عمر بن الخطاب وأمُّ البنين

شعر: جورجي نخلة سعد

لدَى عمرٍ أميـر  المؤمنيـنا     قِفوا بي وقفةَ  المتهيّبينـا

مليكٌ ذو مـآثـر  باسـقاتٍ     يُقصّرُ عن مداها السابقونا

خوالدَ ما عفتْ قِدْماً  ولكـن     يُعطّر نشرُ ذكراها القرونا

ولم يكُ صَولجانُ الملك يوماً     ليمنعَه العُفاةَ  البائسيـنـا

فكانوا يقبلون عـلى حِمـاهُ     كأسراب الظباء رأتْ مَعينا

وكان بنفسه بعضَ  الليالـي     يدور على المنازل مستبينا

فمن يُمدَح لمكرُمـةٍ  فإنـي     نظمتُ بمدحه عقداً ثمينـا

وهاكم ما روى العباسُ عنه      أراه بانتباهِكـمُ  قَـمينـا

يُمثِّلُ صورةً للبـؤس فيـنا      ويُملي عِبـرةً للحاكميـنا

      

يقول: لقد دعاني المَلْكُ وَهنـاً   فكنتُ له بجولتـه خَـديـنا

أفـزَّته محبَّـتُـه لشـعـب    يعزُّ عليه يوماً أن يهـونـا

سـرى متنـكراً والليلُ قـرٌّ    إلى الأثلاتِ يفتقدُ الشـئونـا

يطوّف في الخيام عسـاه يلقى   بمنزوياتها رهـطـاً حزيـنا

فمرَّ هنـاك بامـرأةٍ عجـوز   حواليها صغارٌ  يُعـْوِلـونـا

وقِدْرٍ أركزتْـه علـى أثـافٍ   غلى عبثاً لتعـليـلِ  البنيـنا

تقول –ودأبُها التنفيخ- صبراً     بَنيَّ ، سـتأكلون  وتشبعونـا

فظلَّ المَلكُ يُمعن ناظـرَيـه     بها حينـاً وبالأولاد  حيـنـا

وطال وقوفُه في الحيّ حـتى    توجَّس أن يُريب به  الظنونـا

يميناً ليس يبغي البـينَ حـتى    يرى الأولاد قد مَلأوا البطونا

وما زالوا كذلك بضعَ  سـاعٍ     تُنفّخ في الوقود ويصـرخونا

فَعيلَ تَصـبراً، ودنا إليـهـا     وحيّا قائـلاً: ما تصنيـعنا ؟

وما لبنيكِ ينتحبون ؟ قالـت:     جياعٌ! قال : لمْ لا يأكلونـا ؟

أجابتْ – والمحاجرُ دامعاتٌ -    أأُطعمُ صبيتي الماءَ السخينا؟

فما في القِدْر غيرُ حصىً وماءٍ    أحاول أنهـم  يتعـلّلـونـا

لعلهمُ مـتى مـلّوا انتظـاري    وساورَهم نعاسٌ  يهجـعونـا

فقال لها: لقد أخطـأتِ رأيـاً     وأورثتِ الصغارَ ضنىً وهُونا

فلِمْ لَم تعرضي شكواك يومـاً    على عمرٍ أميـرِ المؤمنيـنا ؟

إذن لكفاكِ مُرَّ العيـش مـما     يجود، ولم يمنْ عمرٌ ضنينا

فقالت: لا سقتْ عمرَ الغَوادي     ونُكّـسَ بندهُ في العالميـنا

لقد سمحتْ بظلمي مُـقلتـاه     وتحميلي الخصاصةَ والأنينا!

فراعَ فـؤادَه ما تـدَّعـيـه     وقال لها: بربـك أَخبرينـا!

فقالت: قد أمال الطَرْفَ  عنا     ولم يعبأ بما قد حـلَّ  فيـنا

أيغفلُ عن سـوائمه مليـكٌ      يسمّي نفسَه الراعي الأمـينا؟

عليه أن يفتّش في الرعايـا      ويرتاد المزارعَ والـحزونـا

عساه أن يرى مثلي عجوزاً      تبيتُ الليلَ تـنتظر المنونـا

فتنعمَ من خزينتـه بـشيء      تُعيل به بنـيها  المدْنَفيـنـا

ولا يغنيه عـند الله أجـراً      تصدُّقه علـى  المسـترفِدينا

فكم عـافٍ يُمنِّعـه حيـاءٌ      فلا يـجري مع المتسوّلينـا

يكاد يموت من ظمأ وجوع      ولا يبغي أكـفَّ المحـسنينا

إذا مَلِكٌ تغاضى عن  ذويه      فيُحسبُ فـي عداد الظالمينا

فقال لها: صدقتِ، فعن قليل     نعود بـما تيسَّر، فانظريـنا

      

