بعد إضعاف العائلة والتيار الديني علام يعوّل بن سلمان؟

«الانقلاب على الذات» ربما يكون هو الوصف الأقرب للإجراءات التي قام بها ولي العهد السعودي مؤخرا، ذلك لأنها حملت عاصفة زعزعت هيكل النظام ودعاماته التي قام عليها منذ نشأة المملكة، والمتمثلة في: العائلة، والتيار الديني السلفي الذي يروق للبعض تسميته بالوهابية.

كانت دعوة تجديدية تزعمها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تنزع للرجوع إلى الإسلام في نسخته الأولى، رعاها محمد بن سعود بسيفه، فصارت دولة تتعاقب عليها فصول الأفول والإشراق، حتى وصلت إلى شكلها الأخير الذي صاغه الملك الراحل عبد العزيز آل سعود لدى تأسيسه المملكة التي ورثت كيانات تاريخية مختلفة، فكان المُلك المتوارث بين أبناء الملك، يوازيه تيار ديني ذو شقين، شق رسمي حكومي تمثّل في عائلة آل الشيخ التي تموقعت في منظومة الحكم بانتسابها إلى الشيخ المُجدد صاحب الدعوة، وشق منهجي صبغ الحياة العامة في المملكة، ومثّل الاتجاه الأوسع انتشارا فيها، حيث يغلِب على السعوديين تأثّرهم بمنهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والذي هو في أصله ليس منهجا جديدا، وإنما دعوة تجديدية لإحياء ما اندثر من التصورات والعقائد والقيم والسلوكيات.

وحتى التيارات الدينية الأخرى كتيار الصحوة والإخوان والتبليغ، هي في أصلها تيارات لها الأصول نفسها، لكن طرأ عليها بعض أو كثير من التغيير في أساليب وآليات الدعوة، واتجه بعضها إلى الشكل التنظيمي.

وأما العائلة التي انحصر فيها المُلْك، فكانت رغم اختلاف أبنائها، قد منحت النظامَ السعودي هيبة وقوة، نظرا لأن النظام اعتمد منذ النشأة على تولية أبناء العائلة مفاصل الدولة ومواقعها الحساسة، ومن جهة أخرى تكدست معظم رؤوس الأموال في يد أبنائها، الذين مثّلوا دعامة اقتصادية كبرى في المملكة.

إذن فقد اعتمد النظام السعودي في العهود المختلفة على قوة وسلطة العائلة التي يقبلها النظام القبلي، وقوة السلطة الدينية المتمثلة في التيار السلفي – المنسوب إلى الشيخ ابن عبد الوهاب – الداعم للسلطة السياسية، إلى أن جاء عهد الملك سلمان، ليجد نفسه أمام منعطف انتقال السلطة من جيل الأبناء إلى جيل الأحفاد، فتولى محمد بن نايف ولاية العهد، وعُيِّن ابن عمه محمد بن سلمان وليا لولي العهد.

إلى هنا يختفي السياق الطبيعي التقليدي، وتبزغ إرهاصات نظام سعودي جديد يجمع ركائز السلطة في يد الرجل الواحد، وهو ولي العهد الجديد الذي حل مكان ابن نايف، واتخذ حُزمة من القرارات التي وُصفت أحيانا بالجرأة، وبالتهور أحيانا أخرى، من شأنها القضاء على نفوذ بقية أجنحة العائلة أو إضعافها على أقل تقدير، وكذلك الحال نحو التيار الديني السلفي الذي قامت عليه المملكة.

اعتقال جماعي لعدد كبير من الأمراء والوزراء ورموز الاقتصاد بتهم الفساد وتجميد ممتلكاتهم، إعفاء لعدة شخصيات هامة من مناصب حساسة في المملكة، كانت أبرز إجراءات ولي العهد لإضعاف سلطة العائلة، سبقتها إجراءات أخرى قوّضت السلطة الدينية، منها تحجيم وتهميش دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوقيف واعتقال عدد من العلماء والدعاة الذين ينتمون إلى التيار السلفي التقليدي وتيار الصحوة، والقفز على فتاوى فقهية تمسك بها كبار العلماء دهرا ونافحوا عنها كمسائل قيادة المرأة السيارة والموسيقى والغناء ونحوه، إضافة إلى الاتهام الضمني في تصريحات ولي العهد أن السعودية لم تكن تتبع الإسلام الوسطي منذ نهاية السبعينيات، وما حملته من مخاوف حول نية العودة للوسطية والقضاء على التطرف دون وضع محددات لتعريف التطرف ولا للصورة التي تترجم الوسطية.

ونظرا لاستبعاد تحوّل النظام السعودي إلى أحد النظم السياسية العصرية، فإننا بصدد دولة جديدة يكون رأسها محمد بن سلمان الذي اعتلى العرش بصورة غير رسمية، تشبه إلى حد بعيد الحالة الإماراتية التي يتصدر فيها ولي العهد محمد بن زايد المشهد، في ظل غياب أو تغييب الحاكم الرسمي خليفة بن زايد.

ولا تخلو الإجراءات من خطورة مُحتملة على الصعيدين، فأما إضعاف السلطة الدينية فإنه يسلب المملكة التوازن المطلوب الذي يكفله وجود تيار ديني قوي موازٍ للتيارات الأخرى – ليبرالية كانت أو علمانية أو صوفية – يتناغم مع المكانة الدينية للسعودية باعتبارها حاضنة المقدسات الإسلامية وراعية الحرمين الشريفين، وهو من شأنه تغيير الشكل العام من الالتزام الديني الذي ميّز المملكة عن سائر الدول الأخرى، ويفتح الباب على مصراعيه أمام قوى داخلية تُنفّذ أجندات إقليمية ودولية، إضافة إلى تآكل مكانة المملكة الدينية في العالم الإسلامي.

