ثورةُ الحقّ

شعر: عصام العطار

يـا شـامُ  يـا شامُ  يا أرضَ  المحبينا

                        هـان الـوفاءُ وما هان  الوفا  فـينا

نحـيا على الـبعد أشـواقاً مـؤرقـة

                         لا الوصلُ يدنو  ولا  الأيام  تسلـينا

إنّا حملناك في الأضـلاع عـاطـفـة     وصُـورةً مِـنْ فتون  الحسن  تسبينا

مـاذا أصابكِ من  أيدي  الطـغاة  وما     أصاب فيكِ ، وقد غبنا ، المؤاخيـنا

في مخلب الـظلم من أكبـادنا  مـزق     وفي الـنيوب بـقايا  مـن  أمانيـنا

يا شـامُ جـرحُكِ  في  قـلبي أكابـده     دمـاً  سخيـاً  وآلامـاً أفـانيـنـا

لا عـاش فـيكِ قـرير العـين طاغيةٌ     ولا رأى الأمـن يـومـاً في مغانينا

           

وسـائلـين مـن الأحباب  ما صنعتْ      أيـدي  الخطوب بنا في  الغرب نائينا

لقد نـكأتم جـراحـاً في أضـالـعنا       وقـد  أثـرتم  دمـوعاً  فـي مآقينا

نلقى على البعد من أيدي " أصـادقنا!"      مـا لا نـلاقيه مـن  أعدى  أعادينا

كـانوا سيوفاً بأيدي  الخصم(1) مرهفة     ولم يـكونـوا سيـوفاً في أيـاديـنا

تبـاً لـدنيا علـى نـيران فـتنـتهـا     ذاب الـوفاء فـلا تلـقى الوفيـينـا

لكـنـنا  وعيـونُ الله تـلحـظـنـا      نمضي على الدرب  والإيمان  حادينا

نمضي على الدرب لا  الكفران يصرفنا     عن المسـير ولا العـدوان يثنيـنـا

نـرنـو إلـى الله أبـصاراً وأفـئـدة      الله غايـتـنـا والله  راعـيــنـا

ومـا طـلبنا ثـواباً مـن سواه  وما       خفنا عقاباً ولـم نشـرك به  ديـنـا

العيـش مـن أجله - إن كان - بغيتنا       والموت من أجـله أحلى أمانـيـنـا

مـا قـيد الـفكرَ مِـنَّا جورُ طاغـيةٍ      أو أوهن العزمَ بطشُ المستـبدّيـنـا

غـرامـنا الحـق لم  نـقبل به بدلاً       إن غيرت غِـيَرُ الدنيا المحـبـيـنا

في الخوف والأمن مـا زاغت مواقفنا      والعسر واليسر قد كنا مـيامـيـنـا

فـما رآنـا الهـدى  إلا  كـواكبَـه       ومـا رآنـا النـدى إلا عـناويـنـا

وما  رآنـا العـدى إلا جـبـابـرة       ومـا رآنـا الفـدا إلا قـرابـيـنـا

نفوسنا  السلسل الصافي فإن غضبتْ        للحق ثارت علـى الباغي براكـيـنا

عـشـنا  أبيين أحراراً فإن هلكـتْ        في الحـقّ أنـفُسنا متنا أبـيّــنـا

           

