الشاعر الإنجليزي وليم بليك ( 1757 _ 1827) .. حياته وشعره

*1783 : صدور ديوانه الأول " صور شعرية " . 

*1794 : صدور ديوان " أغاني البراءة والتجربة " .  

*1804: صدور القصيدتين الأخيرتين العظيمتين المتنبئتين " القدس " ، و " ميلتون "  

كانت الحياة التي سماها بليك " حياته الروحية " متنوعة وحرة ومثيرة بقدر ما كانت " حياته الجسدية " بسيطة ومحدودة وخالية من المغامرة والإثارة . كان والده بائع نثريات ( خردوات ) في لندن ،واقتصر تعليمه النظامي على الفن ، فالتحق في العاشرة من عمره بمدرسة للرسم ، ثم درس بعض الحين في المدرسة التابعة لأكاديمية الفنون الملكية . وفي الرابعة عشرة غدا تلميذا متدربا عند فنان حفر شهير هو جيمس  باسير ، وشرع يتوسع في القراءة في وقت فراغه ، ويقرزم الشعر . وفي السابعة والعشرين تزوج كاثرين بوتشر ابنة أحد مزارعي الخضراوات ، وكانت أمية ، فعلمها القراءة والكتابة لتعينه في فن الحفر والطباعة . وفي السير المبكرة ذات الصبغة العاطفية نوعا ما التي كتيها بليك  نجده يقدم كاثرين زوجة مثالية ، ليست متشددة دينيا وعبقرية ، وماهرة ماليا  ورقيقة وصبورا وداهية ، وواثقة ثقة عمياء في أفكار زوجها وقدراته التي حباه الله _ سبحانه _ بها . ومع ذلك فلا ريب في أن بليك كان رفيق حياة مرهقا . وتدل هجماته المحمومة على الظلم والعذاب اللذين تسببهما امرأة غيور قوية الإرادة ؛ تلك الهجمات التي بلغت أوجها في 1793 ، ولبثت بارزة في كتاباته عشر سنوات أخرى ؛ تدل على أوقات عصيبة مضطربة عاشها في بيته . ولم ينسل الزوجان أي أبناء . 

وتمتعا بعض الوقت برخاء  نسبي حين كان بليك يعطي دروسا في الرسم ، ويرسم صورا توضيحية للكتب ، ويضع تصميمات الحفر التي ينفذها فنانون آخرون ، فلما قل الطلب على عمله انتقل في 1800  للسكن في كوخ في فلبهام على ساحل سسكس ليكون في رعاية وليم هايلي متذوق الشعر ، وكاتب السير ، وعاشق الفنون الذي سعى بنواياه الضيقة إلى تحويل بليك فنانا تقليديا يتكسب بالفن إلا أن النسر الحبيس تمرد سريعا على القفص ، وكتب : " هايلي عدو حياتي الروحية في الوقت الذي يدعي فيه صداقة حياتي الجسدية " . 

