أوروبا واليونان: حدود "العراك"

تسيبراس ليس مغامرا ويجيد الحساب بمهارة، وهو إن أجاد اللعب بأوراق الأوروبيين، فهو مدرك أن اللعبة أكبر من طموحات الحالمين، وأن الحنكة تكمن في قطف ثمار ما نضج.

العرب

وجّه الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني خالد حدادة رسالة تهنئة إلى رئيس مجلس الوزراء اليوناني أليكسيس تسيبراس، وإلى حزب “سيريزا”، أعرب فيها عن “أعمق التحيات الرفاقية” للانتصار الذي تحقق في الاستفتاء الشعبي، يوم الأحد الماضي. رسالة الرجل من أعراض تهيّج اليسار العربي على شأن يجري ليس ببعيد عن بركانهم، ومن علامات الحنين إلى أبجديات نوستالجية عتيقة. لكن تسيبراس لا يتصرف وفق دواع أيديولوجية، بل وفق أخرى حسابية بحتة، بين دائن ومدين، ويسعى لتسوية لا تروم انقلاباً ولا تجهدُ لتغيير هذا الكون.

حضر تسيبراس الشهر الماضي منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي في روسيا (زيارته الثانية خلال 3 أشهر). كان الرجلُ، في ذلك المنتدى، الزعيم الأوروبي الوحيد، بما يعبّر عن تلويحه بنزوع محتمل باتجاه الشرق. لكن تسيبيراس، على ما يبدو، لم يعد بنتائج تُذكر تردع دائنيه الأوروبيين في علاج أزمة بلاده المالية. بدا أن موسكو الشامتة من أزمة الاتحاد الأوروبي المالية بسبب الملف اليوناني، لا تودُّ التدخل، طالما أن الأشرعة الأوروبية تهتزّ برياح أوروبية ولا ينقصُها نفخٌ روسي.

يبتسمُ فلاديمير بوتين في الكرملين من تصدّعات قد تصيبُ بنيان الاتحاد الأوروبي، فالرجلُ لا يستسيغُ تمددَ الاتحاد باتجاه الحدائق الخلفية لروسيا، كما لا يهضم المواقف الأوروبية المتوترة، والأكثر حدة أحيانا، من تلك الأميركية منذ الأزمة الأوكرانية. لم يقترحْ بوتين على تسيبراس ما يقوي مناعته أمام شروط الدائنين الأوروبيين. وربما في تحفّظ سيّد الكرملين، تعففاً خبيثاً أُريد منه دفع أثينا إلى المضيّ قدماً في خيارات التصادم مع البيت الأوروبي.

رفض اليونانيون خطة الإصلاح التي قدمها الدائنون (صندوق النقد الدولي، البنك المركزي الأوروبي، المفوضية الأوروبية) بنسبة 61.3 بالمئة. داخل الاتحاد الأوروبي من بات يعتبرُ أن “العراك” مع اليونان، هو، بالنهاية، ثمرةُ هيمنة العقلية الألمانية الليبرالية بقيادة أنغيلا ميركل على الديناميات الاقتصادية للاتحاد. يعتبر الخبراءُ أن “لا” اليونانية التي خرجت من صناديق الاستفتاء، هي نكسة نفور أصابت برلين ومستشارتها، حتى غدا “نصر” تسيبراس هزيمة شخصية لميركل.

في البيت الأوروبي، خرج من أظهر شماتةً تنادي بعودة باريس (التي يحكمها الاشتراكيون) للعبِ دورٍ قيادي على رأس الاتحاد، يصالحُ أوروبا الليبرالية مع تلك اليسارية، التي تُشكّل التعبيرات اليونانية أعراض صعودها. يكفي تأملُ تأنّي المسؤولين الأوروبيين في التعليق على الـ”لا” اليونانية والتخفيف من وقعها على أوروبا، كما على مستقبل العلاقة مع أثينا، لاستنتاج أن الدروس اليونانية صارت مقرّرة في الثقافة المالية والاقتصادية للاتحاد، وأن ما بعد “التمرد” اليوناني يختلفُ عما قبله، وأن السابقة اليونانية قد تكون مقدمةً للواحق أخرى داخل جدران الاتحاد (أسبانيا وإيطاليا والبرتغال وأيرلندا تطبق سياسة التقشف).

لا تتحمل اليونان وحدها مسؤوليةَ تفاقمِ حجم ديونها. لأثينا نصيبها من ذلك الإثم بفعل تراخي المعايير ولجوئها منذ عقود إلى الاستدانة من أجل سدّ العجز في ميزانياتها، ثم الاستدانة لدفع مستحقات ديونها في متوالية لا تنتهي. وللمصارف الأوروبية والدولية نصيبها الأكبر من تلك العلّة بفعل تقديمها وفرة مالية دون شروط تذكر، حتى إذا ما أُصيب العالم بنكسة مالية كبرى (2008) واستفاقت المصارف على مدينيها وكبتت منافذ التدفقات، اكتشفت اليونان أنها لا تستطيع سداد مستحقات ديونها طالما أن الوفورات الخارجية باتت مقنّنة مشروطة.

