اسم

قالت كلوفيس : " كل قصص الصيد متشابهة مثلما أن كل قصص حلبات سباق الخيل متشابهة ، وهذه حال كل القصص الأخرى " ،

فقالت البارونة : " قصة صيدي لا تشبه البتة أي قصة سمعت بها من قبل . وقعت منذ زمن بعيد ، حين كنت في حوالي الثانية والعشرين ، ولم أكن حينئذ أعيش منفصلة عن زوجي . أنت فاهمة . لم يكن أينا قادرا على وهب الآخر معاشا في انفصاله . وعلى نقيض كل ما يمكن أن تقوله الحكم يبقي الفقر من  البيوت  أكثر مما يهدم ، وإن كان كل منا يصيد مع مجموعة مختلفة ، وهذا لا علاقة له بقصتي الفريدة " .

قالت كلوفيس : " لم نصل إلى الملتقى بعد . أقدر أن هناك ملتقى " ،

فقالت البارونة : " بديهي ، كان هناك ملتقى ، وكان كل الجمهور المألوف موجودا خاصة كونستانس برودل . كونستانس برودل إحدى الفتيات البدينات المتوردات التي تتناغم كثيرا مع مجالي الخريف أو زينات عيد الميلاد في الكنيسة ، وهي قالت لي : " أحس مبكرا بأن شيئا رهيبا سيقع . هل أبدو شاحبة ؟! " ، فقلت لها : " أنت أجمل من المألوف ، والحال بالنسبة إليك في منتهى اليسر " ، وقبل أن تلتقط مغزى ملاحظتي شرعنا نعمل ، وكانت كلاب الصيد رصدت ثعلبا مكشوفا في بعض  شجيرات الوزال " ، فقالت كلوفيس : " عرفت قصتك ! في كل قصة صيد للثعالب  سمعتها كان دائما ثعلبٌ وبعض شجيرات الوزال " .

واسترسلت البارونة صافية البال : " كنا أنا وكونستانس مرتاحتين في ركوبنا ، ولم نواجه عناء في أن نكون في مطلع الركب مع أن السباق كان شاقا جدا ، ولا ريب في أننا سلكنا قبل منتهاه سبيلا مختلفا تماما بعد أن فقدنا أثر كلاب الصيد ، ووجدنا نفسينا نخبط بعيدا دون هدى . كانت حالة تفجر الحنق ، وأخذت نفسيتي فعلا تجنح إلى الحنق ، ولكن فجأة ، وخلال اجتيازنا سياجا سهلا ، أفرحتنا رؤية الكلاب تنبح جماعيا في منخفض أسفل منا ، فصاحت كونستانس : " هاهي ! "، وأردفت لاهثة : " بحق الله ! ماذا تصيد ؟! " ، وبالتأكيد لم يكن ثعلبا ، هذا العدو اللدود لها ، فهو ضعف الثعلب قامةً ، ورأسه قصير قبيح ، وعنقه ضخم أشعر . صرخت : " ضبع ! لا ريب أنه فر من حديقة اللورد بابام " ، وفي تلك اللحظة التفت الحيوان المستهدف ، وواجه الكلاب التي كان في المكان منها حوالي ستة ، تؤلف نصف دائرة حوله ، والبلاهة في وجوهها . ومؤكد أنها تناءت عن القطيع لتتعقب رائحة هذا الحيوان التي استافتها ، والآن يبدو عليها العجز المطلق في التعامل مع طريدتها التي لحقتها . وحيا الضبع قدومنا بارتياح واضح ومودة بينة ، ولعله ألف من قبل مثل هذا العطف من الناس بينما خلفت أول تجربه له مع كلاب الصيد أثرا مزعجا في نفسه . وبدت الكلاب  مضطربة اضطرابا غير مسبوق ؛ لأن طريدتها أظهرت ودها المفاجىء لنا . وتناهى إلى مسامعنا صوت بوق واهن من بعيد ؛ إشارة إلى أينونة المغادرة . ولبثت أنا وكونستانس في جو الشفق المقترب ، فسألت : " ماذا سنفعل ؟! " ، فقلت : " ما أكثر أسئلتك ! " ، فردت محتدة : " حسن . لا نستطيع مبيت الليل هنا مع ضبع " ، فقلت : "  لا أعرف رأيك في الراحة إلا أنني لا ينبغي لي التفكير في مبيت الليل هنا حتى بدون ضبع . ومع أن بيتي قد لا يكون سعيدا إلا أنه على الأهون فيه ماء ساخن وماء بارد ، وخدمة ، وأنواع أخرى من الراحة لا نجدها هنا . والأحسن لنا أن نتوجه إلى سلسلة التلال الشجراء التي على يمنانا ، والأرجح أن طريق كراولي خلفها " .