وحدثت في فلبهام في 1803 حادثة خلفت أثرا عميقا في نفس بليك وفنه ؛ إذ تشاجر مع جون سكوفيلد الجندي في وحدة التنانين ( جمع تنين ، حيوان خرافي ) الملكية ، وخلفية الحادثة أن بليك أمر ذلك الجندي بالخروج من حديقته ، ولما رد بتهديده وتهديد زوجته وشتمهما دفعه إلى النزل الذي كان يسكن فيه على مسافة خمسين ياردة ، فاتهم الجندي بليك بأنه فاه بكلام فيه تحريض على الملك والبلاد ، فوجهت التهمة إلى بليك باقتراف هذه الجريمة ، وسيق إلى المحاكمة رغم إصراره على أن سكوفيلد حلف يمينا كاذبة ضده لإثبات التهمة ، وكانت عقوبة التحريض يومئذ على الملك والبلاد الإعدام شنقا إلا أنه بُرىء منها في النهاية تبرئة أرضت ، وفق وصف إحدى الصحف ،  " حضور المحاكمة إرضاء جعل قاعة المحكمة تضج بأصواتهم الصاخبة الجذلى " إلا أن سكوفيلد وزميله الجندي كوك والمشاركين الآخرين في القضية ظلوا يعتادون خيال بليك ، وتضخموا فيه حتى صاروا شخصيات شيطانية قامت بأدوار شريرة مشئومة في قصيدته " القدس . وأسخطته تلك القضية ، وأشعرته أن قوى مشئومة تنشط في عالم ذلك الزمان ، وحضته على تعقيد الانحرافات الرمزية التي كان يغلف بها ما في رؤاه السياسية والدينية والخلقية من تسامح ، وما في تلميحاته الضمنية من تطرف ، وتحويلها إلى قضايا أخرى أولاها اهتمامه في قصائده . وعاد إلى لندن بعد ثلاث سنوات من سكناه في فيلبهام عازما على متابعة ما يسميه " الرؤية الإلهية " حتى ولو أدت إلى عزلته وسوء فهم الآخرين له والفقر . ونراه يلج ظلمة يأس عميق حين أخفقت محاولته الكبيرة في 1809 لنيل اعتراف الجمهور به بصفته الشاعر الأوحد . ولم يوفق إلا في ستينات عمره في اجتذاب عصبة صغيرة ، وإن كانت مخلصة ، من الرسامين الشبان الذين أدوا  دور الجمهور المهتم بشعره وبما يقول .  

وعلى أي حال ، كانت شيخوخته خلوا من الهموم ، وفيها ثقة في الذات ، وبهجة في القلب ، ومتحررة من هبات الحنق السريعة التي رد بها في حياته المبكرة على ضحالة الجمهور الإنجليزي وعماه عن رؤية جودة شعره وجمال فنه . وقد توفي في السبعين من عمره . 

وبين ديوانه الأول " صور شعرية " الذي طبعه وهو في السادسة والعشرين استياءه من الأسلوب الشعري السائد ، وبحثه القلق عن صيغ وأساليب شعرية جديدة . ورجع في بحثه عن طُرُز الشعر الغنائي إلى شعراء العصر الإليزابيثي ، وشعراء مستهل القرن السابع عشر ، وإلى القصائد الملحمية ، وقصائد كولينز وتوماس شاتيرتون ، وإلى آخرين من كتاب القرن الثامن عشر بعيدا عن تراث الشاعر بوب . وجرب أيضا القوافي الجزئية والإيقاعات الجديدة . واستعمل صيغ كلام جريئة اقتربت أحيانا من مستوى الرموز . 

وفي طباعته لديوانه " أغاني البراءة " الصادر في 1789 استعمل لأول مرة طريقة طبع استعملها لاحقا في طباعة سائر دواوينه ، وهي طريقة شارك جزئيا في ابتكارها . فرسم اللوحات التوضيحية بالزيت في تصميم موحد مع مادة حمضية واقية رسما مباشرا على لوحة نحاسية مما أبرز التصميم على هيئة نقش ، واستعمل اللوحة في طباعة صفحة لونها يدويا بالألوان المائية ، وجمع تلك الصفحة مع القصائد الأخرى لتكوين ديوان . وكان إعداد اللوحات عملا مضنيا يستغرق وقتا طويلا . وطبع بتلك الطريقة نسخا قليلة من دواوينه ، يعرف منها مثلا 27 نسخة من ديوان " أغاني البراءة والتجربة " ( كاملة وناقصة ) ، وتعرف من "كتاب ثل " 15 نسخة ، ومن " زواج الجنة وجهنم " 9 نسخ ، ومن قصيدة " ميلتون " 4 ، ومن قصيدة " القدس " 5 . وهذه النسخ تعد اندماجا فريدا بين النص والصور والزينات الزخرفية .  