وسار وسرتُ مُحتذيـاً خطـاه    كأنَّ بنا إلـى وطَـر حـنينا

أكرُّ وراءه تحـت الديـاجـي    وتنبحـنا الكـلابُ وتقـتفينا

إلى بيت المئونة حيث أمسـى     هنالك ينبـش الـذَُرَ الدفينـا

وما هو غير لمح الطرف حتى    حملتُ السمنَ واحتمل الطحينا

وعدنا والدقيقُ عليـه يُـذرَى     فعفّـر عارضيـه والجبيـنا

يكاد ينوء تحت الحمل  لكـن     مشى طولَ المسافة مسـتكينا

كأني إذ عرضتُ يدي عليـه      ضربتُ على صَفاةٍ لن تليـنا

فقال: اصمتْ، فما حُمِّلتَ عني     ذنوبي يوم يجزَى المذنبونـا

إلى الأولاد يا عباسُ سِـرْ بي     أمـدُّ لكشف كُربتـهم يميـنا

أنأكلُ كـلَّ يـوم كـلّ لـونٍ     وهـم من جوعهم يتضوّرونا

ونسرح في ربوع الأنس دوماً     وهـم في كوخهم يتململونـا

ونـرقد لا نبـالي بالـبلايـا      وهم لنبالها مسـتهدفـونـا

جَفاني عند رؤيتهـم  رُقـادي     وواصلني صُداعٌ لن  يَبيـنا

وكدتُ أحسُّ أن الأرض مادت     وجوفُ الغمر أوشك يحتوينا

إلى الأولاد يا عبـاسُ أمحـو     خَطايَ وأغسل العار  المُبينا

فوَيْمَ الله ما القُـلَل الـرواسـي    كحمل ظلامةِ المسـتضعفيـنا

وأزجيَنا الخُطى في السهل حتى    طوينا منه قـاحلـةً شـطونا

فأدركنا العجوزَ عـلى قـتـادٍ    وقد أغضتْ من التعب الجفونا

وجَفّتْ قِدرُها فوقَ  الأثـافـي     فكان ثمـالها كَـدَراً وطيـنا

فأفرغها، وأفعـمهـا دقـيقـاً     بيمـناه، ودسَّ به السـمونـا

وكاد الوقدُ تحت القدر  يخبـو     فأولج في بقايـاه غصـونـا

مُكـبـاً لا يثبِّـطـه دُخـانٌ      تناولَ مَنخَريـه  والعـيونـا

يجيدُ الطبخَ تحريكاً وغـليـاً      كأنك تشـهد الطاهي الفطيـنا

فأنضجه ونـحن  بجـانبـيه      أبى إصرارُه أن  يسـتعيـنا

وأسرعَ –والبشاشة ملء فيه-      بتلقيـم الصغار الجائعـيـنا

يَتامى ما حَنا أحدٌ  علـيهـم      ولا عرفوا سـواه أباً حنونـا

ومال إلى العجوز فقال: مهلاً      أقلّي اللومَ، والتزمي السـكونا

سـنذكر لـلأمير بلاك إنّـا      إلى عرش الإمـارة منتمونـا

كفاكِ كآبة وطـوىً وسُـهدٌ       فنامي ملءَ جَفنك واصبحيـنا

      

وكان غدٌ لدى عـمرٍ رهـيبـاً     عليها حيث أدرَكـت اليقينا

لدَى عمرٍ، وقد رشقتْ سـهاماً      من التنديد بات بها طعيـنا

فيالك موقفاً حـرجاً تـمنـّتْ      -لشدّةِ روعها- ألاّ تكونـا

ولكن نالهـا منـه التـفـاتٌ       نفى عنها التأثُّرَ والشـجونا

فأجزلَ رِفدَهـا بعـد اعتـذارٍ      وبدّل شـدّةَ الأيـام ليـنا

فراحتْ وهي تروي عنه عدلاً       وإحساناً وفَرْطَ تٌقىً  ودينا

      

كذا كان الخليفةُ مـن قديـم        مثالاً للملوكِ  الصالحيـنا