“إذا كنت مدينًا بخمسة آلاف يورو للبنك، فالدين مشكلتك. لكن إذا كنت مدينا للبنك بخمسة مليارات يورو، عندها يصبح الدين مشكلة البنك”. هكذا ببساطة، وقبل عامين من انتخابه، اختصر تسيبراس أزمة ديون بلاده (وصلت إلى 322 مليار يورو). رفضت أثينا “الإرهاب” الذي تمارسٍه أوروبا على حد تعبير وزير المالية اليوناني المستقيل يانيس فاروفاكيس الذي تمقته الأروقة المالية الأوروبية. للمفارقة، استند رئيس الوزراء اليوناني على سوء الأحوال الاقتصادية التي تعيشها بلاده لكي يفاقم المواجهة مع أوروبا. بدا أن لا شيء يخسره، فهو يعرف ما ستعانيه بلاده في حال وافق على شروط التقشف الأوروبية، فقفز برهانه الاستفتائي لعل في ذلك مخرجاً، له ولبلاده (في أوروبا من يعتقد أن تسيبراس ووزير خارجيته تعمدا التفاوض بسلبية لدفع الأمور نحو هذا المآل).

وعد تسيبراس بالاستقالة والرحيل عن الحكم في حال فشل الاستفتاء. لكن الحقيقةَ أنه لم يكن في الأمر مخاطرة حقيقية تهددُ ديمومة موقعه السياسي على رأس الحكومة، أولاً لأسباب تقنية تتعلقُ بمناورته في تنفيذ استفتاء بعد أسبوع من اقتراحه، بما لا يتيحُ نقاشاً أو حملة مضادة، وثانياً لأسباب موضوعية، ذلك أن من صوّت له في الانتخابات الأخيرة، وهو صاحب الخطاب الرافض لإملاءات بروكسل، سيصوّت لما أراده في الاستفتاء، على الرغم من جهل اليونانيين لخريطة ما بعد هذه الـ”لا”. ثم إن الرجل خاض الاستفتاء لأسباب داخلية تتعلق بحسابات بيتية وتناكفه مع المعارضة، فقد كان بإمكان حكومته رفض شروط أوروبا دون اللجوء لاستفتاء.

هل تخرجُ اليونان من منطقة اليورو، وربما من عضوية الاتحاد؟ لا يريد تسيبراس ذلك. لبسَ الرجل، بعد أن نال ما يريد، قناع التواضع وقفازات التسوية، وسارع إلى رفض اعتبار نتائج الاستفتاء انتصاراً على أوروبا. أراد الزعيم اليوناني أن يلوّح بالحدث رسالةً من اليونانيين يعتدُّ بها لفتح مفاوضات جديدة تأخذ بجدية الاعتبارات اليونانية. تخلى رئيس الوزراء اليوناني، بسهولة، عن وزير ماليته الذي صدّع رؤوس نظرائه الأوروبيين تسهيلاً للمفاوضات الجديدة. سقف أثينا القبول بإصلاحات مقدورٌ عليها مقابل جدولة لديون اليونان تحافظ على تدفقات أوروبا المالية. ثمة قناعة في أثينا أن أوروبا لن تتخلى عن اليونان، ليس بالضرورة “كِرْمَى” لعيون اليونانيين، بل لأن البنيان الأوروبي يشبه قصراً من ورق، فإذا ما سقطت ورقة سقط كامل البنيان.

في ما يشبه الرقص على إيقاعات متكاملة، يلعب الثنائي هولاند-ميركل لعبة الشرطي اللطيف والشرطي الشرير. تفرج برلين عن تعنّت إزاء الملف اليوناني، فيما تدّعي باريس الليونة والمرونة في تحري المخارج المواتية. على ذلك ترمي العاصمتان الكرة في الملعب اليوناني وتطلب من أثينا التقدم باقتراحات “جدية دقيقة وذات مصداقية”.

بين تسيبراس وأوروبا علاقة وجود ملتبسة. لم يكن الزعيم اليوناني ليحلم وحزبه “سيريزا” بالوصول إلى الحكم في أثينا بعد 11 عاماً على ولادة الحزب (عام 2004). فكل جهود الحزب الملتفة حول تكتل راديكالي يساري (خارج أي تقليعة) محضته بـ5 بالمئة من مقاعد البرلمان في انتخابات عام 2007. لكن الاستفزاز الأوروبي لليونان واليونانيين هو الذي دفع المقترعين للذهاب نحو يسارية عدائية حمل الحزب بأغلبية للحكم في انتخابات يناير من هذا العام. باختصار لولا أوروبا هذه لما حكم تسيبراس هذا.

تعرف أوروبا أن لتسيبراس بدائل أخرى، سبق لوزير دفاعه بانوس كامينوس أن هدد بها. في تلك التهديدات توجهٌ صوب روسيا. يمتلك البلدان إرثاً تاريخياً أرثوذكسياً بيزنطياً واحداً، كما تحنُّ يسارية “سيريزا” لحكايات الشيوعيين مع موسكو. وإذا ما كانت قبرص ستقدم تسهيلات عسكرية لروسيا في موانئ ومطارات الجزيرة في حالات المهمات الإنسانية أو الطوارئ، فلماذا لا تذهب أثينا إلى خيارات تتيح لروسيا إطلالة داخل دول الاتحاد؟ ثم ماذا لو قررت موسكو تمرير أنبوب غازها، الذي ألغت عبوره في أوكرانيا، في الأراضي التركية وصولاً إلى اليونان، فقد يصبح على الأوروبيين التزوّد بالغاز الروسي من اليونان.

في ذلك السيناريو افتراض خبيث. لكن تسيبراس ليس “مغامراً” ويجيد الحساب بمهارة، وهو إن أجاد، بشعبوية يائسة، اللعب بأوراق وبأعصاب الأوروبيين، فهو مدرك أن اللعبة أكبر من طموحات الحالمين، وأن الحنكة تكمن في قطف ثمار ما نضج، وما نضج فقط.

صحافي وكاتب سياسي لبناني

وسوم: العدد 624