ترامب ومسرحية التصعيد مع طهران

كيفَ توظّف إدارة (دونالد ترامب) الورقة الإيرانية في الوقت الذي التي تعيثُ إيران خراباً ودماراً في المنطقة ؟

 وهل فعلاً ابتكرت واشنطن إستراتيجية واضحة محددة المعالم لمواجهة إيران ؟ أم أنها كعادتها رسمتْ مقاربة تستطيعُ من خلالها إعادة تدوير سياسات الاعتماد على دبلوماسية الاحتواء والعقوبات الاقتصادية المتدرّجة وغير القادرة فعلياً على إسقاط النظام الإيراني ولا حتى تعديل سياساته، وهي الآلية التي انتهجتها الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ 1979 م، وهو تاريخ انتصار الثورة "الإسلامية " الإيرانية ولغاية اليوم ؟

 وكيفَ توظّف واشنطن موضوع المواقف الغربية، والروسية، والصينية المتناقضة معها حول الموضوع الإيراني وكيفية حلّه، للضحك على ذقون وعقول العرب لاستمرار اللعب بورقة البعبع الإيراني، لتبرير وجودها العسكري في المنطقة، وتسويق صفقات السلاح المهولة التي استنزفت الصناديق السيادية للعالم العربي؛ ولا سيّما الدول الخليجية التي بدأت شعوبها ترزحُ تحتَ سندان الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة، وسندان التوافق مع سياسات دولها للتضحية بكلّ هذا؛ لجهةِ الخلاص من الغول الإيراني ودونَ جدوى ؟

 والسؤالُ الذي يجبُ الإجابة عليه بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ ودونَ مواربة في هذا السياق هل إدارة (( ترامب ))، تريد مواجهة إيران وتحجيم دورها بشكل فعلي ؟.

 أول من أمس فاخرت صحيفة (سياست روز) الإيرانية بأنَّ المشروع الإيراني بات في طريقة إلى الاكتمال بعد المعطيات الميدانية الايجابية، والتي تجلّت من خلال وصول قواتِ الحشد الشعبيّ إلى الحدود العراقية السورية، والاستعداد للانتقال إلى الخطوة القادمة، والعبور إلى الحدود السورية، لافتة إلى أنّها مناطق تشكّل واحات لانتشار التطرف والإرهاب، على اعتبار أنها معاقل تقليدية لداعش وأخواتها، مع الانتباه والحذر من أنَّ إيران والحشد الشعبي يتحسبون للفخ الأميركي، ما دفع الحشد الشعبيّ إلى التراجع، والتريث بشكلٍ سريع ٍ متعللين بأنَّ دورهم يقفُ عند تحرير المواقع وتسليمها للقوات العراقية التي يتحركونَ تحتَ غطائها، بانتظار أخذ قسطٍ من الراحة، والإحماء للمهمة القادمة بعد الانتقال إلى الداخل السوري .

 تقول صحيفة (كيهان) المحافظة : " إنَّ قوات الحشد الشعبيّ المؤمنة لم تكنْ لتعبأ بالتحذيرات الأميركية الأخيرة لولا أنها وجدتْ أنَّ التضاريس والمعطيات على الأرض صعبة ومكلفة، وأنَّ تقدّمها في مناطق مفتوحة ستكونُ خطرةً ومكشوفة، ولنْ يضمنُ لها بالتالي التقدم بسرعة إلى الحدود للسيطرة عليها وتأمين العبور الإيراني السلس من العراق إلى سوريا إلى لبنان، والوصول إلى المتوسط، وهذه ليست أمنية ؛ بل هدف استراتيجي وجيوسياسي إيراني سيتحقق قريباً مهما كلف من تضحيات "

 لتحقيق هذا الهدف ترى طهرانُ أنَّ التحديات التي تواجهها بناء على ما سبق تتضح من خلال :

-التحدّي الكردي:

 الذي ينبغي لإيران الحدّ من تأثيره وفعاليته؛ ممثلاً بقوات البيشمركة التي أعلنت أنها لن تسمح لأي جهة كانت بالنفوذ إلى مواقع نفوذها، إلى جانب الخشية من المواجهة مع قوات سوريا الديمقراطية، التي أعلنت على لسان قياداتها أنها لن تسمح لأي قوات بالدخول ضمن مناطق سيطرتها، بالمقابل قناعة طهران بضرورة التنسيق مع قوات العمال الكوردستاني PKK (وحدات حماية شنكال)، مع استبعاد إيران لفكرة أنْ يتوقف الحشد الشعبيّ عن أداء مهمته الإلهية، ودوره كأداة فعّالة هدفها تحقيق مصالح إيران على الصعيد الخارجي بحيث باتت حقيقة ثابتة، وغير قابلة للتراجع، من هنا ترى إيران ضرورة دعم قوات الحشد الشعبيّ، وتطوير قدراته بشكل عاجل، للوصول إلى العتبات المقدسة في سوريا.

