حرمة مكة

حرمة مكة

قالت سُبَيعة بنت الأحبّ، وكانت عند عبد مناف بن كعب، لابن لها منه يقال له خالد، تعظِّم عليه حُرمة مكة، وتنهاه عن البغي فيها، وتذكر تُبَّعاً وتذلله لها، وما صنع بها:

أبُنَـيَّ لا تظلِـم بمكَّـة لا الصغيـرَ ولا الكبيــرْ

واحفـظ مَحـارمَهـا بُنَـيَّ ولا يغرّنْـك الغَـرورْ

أبُنَـيَّ مـن يظلـم بمكَّـة يلـق أطْـرافَ الشُّرورْ

أبُنَـيَّ يُضْـربْ وجهـهُ ويَلـُحْ بخدّيـه السَّـعيـرْ

أبُنَـيَّ قـد جَرّبتهـا   فوجدتُ ظالمهـا يبـور(1)

الله أمّـنهـا ومـَا    بُنيـت بعَـرْصتهـا قُصورْ

والله أمن  طيرَهــا  والعُصم(2) تأمن في ثَبيرْ(3)

ولـقد غزاهـا تُبَّــع   فكسـا بَنيَّتهـا الحَبير(4)

وأذلّ ربــي مُلـكَـه   فيهـا فأوفـى بالنُّـذورْ

يمشـي إليهـا  حافيـاً    بفنـائهـا ألفـا بعيـرْ

ويظلّ يُطعم أهلَهـا   لحمَ المَهارى(5) والجَـزورْ

يَسقيهمُ العسـلَ المُصفّى والرّحيض(6) من الشعيرْ

والفيل أُهلـك جيشـه   يرمون فيهـا بالصخـورْ

والملْك في أقصى البلاد وفي الأعاجم والخزير(7)

فاسمع إذا حُدّثـتَ وافهـم كيف عاقبـة الأمـورْ

 

الهوامش:

(1) يبور: يهلك.

(2) العصم: الوعول، لأنها تعتصم بالجبال.

(3) ثبير: جبل في مكة.

(4) بنيتها: يعني الكعبة. والحبير: ضرب من ثياب اليمن موشَّى.

(5) المهارى: الإبل العراب النجيبة.

(6) الرحيض: المنتقى، والمصفى.

(7) الخزير: أمة من العجم، ويقال لها الخزر أيضاً.

بئر زمزم

قال ابن إسحاق:

"حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مَرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الله ابن زُرَير الغافقي: أنه سمع عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يحدّث حديثَ زمزم حين أُمر عبد المطلب بحفرها، قال:

قال عبد المطلب: إني لنائم في الحِجْر إذ أتاني آتٍ فقال: احفرْ طيبة(1).

قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعتُ إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفرْ بَرّة(2). قال: وما برّة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة(3). قال: فقلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبداً ولا تُذَم(4) تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم(5)، عند قرية النمل(6).

قال ابن إسحاق: فلمّا بيَّنَ له شأنها، ودَلّ على موضعها، وعَرَف أنه صُدِقَ، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولدٌ غيره، فحفر فيها. فلما بدا لعبد المطلب الطّي(7) كبّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا:

"يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقّاً فأشركنا معك فيها".

قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خُصصتُ به دونكم، وأُعطيته من بينكم.

فقالوا له: فأنصفنا فإنّا غير تاركيك حتى نُخاصمك فيها.

قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أُحاكمكم إليه.

قالوا: كاهنة بني سعد هذيم.

قال: نعم. قال: وكانت بأشراف الشام.

فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر. قال: والأرض إذ ذاك مفاوز. قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فَنِي ماءُ عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم، وقالوا:

"إنّا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم".

فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوّف على نفسه وأصحابه، قال:

"ماذا ترون"؟

قالوا: ما رأيُنا إلا تَبَعٌ لرأيك، فمُرنا بما شئت.

قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلّما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخركم رجلاً واحداً، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً.

قالوا: نِعْمَ ما أمرتَ به..

فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه:

"والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا، لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا.

فارتحلوا. حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدّم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبّر عبد المطلب وكبّر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش، فقال:

"هلّم إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا."

فجاءوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا:

"قد والله قُضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً.

فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلَّوا بينه وبينها.

 

الهوامش:

(1) قيل لزمزم طيبة، لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم.

(2) قيل لهابرة، لأنها فاضت على الأبرار وغاضت عن الفجار.

(3) قيل لها مضنونة، لأنها ضن بها على غير المؤمنين فلا يتضلع منها منافق.

(4) لا تنزف، لا يفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها.

(5) لا تذم: أي لا توجد قليلة الماء، تقول: أذمت البئر: إذا وجدتها قليلة الماء.

(6) الأعصم من الغربان: الذي في جناحيه بياض، وقيل غير ذلك.

(7) إنما خصت بهذه العلامات الثلاث لمعنى زمزم ومائها، فأما الفرث والدم، فإن ماءها طعام طعم، وشفاء سقم، وأما عن الغراب الأعصم، ففيه إشارة إلى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليخربن الكعبة ذو السويقتين من الحبشة". وأما قرية النمل، ففيها من المشاكلة أيضاً والمناسبة أن زمزم هي عين مكة التي يردها الحجيج والعمار من كل جانب، فيحملون إليها البر والشعير وغير ذلك، وهي لا تحرث ولا تزرع، وقرية النمل كذلك لا تحرث ولا تبذر وتجلب الحبوب إلى قريتها من كل جانب.