ويحسن أن نتذكر أن قراءة قصيدة لبليك في نص مطبوع بهذه الطريقة تعني أننا لن نرى سوى خلاصة مما كان في النص الأصلي هي مزيج مكتمل  من الكلمات والتصميم تم فيه تفاعل الزينات الزخرفية . ويزعم بليك في " أغاني البراءة " أنه يكتب " أغاني سعيدة ربما يسر كل طفل أن يسمعها "، فهي " تبين العالم المتهاوي إلا أنها ، وكما تبدو لوجهة النظر المحدودة للبراءة الساذجة المستسلمة ، ومثلها بعض الأغاني التي منها " منظف المدخنة " ، و " الخميس المقدس " ؛ تلمح في موازنة عميقة إلى إمكانية تقييم مغاير للأحداث التي تعرضها ، ويتم التعبير عن هذه الرؤية " المغايرة " في " أغاني البراءة " المنشورة في 1794 التي تعري عالما زريا ومرعبا من  الفقر والمرض والفحش والحرب والاستغلال والكبت الاجتماعي والمؤسسي والجنسي . وما لبث فكر بليك الرمزي في التاريخ البشري وفي تجربته الشخصية في الحياة أن عبرا عن نفسيهما بجلاء في " الشخوص العملاقة " وفي أفعالها ، تلك الشخوص التي تكون أسطورة كاملة ، ومثلما قال لوس ( شخصية أسطورية متنبئة تخيلها الشاعر . المترجم ) معبرا عن سائر الفنانين الخياليين : " يحب أن أخلق نظامي الخاص وإلا استرقني نظام شخص آخر " ، وهذا النظام المتماسك ، ولكن الدائم التبدل والتوسع ، كون مادة الموضوع عند بليك ؛ أولا من نبوءاته "الصغرى " التي أكملها في 1795 ، ثم في كتب النبوءات الكبرى التي تابع تأليفها حتى 1820 ، وهي " الأزواس الأربعة " (شخصيات أسطورية متنبئة منها لوس . المترجم ) ، و " ملتون " و " القدس ". وهجر بليك في الستين من عمره الشعر مُخْلصا نفسه إلى فن الرسم الذي أنتج منه ومن فن الحفر مئات الأعمال ، أكثرها رسوم توضيحية لدواوين شعراء آخرين بما في ذلك رسوم شخصية لقصيدة " حجاج كانتربري " للشاعر تشوسر ،ومجموعة تصاميم فخيمة ل " كتاب يعقوب " ، وسلسلة صور توضيحية لأعمال الشاعر الإيطالي دانتي التي كد وجد في إعدادها حتى وافته المنية . وظلت شهرته فنانا حتى تلك المنية محدودة ، وأما شهرته شاعرا فكانت تقريبا منعدمة إلا أنه كسب في منتصف القرن التاسع عشر عصبة من المعجبين ممن يوصفون بالسابقين على عصبة الفنانين الرفائيليين الذين عدوه سلفا صالحا ومرشدا لهم يحتذونه في أعمالهم . ومن ذاك الحين تنامت شهرته وتأثيره تناميا متتابعا في إنجلترا وفي خارجها . ونال مبتغاه من الشهرة في منتصف القرن التاسع عشر في الشعر وفي الرسم بصفته واحدا من أبرز الفنانين الذين أخلصوا أنفسهم إلى عملهم ، ومثلوا تحديا فكريا ، وأصالة مذهلة .وكان فهم كتب بليك الضخمة والملغزة والمعقدة وذات النبوءات الشغل الشاغل لعديد الدارسين ؛ لأنه كتبها باسم أو صوت " الشاعر الذي يرى الحاضر والماضي والمستقبل " ، ومؤدى هذا لشاعر بريطاني يقفو أثر الشاعرين سبنسر وملتون في العودة إلى الأنبياء الشعراء في الكتاب المقدس ، ومثلما قال هو  : " طبيعة كتابتي رؤيوية أو خيالية " ، ومع هذا فما قصده  بالكلمتين المفتاحيتين "رؤيوية " ، و " خيالية " كثيرا ما تشوه بالفهم الحرفي لما عناه بلغته المجازية ، وهو الشاعر الذي يستعمل لغة أسلافه العظام التراثية حتى صرح بأنه لا يبالي بما  "  يمكن شرحه للحمقى " . وكان مستهزئا بطبعه ، ويستمتع بتغميض ما يعنيه إلا أن الأصدقاء أهل الفهم الحرفي لما يكتب والذين يجدون لذة التحدي في صدمة " ملائكة " عصره الأغبياء اللطفاء ؛ كانوا يتعمدون التشنيع والتفظيع   حين يشرحون كتاباته وأفكاره للناس . 

