزوجا من اختيهما ؟ وهل تلاشى هؤلاء في وجودنا ؟ أم انقرضوا ؟ أليس من الممتع والرائع أن نكلف أنفسنا مهمة البحث وإعادة قراءة النصوص ، وعرضها على العقل والعلم والمختبر ؟
3- وحين يلفت الرسول الأعظم بأن المسافة الزمنية بيننا وبين آدم هي (سبعة آلاف عام) ، ولكن حين يثبت لنا المنقبون وعلماء الآثار بأن هناك حضارات على الأرض تمتد إلى عمق عشرات الآلاف من السنين ..وأن هناك حلقات من إعادة تفاصيل الحضارة ، وأن هناك آثار لأناس كانوا يعيشون قبلنا على الأرض ، عفى عليهم الزمن وحولهم الى هياكل من عظام فبل ملايين السنين ، أليس هذا مدعاة لنا لكي نفهم بأن آدم لم يكن أول المخلوقات الإنسانية على الأرض ؟؟ وأن آدم الذي أشار إليه الرسول هو الحلقة الأخيرة من حلقات عالم الأوادم المتكررة ؟
4- كيف استطاع الملائكة أن يبنوا معلوماتهم على أن الإنسان (سيفسد في الأرض ويسفك الدماء) كما هو مذكور في القرآن ، ما لم تكن لهم رؤية متأتية من الواقع ؟ وهل يحق لهم أن ينازعوا الله رداء علم الغيب ؟ وهل كانوا يتحدثون عن توقعاتهم لجرائم الإنسان المستقبلية ؟ وهل كانوا يشيرون لجرائم المتدينين الفاسدين أو الشيوعيين أو الرأسماليين أو النازيين أو الفاشيين أو جرائم الخلفاء والملوك ؟ ولماذا يفتح الله سبحانه معهم باب الحوار ما لم تكن هناك مبانيٍ واقعية تحتاج معها إلى تفنيد رؤيتهم لمستقبل وجود الإنسان على الأرض ، متنبهين إلى إشارة مهمة ، وهي ، إن الله سبحانه يؤمن بالحوار ويشجع عليه رغم أنه هو الله الذي ليس كمئله شئ ، ولكن الإنسان المتسافل يرفض الحوار ولا يؤمن به.
5- ألا يجد البعض اختلافاً بين تسميتي (الإنسان) و (البشر) في النصوص الكتابية السماوية ؟ ولماذا لا يلتفت البعض إلى أسبقية أحدهما على الآخر في جدول التسلسل الزمني للخليقة ؟ فالبشر ، هم أعلى أطوار الخليقة ، وهم أعلى أشكال التطور والتكامل ، أما الإنسان فقد سبق البشر في الزمن والخلق ، وعليه فما الذي يمنع أن يكون (الإنسان) هو نتاج طفرة ورائية عن كائن آخر أخذ بالتطور شيئاً فشيئاً وعلى مدى الملايين من السنين ؟ وهل هناك نص ديني (أصلي) ينقض هذا الاحتمال ؟ مع علمنا أن الاحتمال يُبطل الاستدلال .
6- الإمام جعفر الصادق (وهو من أئمة المسلمين الشيعة) لفت انتباهي في جواب له بثه لأحد أصحابه قائلاً :- (إن الله خلق قبل عالمكم هذا ألف عالم ، كل منهم يرى أن لا أكبر منه في الدنيا ) وهذا يدفعنا إلى التفكير بوجود الإنسان السابق والحالي في الأرض أو الكواكب والمجرات الأخرى ، ويخلصنا من محدودية الزمان والمكان ، وينطلق بنا إلى أفق أرحب وفهم أكثر اتساعاً للخليقة ، ويرسخ لدينا مفهوم قبول فكرة التزاور والتجاور بين حضارات الأرض وحضارات ما بعد المجموعة الشمسية ، ويهيئ وعينا لقبول فكرة وجود تلاقح حضاري بين أسلافنا وبين سكان الكواكب الأخرى
7- ذوو البشرة السوداء ، والصفراء ، والبيضاء ، والسمراء ، واختلاف اللغات ، والأشكال ، والقابليات ، والطباع ، والقدرات ، لا يمكن أن تكون متأتية من إنسان واحد ، وليس بوسع العلم أن يثبتها ، ولو ادعى العلم أنها أتت من طفرات أو تغيرات ورائية ، فليس بوسعه أن يحتكر إمكانية الطفرة على هذا النحو ، ويلغي بقية الطفرات التي يقول بها الآخرون ، وليس بوسعه أن يقول لنا بأن حرف (الباء) يمكن أن تجر الكلمة هنا ، ولا تجرها هناك .
8- لو أننا أخضعنا (قصة سجود الملائكة لآدم) لعملية التحليل والتفكيك وإعادة القراءة ، لوجدناها تشير إلى ثلاثة مواقف ، وثلاثة أمكنة ، وثلاثة أزمنة مختلفة ، ولم يكن (أبونا آدم) بطلها كلها ، بل كان هناك آدم آخر ، علينا أن نكلف أنفسنا مهمة البحث والتقصي عنهم ، تاركين ورائنا التعبد بما يقوله الآباء ، فالقرآن يدعم العقل والتفكير والعلم ، رغم محاولات البعض في جعله كتاباً (اعتباطياً) يخص الأمن الغذائي والثرائي لعلماء الدين فقط ، وواضح أن القرآن ليس كتاباً مدرسياً لتعليم فن الخضوع والخنوع لسلطة الكهنوت ، بل هو كتاب (فيه تبيان كل شئ) .
ورغم محاولات البعض في إخضاع نظرية داروين للنص الديني الاعتباطي ، ولكنها ستبقى علامة مهمة في تأريخ وجود الإنسان ، وحري بنا أن نمنع داروين من أن يدعي بأن هذه النظرية هي من عصارة فكره ، وعلينا أن نقدم دعوى قضائية لكل من يدعي بأن هذه النظرية ليست إسلامية ، فالمسلمون سبقوا داروين الى هذا المعنى ، واستطاعوا أن يحلوا لغز الإنسان (الحالي) بشكل لم يستطعه دارون في نظريته ، وعند علمائنا حل (الحلقة المفقودة) لو كانوا ينطقون ، وغالباً ما نجد أننا نسبق الآخرين بالتلميح ، ونمنحهم حق التصريح ، كما سبق العلماء المسلمين الكثير من علماء الغرب في نظرياتهم .
سأترك للقارئ الحريص مسؤولية البحث والتقصي وإعادة القراءة ، ولن أسلب منه حق التحري ، ولن أمارس معه دور الموجه ، لأنني أثق بقدرة الإنسان على الوصول للحقيقة حين يريد الوصول ، معللاً نفسي بأن أسمع - يوماً - بوجود لجنة (علمية - دينية) تبحث نظرية داروين وتشبعها نقاشاً وتحليلاً بعيداً عن التشنج والأحكام المسبقة .
وللحديث بقيـــّة إذا بقيت الحياة