مدح الكتاب

من كتاب الحيوان للجاحظ

نقله بتصرف: د.عثمان قدري مكانسي

- نعم الذخر والعُقدة هو، ونعم الجليس والعُدَّة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس لساعة الوحدة، ونعم المعرفةُ ببلاد الغربة ونعم القرين والدخِيل، ونعم الوزير والنزيل،

- والكتاب وعاءٌ مُلِئَ علماً، وَظَرْفٌ حُشِي ظَرْفاً، وإناءٌ شُحِن مُزَاحاً وجِدّاً؛ إِنْ شئتَ كان أبيَنَ من سَحْبانِ وائل، وإن شئت كان أعيا من باقِل، وإن شئتَ ضَحِكْتَ مِنْ نوادِرِهِ، وإن شئتَ عَجِبتَ من غرائبِ فرائِده، وإن شئتَ ألهتْك طرائفُه، وإن شئتَ أشجَتْك مواعِظُه، وَمَنْ لَكَ بِوَاعِظٍ مُلْهٍ، وبزاجرٍ مُغرٍ، وبناسكٍ فاتِك، وبناطقٍ أخرسَ، وبباردِ حارّ،

-- ومَنْ لكَ بطبيب أَعرابيّ، وَمَنْ لَكَ برُوميٍّ هِنْدِيّ، وبفارسي يُونَانيّ، وبقَدِيمٍ مولَّد، وبميِّتٍ ممتَّع، وَمَنْ لَكَ بشيءٍ يَجْمَعُ لَكَ الأَوَّلَ والآخِر، والناقص والوافر، والخفيَّ والظاهر، والشاهدََ والغائبَ، والرفيعَ والوضيع، والغَثَّ والسمين، والشِّكْلَ وخِلافَه، والجِنسَ وضدَّه.
- وبعد: فمتى رأيتَ بستاناً يُحمَل في رُدْن، ورَوضةً تُقَلُّ في حِجْرٍ، وناطقاً ينطِق عن الموتَى، ويُترجمُ عن الأحياء وَمَنْ لك بمؤنس لا ينام إلاّ بنومِك، ولا ينطق إلاّ بما تهوَى؛ آمَنُ مِنَ الأرض، وأكتمُ للسرِّ من صاحب السرِّ، وأحفَظُ للوديعةِ من أرباب الوديعة، وأحفَظ لما استُحْفِظَ من الآدميِّين، ومن الأعْرَابِ المعرِبين،

وقد قالَ ذو الرُّمَّةِ لعيسى بن عمر: اكتبْ شِعري؛ فالكتابُ أحبُّ إليَّ من الحفظ، لأنّ الأعرابيَّ ينسى الكلمةَ وقد سهر في طلبها ليلَته، فيضَعُ في موضعها كلمةً في وزنها، ثم يُنشِدها الناسَ، والكتاب لا يَنْسَى ولا يُبدِّلُ كلاماً بكلام.
-  ولا أعلَمُ جاراً أبرَّ، ولا خَليطاً أنصفَ، ولا رفيقاً أطوعَ، ولا معلِّماً أخضعَ، ولا صاحباً أظهرَ كفايةً، ولا أقلَّ جِنَايَةً، ولا أقلَّ إمْلالاً وإبراماً، ولا أحفَلَ أخلاقاً، ولا أقلَّ خِلافاً وإجراماً، ولا أقلَّ غِيبةً، ولا أبعدَ من عَضِيهة، ولا أكثرَ أعجوبةً وتصرُّفاً، ولا أقلَّ تصلُّفاً وتكلُّفاً، ولا أبعَدَ مِن مِراءٍ، ولا أتْرَك لشَغَب، ولا أزهَدَ في جدالٍ، ولا أكفَّ عن قتالٍ، من كتاب،

ولا أعلَمُ قريناً أحسنَ موَافاةً، ولا أعجَل مكافأة، ولا أحضَرَ مَعُونةً، ولا أخفَّ مؤونة، ولا شجرةً أطولَ عمراً، ولا أجمعَ أمراً، ولا أطيَبَ ثمرةً، ولا أقرَبَ مُجتَنى، ولا أسرَعَ إدراكاً، ولا أوجَدَ في كلّ إبَّانٍ، من كتاب،

ولا أعلَمُ نِتاجاً في حَدَاثةِ سنِّه وقُرْب ميلادِه، ورُخْص ثمنه، وإمكانِ وُجوده، يجمَعُ من التدابيرِ العجيبَة والعلومِ الغريبة، ومن آثارِ العقولِ الصحيحة، ومحمودِ الأذهانِ اللطيفة، ومِنَ الحِكَم الرفيعة، والمذاهب القوِيمة، والتجارِبِ الحكيمة، ومِنَ الإخبارِ عن القرون الماضية، والبلادِ المتنازِحة، والأمثالِ السائرة، والأمم البائدة، ما يجمَعُ لك الكتابُ،

قال اللّه عزّ وجلّ لنبيّه عليه الصلاة والسلام (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) فَوَصَفَ نَفْسَهُ، تبارك وتعالى، بأنْ علَّمَ بالقَلم، كما وصف نفسَه بالكرَم، واعتدَّ بذلك في نِعَمه العِظام، وفي أيادِيه الجِسام، وقد قالوا: القَلَمُ أحدُ اللسانَين، وقالوا: كلُّ مَنْ عَرَف النِّعمةَ في بَيان اللسانِ، كان بفضل النِّعمة في بيانِ القلم أعرَف ، ثمَّ جَعَلَ هذا الأمرَ قرآناً، ثمَّ جعلَه في أوَّل التنزيل ومستَفْتَح الكتاب.

-والكتابُ هو الذي يؤدِّي إلى الناس كتبَ الدين، وحسابَ الدواوين مع خفَّة نقلِه، وصِغَر حجمه؛ صامتٌ ما أسكتَّه، وبليغ ما استنطقته، ومَن لك بمسامر لا يبتديك في حالِ شُغْلك، ويدعُوك في أوقاتِ نشاطِك، ولا يُحوِجك إلى التجمُّل له والتذمُّم منه، ومَن لكَ بزائرٍ إن شئتَ جعل زيارتَه غِبّاً، وورُوده خِمْساً، وإن شئت لَزِمَك لزومَ ظلِّك، وكان منك مكانَ بعضِك.