الكاتب الأميركي هرمان ملفيل ( 1819 _ 1891 ) .. حياته ورواياته وشعره

كان والدا ملفيل من الأسر الثرية في نيويورك إلا أن إفلاس الأسرة أعقب سريعا موت والده مخلفا الأم في مصاعب مالية في الوقت الذي كان فيه هرمان في الثانية عشرة ، فاستقرت الأسرة في ألباني التي التحق هرمان بأكاديمية محلية فيها بعض الوقت . وبعد أن عمل وقتا وجيزا في محل لأخيه ، وفي مصرف ؛ ذهب للعمل في البحر بالغا التاسعة عشرة . وأيقظت تجاربه بصفته بحارا تاجرا على السفينة لورنس ، وعلى الشاطىء في أحياء الفقراء في ليفربول ؛ تلك التجارب التي عبر عها بعد ذلك في " رِدبرن   " ؛ في نفسه مقتَه الذي عبر عنه في رواياته لما في أعمال الناس من ظلام وسوء ، وكذلك عن الشر الذي يبدو مغروزا في الطبيعة ذاتها . وبعد هذه المرحلة الوجيزة الفاصلة في حياته ؛ امتهن التعليم المدرسي ، وشرع يكتب دون انتظام . وأبحر في 1841 من جديد على متن السفينة أكشنت القاصدة المحيط الهادىء . وعاد بعد أربع سنين إلى البحار الجنوبية . وبعد ثمانية عشر شهرا ترك تلك السفينة في صحبة صديق حميم في نوكوهيفا في جزر الماركيساس . ونراه في رواية " تايبي " يزين تلك المغامرات مستعينا بالحرية التي يتيحها الفن الروائي . والذي لا ريب فيه أن المؤلف ملفيل و " طوبي" جرين عاشا على الأقل شهرا بين التايبيين الوسماء في جزر الماركيساس الذين أزرت بهم عادتهم الفاجعة في أكل لحوم أعدائهم . وأتاحت له سفينة عابرة سانحة فراره إلى تاهيتي . وما لبث أن أبحر على سفينة أخرى حملته نهائيا إلى جزر هاواي ، وتسجل في هونولولو في سلاح البحرية للعمل على متن السفينة يو . إس . إس . يونايتد ستيتس . وسرح بعد أربعة عشر شهرا في بوسطون . وهكذا عاش الشاب ملفيل تجربة شخصية شاقة ، ولأنه كانت موهوب فقد شرع فجأة يكتب فنا روائيا معتمدا في طرف منه على مغامراته ، ومستعملا مواد أدبية هو أول كاتب أميركي يستعملها ، فكانت رواية " تايبي "  التي صدرت في لندن ونيويورك في 1846 أول رواية حديثة عن المغامرات في البحار الجنوبية مثلما أن رواية " موبي ديك " اللاحقة كانت أول رواية كلاسيكية عن ركوب البحر . والحق أن أكثرية رواياته تقريبا تتناول تجاربه السابقة على تسريحه من سلاح البحرية . وحفزته طاقاته الأدبية الكبيرة تحفيزا  تواصل أحد عشر عاما كتب خلالها عشرة مجلدات ضخمة من الأدب الروائي إلا أنه لم يكتب أي رواية عقب 1857 ، وبدا أن حياته دخلت في اضطراب مثل لغزا لنقاده لا نهاية له أثار اهتمامهم وحاروا في تفسيره . ويمكن القول إن النجاح أربك ملفيل بدايةً ، فرواية " تايبي " اتصفت بمزايا أهلتها لتكون عملا كلاسيكيا إلا أن كاتبها صُنف شخصا سيء الصيت عاش وأكل  مع أكلي لحم البشر ، وعشق فاياوي ( بطلة رواية " تايبي " ، وهي حورية رشيقة وجميلة ، زرقاء العبنين ، بشرتها زيتونية ندية ، وغدائر شعرها سبطاء سوداء .المترجم )   ، وهذه منزلة رديئة دنيئة لشاب تزوج منذ حين قريب ابنة رئيس محكمة بوسطون . وحققت رواية " أومو " التي صدرت في 1847 نجاحا بصفتها رواية مغامرات في المحيط الهادىء ،وإن كانت أدنى مستوى من " تايبي " . أما " ماردي " التي صدرت في 1849 فحيرت جمهورا عاف الألغاز والأحاجي الرمزية إلا أن رواية " ردبرن " في 1849 ، ورواية " السترة البيضاء " في 1850 كانتا روايتي مغامرات مثيرة مع أن " ردبرن " ، ومثلما ألمحنا سالفا ، تفرد جمًا من طاقتها للهجاء الاجتماعي في حين تركز الثانية ( السترة البيضاء ) على صنوف الجلد العنيف وسواه من صنوف القسوة والتحقيرات التي يلقاها المجندون في سلاح البحرية ، والبحارة جملةً . وفي 1851 نشرت رائعة ملفيل الروائية " موبي ديك " ، وهي رواية مغامرات قوية وحقيقية مبنية على توله المؤلف بالحوت وصيده ، وذات رمزية قوية تمثلها شخصية القبطان أهاب الذي لقي حتفه بسبب غضبه الذاتي من الحوت أو الشر الذي يمثله في رأيه . وينظر إلى الرواية في زماننا بوصفها واحدة من ثلاثية تشمل روايتي " ماردي " ، و "بيير " إلا أن أيا منهما لم تحقق شمولية " موبي ديك " أو نجاحها ، وإن كانت الروايات الثلاث تجسد صراع الإنسان في مواجهة مصيره على صعد من التجربة متباينة . وفي 1850 أنشأ ملفيل لنفسه بيتا في أرو هيد ، وهي مزرعة قرب بتز فيلد في ولاية ماساشوستس ، وهناك أتم " موبي ديك " جوار صديقه الجديد ومحفز الهمم هوثورن ، وكان ملفيل حينئذ في أرفع درجات أدائه أدبيا إلا أنه لم ينشر سوى رواية واحدة جيدة هي " حكايات بيزا " في 1856 ، ومجموعة من الروائع القصيرة مثل  " بينيتو سيرينو " ، و " كاتب العدل بارتلباي " . وشُجِبت رواية " بيير " لدواعٍ خلقية ، ولاضطراب ظاهر في عناصرها السردية ، وللرمزية في تلك الرواية الغريبة التي تتناول سفاح المحارم incest >   . وروايتاه " صانع  فخار إسرائيل " في 1855، و " الرجل الثقة "  في 1857 تنالان الآن بعض الاهتمام إلا أنهما لم تكونا ناجحتين زمان صدورهما ، وكانتا علامتين على آخر جهوده ليحيا حياة أدبية . والقراء إجماعا لم يفهموا المعاني الرمزية في مؤلفاته ، وكانت مبيعاتها ليست بالمرضية ، ولم تُعَد طباعتها بعد أن احترقت لوحات طباعتها في دار أحد الناشرين . وما فتئت أربعة من دواوينه الشعرية تحظى بالإطراء الحسن وإن لم تستقبل في زمان صدورها بالترحاب والرضا .وبعد سنين شاقة ومريرة استقر ملفيل في 1866 في وظيفة متواضعة في نيويورك ؛ وظيفة مفتش جمارك في شارع جانسيفورت الذي حمل اسم أسرة أمه النابهة الصيت . ورحل قبل استقراره ذاك إلى الأرض المقدسة ، فلسطين ، بحثا عن اليقين والإيمان ، وألهمته الرحلة كتابة " كلارِل " ، وهي قصيدة لا استواء في جودتها تحوي استكشافات روحية ، وصورا وصفية أو سمات غنائية قصصية قوية  تعزز الرؤية الغنائية في رواياته ، وسبق بخصائصها الشعرية خصائص شعرية كتاب القرن العشرين . وشغلته الحرب الأهلية عميقا بقضية إنسانية ، وجعلته ينتج شعرا ذا حساسية في " نصوص من المعركة ، وجوانب من الحرب " في 1866 . وإضافة إلى " كلارل " في 1867 أصدر ديوانين أصغر منها هما " جون مار وبحارة آخرون " في 1888 ، و " تيموليون " في 1891 . ونراه يستعيد في رواية " بيلي بد " كامل قواه في سني حياته الأخيرة . وقد شغلته كتابة تلك الرواية القصيرة من نوفمبر 1888 إلى أبريل 1891 ، ولم تكن مخطوطتها مهيأة للطباعة حين توفي في 28 سبتمبر التالي من العام ذاته . وللرواية صلة بمغامراته المبكرة في البحر ، وموضوعها واضح الصلة بموضوع " موبي ديك " إلا أن لُباب روحها يبطل التمرد الغضوب للقبطان أهاب . وفي مصالحتها للعابر الزائل مع الخالد الباقي إحساس بالسلام والتكفير عن الذنوب . والثابت أنه ما من ناقد أو صاحب رأي شرح عظمة ملفيل شرحا كاملا ، وهي عظمة تعلو فوق  ما في كثير من نصوصه من ضعف البراعة الأسلوبية ، والدلالات المبهمة الناجمة عن خلط سيرته الذاتية بالأحداث التي يبتدعها ، وانعدام سيطرته على رموزه ، أو وضعه الصاعقة الما وراء طبيعية جنب النقاش الواقعي أو الواقعية المألوفة . وهو بعد نجاته من إهمال معاصريه ومن الاهتمام المحكم الذكي للنقاد المحدثين يبدو فائزا بالاعتراف له بقوة وتأثير " تايبي " ، و " موبي ديك " ، و " حكايات بيزا " ، و " بيلي بد " ، وبعض القصائد .

*عن كتاب " التراث الأميركي في الأدب " لمجموعة مؤلفين .

وسوم: العدد 907