وسرنا يخب بنا جوادانا في أناة على طريق عربات لا تكاد تبين معالمه ، وسار الحيوان خلفنا مبتهجا . وجاء سؤال كونستانس الذي لا ملاذ منه : " ماذا بالله سنفعل بهذا الحيوان ؟! " ،

فسألتها مغضبة : " ماذا يفعل الناس عادة بالضباع ؟! " .

فقالت : " لم يسبق أن تعاملت مع حالة مثل هذه " .

فقلت : " جميل ، ولا أنا . لو عرفنا جنسه لمنحناه اسما . نستطيع أن نطلق عليه الآن ( اسم ) ، فهو  يصلح للجنسين " .

وكان ثمة بقية من ضوء النهار تكفي لتبين الأشياء على حافتي الطريق . وارتفعت روحنا المعنوية المتردية حين عثرنا على طفل غجري نصف عارٍ يقطف ثمر شجيرة عليق دانية الغصون . وأخذ يصرخ حين طلع عليه فارسان وضبع . وعلى أي حال ما كان في قدرتنا استمداد معلومات عن جغرافية المكان من ذلك الطفل ، وإن كان من غير المستبعد أن نعثر على مخيم للغجر في موضع ما على طريقنا ، فواصلنا السير بذلك الأمل ميلا أو قرابة ميل  .

وقالت  كونستانس : " لا أدري ماذا كان الطفل يفعل في ذلك المكان " .

فقلت : " واضح أنه كان يقطف ثمر العليق " ،

فتابعت : " لا أحب طريقة بكائه . ما فتىء عويله يرن في أذني " .

ولم أوبخ كونستانس على تصوراتها المرضية ، والواقع أن شعورا بعويل متقطع ملح يتبعني كان يفرض نفسه على أعصابي المرهقة إرهاقا شديدا . وإكراما للصحبة رحبت باسم الذي كان يمشي الهوينى خلفنا ، ثم حاذانا واثبا بضع وثبات لينطلق بعدها متخطيا لنا ، فبانت علة مصاحبة العويل لنا ! كان الطفل الغجري عالقا بين أنيابه ، وأحسب ذلك كان يؤلمه  ، فصرخت كونستانس : " يا رحيم ! ماذا سنفعل ؟! ماذا علينا أن نفعل ؟! " ، وكنت واثقة كل الثقة أن كونستانس ستسأل يوم الدين أسئلة أكثر مما تسأل ملائكة الاستجواب في ذلك اليوم . وألحت باكية بينما كان اسم يركض في سهولة أمام جوادينا المنهكين : " ألا نستطيع فعل شيء ؟! " .

ومن ناحيتي شخصيا ، كنت أفعل كل ما بدر إلى ذهني في تلك اللحظة المرعبة ، فثرت ، ولمت ، ولاطفت بالإنجليزية والفرنسية ، وتكلمت بلغة حارس منطقة الصيد الخشنة ، وضربت في الهواء ضربات عابثة لا أثر لها بمقبض سوط صيدي الذي لا سير جلديا فيه ، وقذفت حقيبة طعامي على الوحش ، والحق أنني لا أعلم الآن ماذا فعلت فوق كل ذلك . وتابعنا سيرنا المثقل في الغسق الآخذ في الإظلام  مع ذلك الشكل الداكن الغريب الذي يمشي متثاقلا في طليعتنا ، وصوت إيقاع حزين ينساب إلى آذاننا . وبغتة وثب اسم جانبا في شجيرات كثيفة حيث عجزنا عن متابعة النظر إليه ، وارتفع العويل إلى صرخة توقف بعدها كل شيء . وعادة ما أتجاوز هذا الجزء من القصة لكونه مرعبا حقا . وحين لحقنا الوحش بعد دقائق قليلة كان يبدو على سيماه التفهم الحليم لموقفنا مما فعل ، فهو يدرك أنه فعل شيئا لا نرضاه مع شعوره بأنه مسوغ تماما بالنسبة إليه .