-التحدي الديموغرافي " السني " :

 لا شك بأن إنشاء طهران الممر “كلودور" يصطدم بوجود كتلة عشائر سنية "عراقية، وسورية"، حيثُ تبدي خشيتها من استغلال الدول العربية والغربية لهذه الورقة لتضيق الخناق على إيران والمليشيات التي تدعمها؛ وفي مقدمتها الحشد الشعبي العراقي، إلى جانب تصاعد وتيرة الاستياء الشعبي في هذه المناطق، مما يشكل بيئة تكوينية داعمة للتطرّف، الأمر الذي سيزيدُ من مستوى المواجهة وحدتها، مما يعيقُ تقدم المشروع الإيراني بسهولة ويسر .

الترويج لتحدي المواجهة مع أميركا :

 دعا الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) الدول العربية " السنية " ؛ ولا سيّما دول مجلس التعاون الخليجي إلى تبنى استراتيجية إقليمية كبرى لعزل إيران، المثير في الاعلان كيفَ ستقومُ هذه الدول بمفردها القيام بهذا الدور مع عدم جدية واشنطن في عملية الانخراط بشكل مباشر لمواجهة طهران، المفارقة أن هذه الإدارة قامتْ بعقد صفقات معَ إيران بقيمة / 22 / مليار دولار شملت طائرات بوينغ، إلى جانب صفقات تجارية ستوفر / 18 / ألف فرصة عمل، في الوقت الذي يكرّر فيه الرئيس (ترامب) بأن الاتفاق النووي مع إيران أسوأ صفقة على الاطلاق، بعد أن تعهد في السابق بتمزيق هذا الاتفاق .

 الإشكاليّة عندَ الادارة الأميركية الحالية تخشى من الانسحاب من الاتفاق النوويّ خشية من أن تقتنص الدول الأوروبية ومعها روسيا والصين ذلك، بالتالي سيكون لشركاتها الحظ الأوفر في توقيع عقود تجارية ضخمة مع إيران، وحسب الفهم الأميركي فإن الشركات الأميركية سيتم استبعادها بسبب الخروج من هذا الاتفاق، أما الإشكالية الثانية فإنَّ العقوبات التي يفرضها الكونغرس، ويصادق عليها الرئيس، ستدفعُ الشركات الأميركية إلى مغادرة إيران، وهذه الورقة توظّفها طهران لكبح جماح إدارة (ترامب) التي تحولت علاقاتها الخارجية إلى علاقات بيزنس لا غير .

 بعدَ كلّ هذا فإنَّ السؤالَ المحوريّ الذي يجبُ الإجابة عليه ؛ كيف ينسجم ما يطالب به (ترامب) لعزل إيران مع السلوك الأمريكي المتناقض ؟ ترى طهران أنه في الوقت الذي تعتقد فيه أن الرئيس الأمريكي يروّج لسياسة إيران فوبيا، فإنه يسعى من خلال ذلك إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، أهمها إبرام صفقات أسلحة ضخمة مع الدول الخليجية، إلى جانب خلق الذرائع والمبررات لتعزيز وجودها العسكري والاستراتيجي للهيمنة على ثروات المنطقة، ومصادرة ارادة شعوبها؛ وتخلص إلى نتيجة مفادها أنه ليس بوسع أميركا تحمّل تكاليف مواجهة إيران .

حقيقة موقف ترامب من إيران :

 المفترض من الدول العربية -حسب رؤية ترامب – أن تنشغل الدول العربية بإيران والعكس، أمّا تدخّل واشنطن فسيكونُ عبرَ مواجهاتٍ محدودةٍ مع إيران لثنيها عن الخروج عن الدور المرسوم لها، إلى جانب السماح لها باستخدام قوتها الناعمة والخشنة واللعب بالورقة المذهبيّة من خلال مداخل الأزمات الإقليمية بعيداً عن مصالح أميركا وأمن إسرائيل، ولا مانع من توظيف الصراع المذهبي " السني الشيعي " لاستنزاف طاقات المنطقة ومقدرات شعوبها إلى ما لا نهاية، إذا ما أرادَ العالمُ السنيُّ ذلك، كما تفعلُ إيرانُ .

 حدثت ثلاثةُ تطورات مهمة في الفترة الأخيرة، على صعيد مسار الصراع الإقليمي المحموم :

-أوله : وصول الرئيس (روحاني) المحسوب على جناح الإصلاحيين ضمناً، لمرحلة رئاسية ثانية، بعدَ مسرحيّة سباق الانتخابات الرئاسية في إيران، أعقبه تعيين قيادات عسكرية وأمنية متشددة ، استجابة لمتطلبات المرحلة القادمة .

