من الأدب الرفيع العفيف

من الأدب الرفيع العفيف

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

يروى عن عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم أنّ امرأة دعته إلى نفسها وبذلت له مالا وكانت تتكهن أن يكون النبي منه ، وكانت جميلة ، فأرادت أن يدخل بها عبد الله رجاء أن يكون النبي منها ،للنور الذي رأته بين عينيه فأبى وقال:-

( أما الحرام فالحِمام دونه ... والحل لا نأبى ونستدينه )..

( فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريمُ عرضه ودينه )..

فلما تزوج بآمنة ورأى المرأة قالت له : ذهب النور الذي كان فيك

دخلت بثينة على عبد الملك بن مروان فقال لها يا بثينة ما أرى فيكِ شيئا مما كان يقوله جميل- وهو جميل بن معمر الذي عُرف بـ( جميل بثينة)- فقالت يا أمير المؤمنين إنه كان يرنو إلي بعينين ليستا في رأسك .قال فكيف رأيتِه في عشقه ؟ قالت كان كما قال الشاعر

) لا والذي تسجد الجباه له ... مالي بما تحت ذيلها خبر)

)ولا بفيها ولا هممت بها ... ما كان إلا الحديث والنظر)..

وعن أبي سهل الساعدي قال دخلت على جميل وبوجهه آثارُ الموت .فقال لي يا أبا سهل إن رجلا يلقى الله ولم يسفك دما ولم يشرب خمرا ولم يأت فاحشة أفترجو له الجنة ؟ قلت أي والله فمن هو ؟ قال إني لأرجو أن أكون ذلك . فذكرت له بثينة فقال إني لفي آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة لا نالتني شفاعة محمد إن كنت حدثتُ نفسي بريبة قط..

ويُروى أن رجلاً راود ليلى الأخيلية عن نفسها فأبتْ وقالت:-

( وذي حاجة قلنا له لا تبُح بها ... فليس إليها ما حييتَ سبيل )..

( لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل )..

وقال آخر

( وأحورَ مخضوبِ البنان محجّبٍ ... دعاني فلم أعرف إلى ما دعا وجها )..

( بخلت بنفسي عن مقام يشينها ... ولست مريدا ذاك طوعا ولا كرها )..

واختفى إبراهيم بن المهدي في هربه من المأمون عند عمته زينب بنت أبي جعفر فوكلت بخدمته جارية لها اسمها ملك وقد قلّ مثيلها في الحسن والأدب – دُفع فيها خمسون الف درهم فأبتْ أن تبيعها، فهويها إبراهيم وكره أن يراودها عن نفسها . فغنى يوما وهي قائمة على رأسه

( يا غزالاً لي إليه ... شافع من مقلتيه )..

( أنا ضيفٌ وجزاءُ الضيفِ ... إحسانٌ إليه )..

ففهمت الجارية ما أراد فأخبرت مولاتها. فقالت إذهبي إليه فاعلميه أني وهبتك له فعادت إليه فلما رآها أعاد البيتين،  فرمت نفسها عليه . فقال لها كفى، فلست بخائن . فقالت قد وهبتني لك مولاتي وأنا الرسولُ .فقال أما الآن فنعم.. (وأعتقد أن القصة لا أساس لها من الصحة ولكنْ !!!..)

وأنشد المبرد:-

( ما إن دعاني الهوى لفاحشة ... إلا نهاني الحياءُ والكرم )..

( فلا إلى فاحش مددت يدي ... ولا مشت بي لزلة قدم )..

وقال آخر:-.. (وما يقوله الشعراء غواية .. بنص القرآن)

( يقولون لا تنظر فذاك بلية ... بلى كل ذي عينين لا بد ناظر )..

( وهل باكتحال العين بالعين ريبةٌ ... إذا عف فيما بينهن السرائر )..

 

وقال آخر:-

( حور حرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدُهن حرام )..

( يُحسَبن من لين الكلام فواسقا ... ويصدُّهن عن الخنى الإسلامُ )..

وكان الأصمعي يستحسن بيتي العباس بن الأحنف حين قال :-

( أتأذنون لصب في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر )..

( لا يُظهِرُ الشوق إن طال الجلوس به ... عفُّ الضمير ولكن فاسقُ النظر )..

وكان بعض الأمراء قد نذر على نفسه أن لا ينشد شعرا ، فإن فعل فعليه عتق رقبة.  قال فبينما هو في الطواف يوما إذ نظر إلى شاب يتحدث مع شابة جميلة الوجه فقال له يا هذا اتق الله أفي مثل هذا المكان ؟ فقال يا عمّاه والله ما ذاك لخنى ولكنها ابنة عمي وأعز الناس عليّ ،وإن أباها منعَنيها لفقري وفاقتي ،وطلب مني مائة ناقة ومائة أوقية من الذهب ولم أقدر من ذلك. قال فطلب الأميرُ أباها ودفع إليه ما اشترطه على ابن أخيه ولم يقم من مقامه حتى عقد له عليها ثم دخل الأميرُ إلى بيته وهو يترنم ببيت من الشعر فقالت له جارية من حظاياه : أراك اليوم يا مولاي تنشد الشعر، أفنسيت ما نذرت ،أم نراك قد هويت ؟.فأنشد هذه الأبيات يقول:-

( تقول وليدتي لما رأتني ... طربت وكنت قد أسليت حينا )..

( أراك اليوم قد أحدثت عهدا ... وأورثك الهوى داء دفينا )..

( بحقك هل سمعت لها حديثا ... فشاقك أو رأيت لها جبينا )..

( فقلت شكا إليَّ أخٌ محب ... كمثل زماننا إذ تعلمينا )..

( وذو الشجو القديم وإن تعزى ... محبٌّ حين يلقى العاشقينا )..

ثم عدّ الأبيات فإذا هي خمسة أبيات فاعتق خمس رقاب ثم قال لله درك من خمسة أعتقت خمساً وجمعت بين رأسين في الحلال..