الخلاص من وهم إنهاء الانقسام

لا شك في أن حدوث انقسام فلسطيني يشكل بحد ذاته مشكلة قد تتولّد عنها أزمات وصراعات، وتُستغل من قبل كل من يريد استغلالها. 

ولكن حدوث انقسام فلسطيني ليس بالحدث الجديد، أو الداعي إلى الاندهاش أو الانزعاج. وذلك لأنه مسألة بدهية، ومن طبائع، أو سنن، الثورات والمقاومات، بل ليس هناك من شعب إلاّ وانقسم، بشكل وآخر، وصولا إلى حتى الحرب الأهلية. 

فعلى سبيل المثال، لقد تشكل جيش من ثلاثمائة ألف في فيتنام الجنوبية لمحاربة المقاومة الفيتنامية في الحرب الإمبريالية الأمريكية على فيتنام؟ 

فظاهرة الانقسام ظاهرة طبيعية داخل كل الشعوب والثورات. وهو ما عرفه الشعب الفلسطيني طوال مرحلة نضاله منذ أن ابتلي بالانتداب البريطاني والهجرة الصهيونية إلى اليوم. ولكن الانقسام الذي حدث بين قطاع غزة والضفة الغربية نُظِر إليه نظرة خاطئة، منذ البداية، ومن قبل الكثيرين، فلسطينيا، وعربيا، وإسلاميا، وعلى المستويين الشعبي والرسمي. 

فقد اعتُبِر هذا الانقسام "كارثة" تحلّ بالشعب الفلسطيني، وذلك تحت شعار أن الانقسام ضعف وضياع للقضية، وأن الوحدة بإزالته توصل إلى إخراج "الزير من البير"، أي إنقاذ القضية من "الضياع" أو مواجهة التحديّات. 

ووضع كل من يبكي ولا يتباكى من الانقسام تحت مطرقة الإرهاب، فكيف يمكن لعاقل أو لوطني ألاّ يرى أن الوحدة خير من الانقسام؟ 

هذا الحكم على الانقسام مُررّت من خلاله كل الضربات الخبيثة، كما التبسيطية، أو حتى الطائشة. وذلك حين لم يُصَر إلى تفهمه سياسيا باعتباره انقساما حول الأهداف والاستراتيجية والسياسات وخط الممارسة (التكتيك). 

ولهذا، ظن الكثيرون أن من الممكن معالجته دون التطرق إلى الأهداف والاستراتيجية والخط السياسي وخط الممارسة. 

بل وصلت بعض الحوارات إلى معالجته من خلال الانتخابات الفلسطينية. وذلك دون أن يلحظ أن الانتخابات، وبغض النظر عن نتائجها، لن تؤدي إلى توحيد الموقف الفلسطيني. لأنها لا تزيل ما هو قائم من خلاف، ولنقل، تبسيطا، منذ اتفاق أوسلو إلى اليوم. 

على أن البُعد الذي يتم تجاهله، من بين أبعاد أخرى، يتمثل في أن عمر الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة جاوز اليوم العشر سنوات. 

وتولّد في أثناء ذلك وضعان مختلفان لا يمكن التوفيق بينهما من خلال مُصالحة تؤدي إلى الوحدة إلاّ بغلبة أحدهما على الآخر. فعلى سبيل المثال، ثمة قاعدة مقاومة عسكرية جبارة بأنفاقها وسلاحها ومقاتليها تشكلت في قطاع غزة، وخاضت ثلاث حروب منتصرة ضد العدوان العسكري الصهيوني الذي استهدف القضاء عليها، ونزع سلاحها وتدمير أنفاقها. 

أما في المقابل، فثم سلطة فلسطينية في الضفة الغربية ما زالت مصرّة على استراتيجية "حلّ الدولتين" التصفوي بالتفاوض، وذاهبة إلى أبعد مدى في ضرب أية محاولة مقاومة أو أية حالة انتفاضية، فضلا عن التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال في اعتقال المقاومين والمنتفضين. 

       

أمام هذين الواقعين الموضوعيين، اللذين ترسخا إلى أبعد الحدود، كيف يمكن التوفيق بينهما من خلال مصالحتهما ووحدتهما؟ 

فالسؤال بكلمات أخرى: ماذا يُراد فعله بكلٍ من التنسيق الأمني من جهة، وسلاح المقاومة وأنفاقها من جهة أخرى؟ ماذا يُراد فعلهُ مع إصرار الرئيس محمود عباس على استراتيجيته وسياساته وممارساته، معلنا أن لا مصالحة إلاّ على أساس قرار واحد وسلطة واحدة وسلاح واحد تحت قيادته. 