يا شامُ أين لقـاءات الصفيـيـنـا         وأين سامرُنا الـماضـي وناديـنـا

وأين يا شام ريعان الشـباب وقـد         أمسى الشباب رمـاداً بين  أيديـنـا

أيامـنا(2) في سبـيل الله عاطـرة      وفي مناجـاته طـابت لياليـنـا

لم نـعرف الإثم في سر ولا عـلن       سيان ظاهرنا  البادي وخافـيـنا

أحـلامنا الطهر لا رجس ولا  كدر       إذا نثاها(3) الصبا رفت رياحيـنا

وأين يا شـام أيـام الجـهاد وقـد       زان الجهادَ كريمٌ من مواضـيـنا

وأين إخـوتنا الأبـرار لا برحـوا       لله جنداً يصـدُّون المغـيريـنـا

مشاعل الـحق والظلماء عاكـفـة        تهدي إليه على رغم المضليـنـا

كنا الشموسَ بأرض الشام مـشرقة        كنا الغيوثَ ربيعاً في روابـيـنـا

كنا الحصونَ بأرض الشام شامـخة        فيها الحماة إذا عزَّ(4) المحامونـا

كنا الرياح إذا نادى الصريخ(5) بنا        كنا الرجاء إذا ضيمت  أراضيـنا

كنا الجبال  ثباتـاً فـي مواقفـنـا        كنا السماء سمواً في معانـيـنـا

فوق المخاوف لا الإرهـابُ يرهبنا        فوق المطامع لا الإغراء يُغريـنا

فوق الدنا(6) أبداً ما حـطَّ طائرُنـا        في أسر فتنتـها أو زلَّ ماشـيـنا

فوق الدنا أبـداً كانـتْ مآمـلُـنـا        وفوق زخرفها الفاني أمانـيـنـا

كنَّا العقيدة قد جلَّت وقـد خلُصـتْ        كنا العدالة قد صحْت موازيـنـا

كنا الشمائل قد طابت وقـد عذبـت        فماحكتها الصَّبا طيباً  ولا ليـنـا

فأين منـَّا وقـد بنـَّا حواضـرنـا        وأين منَّا وقد غبـنـا بواديـنـا

وأين منَّا على شحطٍ(7)  مرابـعُـنا       وأين منَّا على بُعد  مغانـيـنـا

هل حنَّت الورق(8) شوقاً عند غيبتنا        كما حننَّا وهل هاجت شجـيـينا

وهل بكى "بردى" أم جف مدمـعـه        لما بكى من تباريح المشوقـيـنا

وهل رأت في دروب الخلد "غوطتُنا"        وفي خمائله في الأهـل ساليـنـا

وأدمـع الأم يا للأم هـل تـركـت        لهـا دموعاً وأجفاناً عواديـنا(9)

إن أسعد الدمعُ فاض الدمع منهـمراً        أو غاض مدمعُـها فالقلْبُ يبكـينا

جرح من البعـد يا أمـاه  قـرَّحـه       مرُّ السـنين ولم يلق المداويـنـا

جرحٌ حملنا كلانا في  جوانـحـنـا        يكاد في عصفات الشوق يُرديـنا

لئنْ جزعنا فقـد أودى تصـبُّـرُنـا       على الفراق وقد أعيا تسلـيـنـا

يا أمِّ سوف يعود الشـمل مجتمـعـاً       لا خيَّبَ الله في اللقيا أمانـيـنـا

فإن قضـى الله ألا نلـتـقي فـغـداً       في ظلّ رحمته يحلوا تلاقينا(10)

                                    *   *   *

يا شامُ هذي تباريح البعـيـدينا(11)          يا شام هذي شجون المُستهاميـنا

يا شام هيجتِ الذكـرى لواعجَـنـا          وأرخـصت دمعها الغالي مآقيـنا

يا شام قد عظُمتْ قدراً مطالبُـنـا        يا شام قد بعُدتْ شأواً مَراميـنـا

نمضي مع الله لا ندري أتُدنـيـنا        أقـدارنا منك أم تأبى فتقْصـيـنا

نمضي مع الله لا تدري جوارينا(12)     مـتى وأين ترى نلقي  مراسيـنا

نمضـي مع الله قدمـاً لا تعوقنـا       عن المضي -وإن جلت- مآسينا

نمضي مع الله والإسلام  يهديـنـا       الله يمسـكنا  والله يزجـيـنـا

نمضي مع الله والجـلى تناديـنـا       راضين راضين ما يختار راضينا(13)

يا شام لا تجزعي فالله راعـيـنـا        يا شام لا تيأسي فالله كافـيـنـا

تأتي جراحٌ فتثوي في أضالـعـنا        على جراح ولا ننسى  فلسـطينا

الدين يهتف أن  هبوا لنصـرتـها       والقدس  تهتف لا تلقى المجيـبينا

يُميتنا الحزن  تفكيـراً بحاضـرنا        ويبعث الغدَ آمـالً فيحـيـيـنا

يا كربة النفس للإسلام ما  صنعت        بكل أرض به أيدي المُعاديـنـا

ومحنة العالم المنكوب  تنشـرنـا        على فواجعها يوماً  وتطويـنـا

الأرض قد مُلئت شراً  وزلزلهـا         جورُ الطغاة ولؤمُ  المستغلـيـنا

في الشرق والغرب آلام  مؤرقـة        تبدو أحايين أو تخفى أحايـيـنـا

يا للطغاة وما أشقى الأنـام بهـم        عاثوا قوارين أو عاثوا فراعـيـنا

يسقونك الشهد صرفاً في كلامهـم        وفي فعالهمُ  سـماً وغِسـلـيـنا

إن يبدُ مكرهـم أو يبـد فتـكهـمُ       كانوا شياطين أو كانوا ثعابيـنـا

أين الطواعين منهـم في إبادتهـم        للخلق قد ظلم الناس  الطواعـينا

           

