قفة الحمّال

بقلم: الشاعر التركي محمد عاكف

ترجمة: عبد الوهاب عزّام

قبل خمسة عشرة يوماً غدوت على عادتي من داري مبكراً، ومحلتنا في أطراف استانبول فليس يستطيع السير في أزقتها إلا من يحسن السباحة، ما تزال تعترض سبيله بحيرة مائجة بعد أخرى. فإذا أظلم الليل فليس إلا الصبر على اللأواء، واحتمال ما يرمي به القضاء. لا بد من قنديل في إحدى اليدين وعصا في الأخرى. هذه سبيل النجاة لا سبيل سواها.

وكانت في يدي هراوة أتحسس بها الطريق، إن أصابت جزيرة وقفت، وإن لقيت بحراً وثبت. ويأوي دليلي الأمين إلى أطناف الدور العتيقة المتداعية، ويلوذ بجدرانها فيصدم شيئاً ضخماً. نظرت فإذا سقط كبير قديم. قلت سقط حمّال. لمن هذا ليت شعري؟ ويقبل غلام في الثالثة عشرة عامداً إلى السقط بعصا غليظة، فما زال يرفع عصاه جاهداً ويهوي بها دون وعي حتى تدحرج السقط خائراً منهوكاً.

- قد مات أبي تحتك وأنت لا تزال في وسط الزقاق جاثماً متعجرفاً! وبرزت من دارٍ أمامنا امرأة في خريف العمر.

- ويلك يا بني! هلمّ إليّ، كفّ. إياك أن تحطمه، مالك وللسقط يا بني؟ إنه أخرس لا فم له ولا لسان. لقد ارتفق به أبوك سنين ثمانياً، وكان يقوم إنه سقط مبارك، قلما بقيت تحته بغير حمل، وقد ذهب أبوك فهو اليوم كاليتيم. وستعول به أمك وأخاك. أطفل أنت؟ ألا تعرف ما ‘عليك؟

- قلت: استمع يا بني إلى أمك.

فصاح الصبي متجهماً:

"يا ذا اللحية ألا عمل لك؟ اذهب من هنا إلى جهنم. اذهب ما وقوفك هنا هاذياً في هذا الغداة، إن قلبي يشتعل. قد ذهب أبٌ لي كالجبل.

- ماذا تبغي الآن من رجل في مقام أبيك؟ اسمع يا بني..

- دعيه يا سيدتي إنه طفل، أنا لا أبالي ما يقول.

- ما اسمك يا بني؟

- حسن.

- اصغ يا حسن. إنك ستضير نفسك بهذه الحدة. لقد احترق قلبي يا بني حين عرفت مصيبتك، ولكن أباك قد أوصى إليك وذهب. فانظر كيف جاهد السنين الطوال ورباك بعرق جبينه! وكذلك عليك ألا تترك أخاك يتيماً، عليك أن تربيه.

- بالسقط؟ أكذلك؟

- نعم نعم.. ما هذا الكلام يا بني؟ أعار أن تعمل؟ ثم إن تحمل الأعباء؟ إنما العار الاستجداء. إنما العار أن تسأل الناس ولك يد ورجل.

- ما أصدق ما قال عمك يا ولدي. قبّل يا بني يد عمك.

- أنسيت سريعاً ما قالته امرأة جارنا؟ ألم تقل: "يا حسن! خالي ضابط في إحدى المدارس ولو كلمناه مرة لأخذك إلى المدرسة، انتظر سأكلمه".

- فلا تعلّميني أنت واجعليني في هذه السن حمالاً.

*  *  *

عرفت أن الحديث طويل، وأنه سيزداد طولاً، وكانت مشاغلي كثيرة ذلك اليوم، فتركتهما، ليت شعري ما خطب حسن المسكين اليوم؟

لي بنيّة عرمة لا تستقر في الدار. خرجت بها إلى الفاتح بعد العصر بقليل. فبينا ندخل من باب الفحامين راق البنيّة منظر الجمل، تعجب من هذا البدن المعوج، وذلك العنق المفرط في الطول، وهذه الأرجل، وهذا الذيل المعلق من خلفه، هذا الذيل أليس هذا كله عجيباً؟

التفت ورائي فإذا على خطوات منا شيخ ربعة، وضاء الوجه مشرق السيما. وقد لف على وسطه شالاً وعلى رأسه يابانية، وبجانبه صبي ينوء تحت سقط كبير. أقبلا يمشيان الهويني. فوا عجباً!!! هذا هو الصبي الذي رأيته ذلك الصباح....

أي مرأى! مرأى يذيب القلب ويذهب اللب: رِجْلان هزيلتان عاريتان إلى الركبتين، وبدن يرعد تحت ثوب رقيق يكاد يتجمد من البرد، وقدمٌ حافية ورأس حاسر. لم تكن نفساً هذه اللهثات، ولكن أنيناً مديداً، ولم تكن نظرات هذه اللمحات ولكن بكاءً شديداً. ياله بؤساً حافياً حاسراً، وإنه لحسرة ذلك الجبين المجعد في الثالثة عشرة.

ويخرج من المدرسة الرشدية أفواج من الطلبة قد انتظموا صفوفاً. وساروا قليلاً ثم وقفوا.

ما أقسى هذا المنظر على قلب حسن التعيس! أجل غلمان تفيض منهم نغمات النعمة والشباب، يطير كل منهم إلى عشه السعيد. وسيفرغون للعب عما قليل، هؤلاء سعداء.

وحسن فسيحمل أبداً على كتف الفاقة هذا السقط المشؤوم الذي ورثه عن أبيه – السقط الذي أراد أن يحطمه حين بصر به في طريقه.

ليس هذا حِملاً ولكنه عقاب المقادير لهذا البريء. وا حسرتاه، ما ذنبه، ما ذنب هذا المعاقب الذي لا يدري ما ذنبه؟..