وجاهر بليك ب " حرارة " بأن كل ما عرفه موجود في الكتاب المقدس ، وأن " العهد القديم والعهد الجديد هما قانون الفن العظيم " ، وهذه مغالاة مفرطة في حقيقة أن كل كتاباته ذات النبوءات  تعالج في صيغ متباينة  بعض جوانب حبكة الكتاب المقدس الكلية الخاصة بخلق الإنسان وسقوطه ، وتاريخ أجياله في العالم الساقط ، وتحريرهم من سقوطهم ، والوعد باستعادة جنة عدن والقدس الجديدة . ويفسر بليك هذه الأحداث بأسلوبه الخاص الذي سبقه إليه سابقون ليس أكثرهم من مفكري الأفلاطونية الحديثة ومفكري السحر والغموض الذين يصنفه بعض الكتاب المحدثين واحدا منهم مثل المفسرين " الروحيين " للكتاب المقدس بين الطوائف البروتستنتية المتشددة في القرنين السابع عشر والثامن عشر . وصور بليك في كل كتبه التي ألفها في مطلع 1790 ، وهي " الثورة الفرنسية " ، و " نبوءة حول أميركا " ،  و" نبوءة حول أوروبا " حين كان مناصرا متحمسا للثورة الفرنسية شأنه شأن وردز ورث وكوليردج وساوثي وعدد من من علماء اللاهوت الإنجليز المتطرفين ؛ صور الثورة بحسبانها العنف المطهر الذي  وفق نبوءة الكتاب المقدس كان بشير التحرير المقترب للإنسان والعالم . ونراه مع ذلك في كتاباته المتأخرة يجعل أورك التي ترمز للروح النارية  للثورة  تتخلى عن منزلتها بصفتها شخصية محورية إلى لوس رمز الخيال الرؤيوي في العالم المنهار ، وهذا مؤشر على تحوله من التأكيد على التنبؤ بالثورة إلى التنبوء بالخيال . وكانت أول محاولاته للتعبير عن أسطورته الكاملة  حول حاضر  الإنسان وماضيه ومستقبله هي أسطورة "الأزواس الأربعة " التي شرع يكتبها في 1796 أو 1797 تالية لكل الأعمال التي ذكرناها له . وكل نصوص كتاباته مجموعة في كتاب " شعر وليم بليك ونثره " الذي حرره ديفيد . ف . إردمان وهارولد بلوم ، وطبع في نيويورك في 1965 ، وصحح المحرران أخطاءه الكثيرة في الإملاء وفي علامات الترقيم حتى لا يخطىء القارىء المعاصر في فهم نصوصه الأصلية . 

                            *** 

نص من شعره :       أغنية  

ما أكثر ما تمتعت بتنزهي  من حقل إلى حقل ! 

وما أكثر ما استفت ريا  كل زهور الصيف ! 

حتى رأيت ، أنا أمير الحب ، ذاك الذي انساب  

مع أشعة الشمس الذهبية ، 

وأراني زهور سوسن لأزين بها شعري  ، 

وورودا نضرة لأكلل بها جبيني . 

وسار بي في حدائقه البهيجة حيث تنمو كل مسراته الذهبية . 

وهناك بللت أنداء الربيع العذبة جناحي ، 

وأوقد فوبس نار حماستي ، 

وصادني بشبكته الحريرية ، 

وأوصد علي باب قفصه الذهبي . 

وهو يحب أن يجلس ويسمع غنائي ، 

ويلاعبني ويلاهيني ضاحكا ، 

ثم يبسط جناحي ، ويسخر من ضياع حريتي . 

*عن " مقتطفات نورتون المختارة من الأدب الإنجليزي " . 

وسوم: العدد 903