يا ثورة الحق تمشي في أضالعـنا        نوراً وناراً وتمشي في روابيـنا

يا ثورة الحق إن الكون مسرحـنا        فلا حدود تصدُّ  الحق والديـنـا

رسـالة الله رب الـناس أنزلهـا        للناس طراً فلا تميـيز يلويـنـا

يا ثورة الحق قد طال الظـلام بنا        وآن للفجر أن يمحو دياجـيـنـا

تأله الظلـم ألـواناً  بعالـمـنـا        فحطمي الظلم فرعونـاً وقارونـا

وحرري الأرض بالإسلام والتمسي       خير الهداية من خير النـبـيـينا

الله  أكبـر والدنيـا سـواسـيـة        فيها البرية إنشـاء وتـكويـنـا

لم يفترق أحد بالأصل عـن أحـد       أعمالنا هي تعليـنـا وتدنـيـنا

قودي خطانا على منهاج  خالـقـنا       حقاً وعدلاً وتحريراً  وتأميـنـا

قودي خطانا لما يشتاق  عالـمـنا        سلماً وحباً وإحساناً وتحسيـنـا

قودي خطانا لما تشدو  حضارتـنا       علماً وفـكراً وتشييداً وتمـديـنا

فهو الخلاص لنا مما يعنـيـنـا      وهو السَّبيل إلى أعلى مراقيـنـا

           

يا ثورة الحق ما أحلى مرائيـنـا     الغيب يبدو لنا نصراً  وتمكـيـنا

وباسمُ الغد عبر الأفـق نلـمحـه     يهفو لملقاتنا غاراً  ونسـريـنـا

وقادم النصـر نحـيـاه ونلمسـه    الله  أكـده فـالـنصـر آتـيـنا

وقد يكـون بنا والعـمر منفسـح     وقد يكون بأجـيـال توالـيـنـا

فإن ظفرنا فقد نلـنا مطـالبـنـا     وإن هـلكنـا  فإن الله جازيـنـا

الموت في طاعة الرحمن  يُسعدنا     والعيش في سخط  الرحمن  يشقينا

لقد رضينا الجهاد الصرف جائزة      فضل الجهاد  إذا نلناه يكفـيـنـا

بئس الحياة إذا الطاغوت  عبَّدنـا     نجرُّ أيامها  صغـراً مرائـيـنـا

أما المنية في عزّ وفـي شـرفٍ     فهي الأثيـرة نطريها وتطريـنـا

           

يا ثورة الحق هل خاب الرجا فينا؟    كنا على العهد أحـراراً أبيـّـيـنا

عشنا كراماً لعهد الله  راعـيـنـا    غراً حمـاة لديـن الله وافـيـنـا

نَطيرُ للغاية القصوى مـجدِّيـنـا     ونقحم الموت -لا نخشى-  مجلينا

نرجو الشهادة أو نصراً يواتـيـنا     نعطي الحياة فنعلي الحق  والديـنا

           

الهوامش

(1) - الخصم: المخاصم، يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع.

(2) - أي في ريعان الشباب.

(3) - نثاها: بثّها ونشرها.

(4) - عز الشيء: قلَّ فلا يكاد يوجد.

(5) - الصريخ هنا: المستغيث.

(6) - الدنا: جمع الدُّنيا.

(7) - على شحط: على بعد.

(8) - الورق: جمع ورقاء وهي الحمامة.

(9) - عوادينا: مصائب الدهر النازلة بنا.

(10) - اختارت الأخت الشهيدة "أم أيمن" -رحمها الله تعالى- الأبيات الأخيرة المتعلقة بالأم من هذا المقطع لقبساتها التي نشرتها لها الرائد، وعلّقت عليها بقولها: "وهذه الأبيات تمثل حال أمي وأبي، وتمثل حالي بعيدة عنهما في ديار الغرب، ولعلها تمثل حال كثيرين غيرهما وغيري.. ولذلك اخترتها لأقدمها في "قبسات". الناشر.

(11) - تباريح البعيدين: ما يكابدونه من الشدائد ويتوهج في نفوسهم من الشوق.

(12) - جوارينا: سفننا.

(13) - واختارت أم أيمن أبيات هذا المقطع من القصيدة، وعلّقت عليه بقولها: وهذه الأبيات تعبر عما في نفسي أيضاً كما تعبر عما في نفس عصام، فنحن -والحمد لله- زوجان، وصديقا قلب وفكر، ورفيقا عقيدة جهاد.

اللهم إنا راضون بقضائك وقدرك، وبكل ما يصيبنا في سبيلك، فهل أنت راضٍ عنا يا الله!

إذا صح  منك الود فالكل هين

وكل الذي فوق التراب تراب.

"نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك، لك العتبى(*) حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك".

(*) العتبى: الرجوع عن الإساءة إلى ما يرضي العاتب.