المتأمّل جيدا في هذين السؤالين، يجد من العبث استمرار الإصرار على ضرورة إنهاء الانقسام من خلال الحوار والمصالحة. 

بل إن استمرار هذا الإصرار أصبح عاملا سلبيا في مواجهة التحديات الحقيقية التي تواجه الشعب الفلسطيني. وذلك حين يضع إنهاء الانقسام على رأس أولوياته. 

ويعدّ ذلك المقدمة الضرورية لمواجهة بقية التحديات. ولعل هذا الاستنتاج الأخير هو ما تؤكده تجربة السنوات العشر الماضية، وتؤكد، بصورة صارخة ما جرى من لقاءات خلال الأسابيع الماضية من جنيف وبيروت وموسكو وأماكن أخرى. فقد كانت المحصلة العودة دائما إلى نقطة الصفر. أي الإصرار على إنهاء الانقسام من خلال الحوار والمصالحة. 

إذا كانت المقولة الرئيسة التي يجب أن يقتنع بها الجميع هي عدم جدوى وضع إنهاء الانقسام على رأس الأولويات أو ربط مواجهة التحديّات الأخرى بإنهاء الانقسام والمصالحة. 

ولعل هذا أقصر طريق لتجنب إعطاء الأولوية للانتفاضة أو لتجاهلها وإحباطها، وإلاّ لماذا لم تُذكَر الانتفاضة في كل هذه اللقاءات؟

إن أهم التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة تتمثل في الاحتلال والاستيطان والتهويد، وما يمكن أن تحمله إدارة ترامب من تحديّات جديدة. ومن ثم يجب أن يتجّه التفكير إلى وضع مشكلة إنهاء الانقسام على الرف، أو تجميد الإلحاح على معالجتها. ومن ثم أن يتجه التفكير إلى مواجهة ما تتعرض له القدس والضفة الغربية من احتلال واستيطان وتهويد. 

فإذا ما اتخذ الحوار الداخلي في ما بين الفصائل الفلسطينية، لا سيما فتح وحماس والجهاد والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وبقية الفصائل على جعل الأهداف التي يمكن الاتفاق عليها هي دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة الغربية، وبلا قيد أو شرط (يتضمن هذان الهدفان إطلاق كل الأسرى وفك حصار قطاع غزة). 

أما استراتيجية تحقيق ذلك، فتتمثل بإنزال الجماهير لإغلاق كل شوارع المدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية. وذلك بإعلان عصيان مدني سلمي لا ينتهي ولو دام شهورا، إلا بفرض الانسحاب وتفكيك المستوطنات، بلا قيد أو شرط. 

وهذه الاستراتيجية من وحي انتفاضة القدس والضفة الغربية التي تواصلت حتى الآن سبعة عشر شهرا، كما من ردود فعل الجماهير العريضة، خصوصا في تشييع جثامين الشهداء، كما هي من وحي تجربة الانتفاضتين الأولى والثانية مطورتين بما ينسجم مع الظروف وموازين القوى الراهنة (لقد زاد العدو ضعفا وعزلة عما كان عليه في الانتفاضتين السابقتين). 

وأن هذه الاستراتيجية لا تتعارض، من جهة، مع أشكال المقاومة التي ولدتها الانتفاضة الراهنة، ولا تتعارض مع الذين يكثرون الحديث عن النضال اللاعنفي أو السلمي ولكن دون فاعلية، ولا سيما خط محمود عباس. 

فنحن هنا أمام سلمية تتسم بالمواجهة الجماهيرية للاحتلال والاستيطان.

باختصار، هذه الاستراتيجية لتحقيق هدفَيْ دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، بلا قيد أو شرط (أي بلا مفاوضات ولا صلح ولا اعتراف) هي التي تردّ على التحديات الراهنة ذات الأولوية: الاحتلال والاستيطان والتهويد (وما تأتي به جعبة دونالد ترامب). 

كما هي التي تنقذ من الغرق في وهم شعار إنهاء الانقسام من خلال الحوار والمصالحة.

وسوم: العدد 707