سألت كونستانس : " كيف تسمحين لهذا الوحش المفترس بالركض إلى جانبك ؟! "

كان وجهها يشبه في شحوبه جذر حبة لفت أكثر من أي وقت سبق .

قلت : " أولا : لم أكن أستطيع منعه ، وثانيا : مهما يكن أمره أشك الآن أنه مفترس " ،

فارتجفت ، وجاء سؤال آخر من أسئلتها التي لا تفيد  : " أترين أن الطفل قاسى كثيرا ؟! " ،

فقلت : " كل الدلائل تؤكد هذا ، ومن ناحية ثانية ، ربما كان يبكي بسبب حالته النفسية ، فالأطفال يبكون أحيانا بسبب حالتهم النفسية الخاصة " ،

وكان الليل قد تدجى تقريبا حين بلغنا فجأة الطريق الرئيسي ، ومرت بنا  لمعات أضواء ، وسمعنا صوت سيارة في نقطة قريبة منا لا تدعو للراحة ، وتلا ذلك بعد ثانية دوي ، وصرخة حادة ، وتوقفت السيارة . وعندما عدت إلى مكان توقفها وجدت شابا منحنيا على كتلة داكنة ساكنة فوق حافة الطريق ، فصرخت حزينة ملتاعة : " قتلت اسمي ؟! " ،

فقال : " آسف جدا . لي كلاب ، ولهذا أعلم شعورك نحوه . سأفعل كل ما أقدر عليه لتعويضك "

، قلت : " أرجوك ،  ادفنه حالا ! هذا أكثر  ما أطلبه منك " ،

فقال للسائق : " هات المسحاة يا وليم ! " ،

واحتاج حفر قبر كبير ملائم وقتا يسيرا ، وقال صاحب السيارة عند دفع الجثة إلى الحفرة : " يا له من صديق بديع ! يؤسفني أنه كان حيوانا عالي القيمة " ،

فقلت في حزم : " كان الثاني قيمةً بين جراء بيرمنجهام السنة الفائتة " ،

فنخرت كونستانس نخرة عالية ، فقلت مكسورة النفس : " لا تبكي يا عزيزتي ! كل شيء انتهى سريعا ،  ولم يقاسِ كثيرا " ، فقال الشاب يائسا : " اسمعي ! يجب أن تسمحي لي بتقديم تعويض ما إليك " ، فأبيت بلطف إلا أنني ما لبثت أن أعطيته عنواني لإلحاحه . وطبعا تشاورنا بعد ذلك حول ما حدث ليلة ذلك اليوم . ولم يعلن اللورد بابام عن فقد ضبعه ، وهو الذي كان يستدعى قبل عام أو عامين لدفع تعويض حين يشرد أحد حيوانات حديقته من آكلات الفواكه . حدث ذلك في إحدى عشرة حالة ، منها حالة نهش مواشٍ ، كما دعي لإعادة حظائر دواجن جيرانه . ويمكن أن يرقى تعويض ضبع بابام إلى درجة منحة حكومية . ولم يهتم الغجر بفقد طفلهم ، ولا أحسبهم في مخيماتهم الكبيرة يعلمون عدد ما لديهم من الأبناء ليهتموا بفقد واحد أو اثنين منهم ".

وسكتت البارونة متأملة ، ثم أردفت : " للمغامرة بقية ، فمع أنني تلقيت بالبريد دبوس زينة صغيرا فتانا من الماس ، ومعه  غصين ورد ذهبي نقش عليه اسم " اسم " فإنني فقدت في ذات الوقت صداقة كونستانس برودل . أنت فاهمة ، فعندما بعت الدبوس رفضت تماما إعطاءها نصيبا من عائد بيعه ، وبينت لها أن جانب المسألة الذي يتصل بتسمية " اسم " من ابتداعي ، وجانب ملكية الضبع يخص بابام إن كان الضبع ضبعه ، وهو ما لا أملك عليه بالطبع برهانا " ،

*للكاتب البريطاني هيكتور مونرو المشهور باسمه الأدبي ساكي ( 1870 _ 1916 ) .

*استعمل الكاتب اللفظ العربي ( اسم ) عنوانا لقصته  .

وسوم: العدد 836