كما أن إضعاف هذه السلطة الدينية من شأنه أن يفتح الباب أمام مزيد من التطرف ودفع الشباب باتجاه التنظيمات الإرهابية.

وأما إضعاف العائلة أو إنهاء نفوذها فإنه يجعل ولي العهد أمام ردود داخلية مُحتملة، لأن أجنحتها الأخرى لا يُتصور لها أن تغضَّ الطرف وتراقب المشهد بلا حراك رغم قسوة الإجراءات التي لا شك أنها أضعفتها ولم تخمدها، فجيل الأحفاد الذي تلقى هذه الصدمة ربما يخلق كيانا موازيا يهدد سلطة محمد بن سلمان.

كما أن ولي العهد ربما يجد نفسه أمام مخاوف مُحتملة من تذمّر الرتب العليا في المؤسسات العسكرية والأمنية التي أطاح بقادتها، والتي كانت على رأس هذه الأجهزة لعقود كفيلة بضمان الانتماء إليها.

ومن جهة أخرى فإن الإجراءات التي اتخذها ولي العهد بحق الرموز والمؤسسات الاقتصادية البارزة، وتجميد الأرصدة، لا شك أنها ستؤدي إلى تهريب الأموال إلى الخارج، أو الإسراع في تحويل الريال السعودي إلى دولار، وهو ما يعرض الريال للخطر، كما يؤدي إلى فقدان الثقة في الاستثمارات داخل المملكة.

إضافة إلى ما سبق فإن هذه الإجراءات تسوّد الملفات الحقوقية السعودية، بعد أن افتقدت في معظمها إلى شكل قانوني من حيث الوسيلة والغاية.

السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: من أين ستستمد السلطة السعودية قوتها بعد إضعاف العائلة والتيار الديني؟ وعلام يعول ولي العهد بعد إسقاطه دعامتي العرش؟

بالنظر إلى سياق التقارب السعودي مع الولايات المتحدة، فإن ولي العهد يرى في ترامب ركنا يأوي إليه في دفع الخطر الإيراني من ناحية، ومن ناحية أخرى يحظى بتأييده في الإجراءات الداخلية، وهو ما ظهر في الترحيب الأمريكي والدولي بهذه الإجراءات وتجاهل هذه الأطراف الخوض في مـــدى شرعية المجازر السياسية الحادثة.

محمد بن سلمان يعوّل على التقارب مع أمريكا من خلال الدفع ببلاده تجاه التناغم مع التوجّهات الغربية والمجتمع الدولي، وحسْم جميع الملفات العالقة التي تشكل فجوة في العلاقات مع تلك الأطراف، خاصة في إعادة تعريف الإسلام الوسطي على النحو الذي يتوافق مع مخرجات تقارير المراكز البحثية الأمريكية مثل مؤسسة «راند» في تصنيف العالم الإسلامي وتعميم نموذج إسلامي ينسجم مع التوجهات الأمريكية.

ومن هذه الملفات قضية الصراع العربي الإسرائيلي الذي يتمحور حول القضية الفلسطينية، حيث باتت إرهاصات التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني لا تخطئه أعين، فيما يتم محاصرة القوى الداعمة للقضية الفلسطينية.

يشدّ من أزره في ذلك التقارب، تحالفُه مع محمد بن زايد ولي عهد الإمارات، حيث كشف سياق الأحداث تأثره بنظيره الإماراتي، الأكثر انفتاحا على أمريكا والحياة الغربية، ورائد النموذج الأمريكي المنشود في المنطقة.

ولا شك أن هذا الاستقواء غير مطمئن في ظل التقلبات السياسية الدولية، فالسياسة لا تعرف صديقا للأبد، ولا عدوا للأبد، والتباين الشديد بين عهديْ أوباما وترامب تجاه العلاقات مع السعودية وإيران خير مثال، فماذا سيفعل ولي العهد إذا ما تنكرت له الإدارة الأمريكية بعد خسارته للعائلة والتيار الديني؟

الأمر الآخر الذي يُعوّل عليه محمد بن سلمان، تلك الطموحات الاقتصادية الهائلة التي يرى أنها ستعيد صياغة السعودية اقتصاديا، بل واجتماعيا، من خلال رؤية 2030 والتي ابتدأها الأمير بالتدشين لمشروع المدينة العالمية العملاقة «نيوم» التي يسعى من خلالها لإحداث نقلة اقتصادية بعيدة.

يُعوّل محمد بن سلمان على الطفرات الاقتصادية المتوقعة، إلا أن كثيرا من الخبراء يؤكدون على فشل هذه المشروعات قبل بدايتها، لأنها تفتقر إلى الرؤية، كما أن هذه المشاريع تفوق الإمكانات البشرية والعلمية للمملكة، والتي تعاني من نقص المهارات والقدرات الإبداعية التي تحتاجها قطاعات التكنولوجيا والتصنيع المتقدم.

توجهات ولي العهد السعودي تضع السعودية على مفترق طرق، ربما تكون هذه الفترة هي أخطر المراحل التي تمر بها المملكة على الإطلاق، فلقد أصبحت أمام سيناريوهات مفتوحة، ينذر كل منها بتغيير في الخريطة السياسية في المنطقة.

وسوم: العدد 746