- التطور الثاني : صعود نجم وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي تعهد بوقف المشروع الإيراني بعد التزام أميركي "غير محدد الملامح" بدعم تشكيل تكتل سني بقيادة الرياض لمواجهة إيران، في الوقت الذي يعيش فيه (ترامب) مرحلة عصيبة داخليًّا؛ خاصةً على الصعيد الاقتصادي، مما يتطلّبُ منهُ إعادة تدوير عجلة الصناعات العسكرية، لتسويق بيع السلاح، وهذا لن يتأتى إلا من خلال تأجيج مستوى وحجم الصراعات الإقليمية على مقياس متعدد الدرجات، فكانتْ أولُ جولةٍ خارجيةٍ له من السعودية، ليعقد فيها صفقة القرن، ومن هناك وجه رسالة تحذير لإيران على لسان القادة المجتمعين .

أما التطور الثالث : فهو الاقتراب من مرحلة دفن تنظيم داعش في الرمال العراقية والسورية بعد انتهاء مهمته .

 هذه التطورات بمجلها ستهيئ الأرضية للانتقال إلى الخطوة التالية، وفتح أبواب جهنم على المنطقة .

 القناعة السائدة في العالم العربي هي أن إدارة ترامب ستسرع من نهاية المشروع الإيراني، وهذا الأمر ضمناً هو ضد المصالح الأميركية تماماً التي يعيش اقتصادها أوقاتًا عصيبة، وبحاجة إلى عملية إنعاش مستمرة ودائمة، فلجأ فعلياً إلى عقوبات ديكورية لم تمس صميم الاقتصاد الإيراني ، ولم تسهم في شل قدرات الدولة والثورة هناك ، بل جلبت نتائج عكسية ، فالعقوبات المفروضة لم تؤدي إلى تغيير بارز في السياسات الإيرانية العدوانية ؛ بل زادته صلفاً وجرأته للتدخل في أزمات المنطقة ونشر الخراب والفوضى .

 وفي هذه الحالة فإنَّ وعود ترامب لم تلحق الضررَ الكبيرَ بإيران، بل قدّمت فرصًا جديدة للتواصل الاقتصادي والتجاري المباشر مع إيران من ناحية ، . والتدرّج في التهام كعكة الصناديق السيادية الخليجية بذريعة مواجهة إيران .

 أمّا السعودية ودول التحالف السني، فهي لغاية الآنَ لم تستطع بناء إستراتيجية دفاعية وأمنية ذات اكتفاء ذاتي، لمواجهة إيران والانتصار عليها، على أمل أن تنتظر من الولايات المتحدة حملات تغير قواعد اللعبة ضد طهران ، وبشكل يضمن انحسار الدور الإيراني، وانكفاءه للداخل .

 إيران واحدة من أبرز التحديات الرهيبة التي تواجه العالم العربي، المضحك أن هناك توافق وإجماع عربي – أمريكي – وحتى إسرائيلي تامّ، ومعلنٌ حولَ هذا الخطر، وتكادُ النظرةُ الأمريكية الحالية تتوافق إلى حدٍّ كبيرٍ مع النظرة الخليجية؛ الداعم الرئيس لعجلة الاقتصاد الأميركي. ومع ذلك فليس من الواضح ما تريد الولايات المتحدة فعله أو ستفعله لمواجهة المشروع الإيراني.

 ومن جهة أخرى فإن واشنطن تبدو سعيدة جدًّا بالفرص الناجمة عن إطلاق صفارة البداية لحرب عربية – إيرانية؛ أو تفجير صراع سنيّ- شيعيّ على نطاق واسع .

 لا شكَّ بأنَّ الرهانَ الكليّ عن وجود تعهّد أمريكيّ مباشر في مكافحة المدّ الإيرانيَّ نيابةً عن العالم العربيّ خطأ إستراتيجي كبير، من المؤكّد أنّ واشنطن ستكون معنية بالدفع نحو مواجهة عربية مع إيران مع توفير وسائل دعم عسكري ولوجستي واستخباري، سيواكبه حالة تنافس غربي وشرقي لإغراق المنطقة بصفقات السلاح، ولا سيّما وأنها تراقب عن كثبٍ استمرارَ استنزاف السعودية ومن ورائها في الحرب اليمنية، على الرغم من استطاعة واشنطن حسم الحرب هناك خلالَ أسبوعٍ واحدٍ، ولكنْ من المؤكّد أنَّه لا مصلحة لها ولا لبريطانيا، ولا فرنسا، ولا لروسيا ..... من الحسم سريعاً لأسباب اقتصادية ومالية، وكذلك الأمرُ سيكونُ بالنسبة للمشكلة الإيرانية .

د. نبيل العتوم

رئيس وحدة الدراسات الإيرانية

مركز أميه للبحوث والدراسات الإستراتيجية

وسوم: العدد 737