صنّاع الحرب

تحقيق لماثيو إيكنز

مجلة وايرد، عدد شهر 11 تشرين الثاني 2013

قد يكون مصنعو الأسلحة في حلب رجالاً ذوي اهتمامات عادية، مدراء شبكات، رسامين، أساتذة. لكن مع بدء الأزمة الدموية في سورية، اضطر هؤلاء لأن يستخدموا كل ما لديهم من قوة وإبداع من أجل تزويد رفقائهم المقاتلين في الثورة بآلة الموت، أولئك الراكضين تحت عجلة الموت التي لا تتوقف في سورية.

متراجعاً خطوات إلى الوراء، ينطق ياسين باللغة العربية "السلام عليكم" وهو يسحب بوابة المدرسة الحديدية الثقيلة. تعلو وجهه ابتسامة عريضة، ويمد يديه الملطختين حتى ذراعه بمسحوق الألمنيوم ويقول "أهلا .. أهلا". عائداً يشير بيديه لأتبعه. مشينا سوية على الطريق القصير نحو الباب الأمامي، بعيداً عنا تم بسط تشكيلة من معدات حربية وذخائر على الأرض الخرسانية، قنابل لم تنفجر، قذيفة هاون عيار 88 ملم بيضوية الشكل، قذيفة كبرى من وزن 500 باوند (226 كيلوغرام) مذيلة بما يشبه الزعانف، قنابل عنقودية روسية الصنع مصفوفة بشكل أنيق وقد أزيلت عنها مفاتيح الصمامات. "لاحقاً .. سوف أفتحها فيما بعد" قالها وحاجباه يهتزان دلالة على الترقب.

المدرسة ذات الطوابق الأربعة، والمبنية على هيئة حرف C باللغة الانجليزية، تطوق مجموعة من ملاعب كرة السلة المعبدة بالحجارة والبلاط، وفي نهايتها تتسلل العتمة من فوهات صغيرة أحدثتها القذائف في جدرانها. في الساحة المركزية و قرب الباب المؤدي إلى المدرسة، رُصت مجموعة من كراسي البلاستيك البيضاء مع طاولة صغيرة. وصبي صغير غارقٌ في صمته يتمشى في الساحة.

يستدرك ياسين ذاته بعد وهلة التشتت، ليقول: "دعونا نرى! الشاي أم القهوة؟" متفكراً ومتأملاً في هذا الأثاث البلاستيكي الموجود.

مساعد آخر لياسين، رجل كبير في السن ذو سترة تبدو قذرة، يخرج متمشياً نحونا ليقف حاملاً أسطوانة فضية اللون بحجم زجاجة صودا. يوجهها الرجل نحو الضوء، ملفوفةً في شريط أحمر، ومغطاة بشريط بلاستيكي شفاف وبراعم ذات فتيل أحمر، يطلقها الرجل نحو الضوء.

فرقع الفتيل حين تقدم الرجل خطوات للأمام، ورمى بالأسطوانة بطريقه مخادعة في الساحة، حيث ارتدت بقوة وتدحرجت لتتوقف بعد ذلك على بُعد 30 ياردة منهم.

بينما كان ياسين ينظر صاح "انفجار!"

موجة تصفيق تصم الآذان، انفجار القنبلة كون سحابة من اللهب والدخان لم تنقشع بل استمرت تضرب وجوهنا. يهرول ياسين إلى الأمام جالساً بطريقة نصف منحنية متفحصاً الفوهة التي خلفها الانفجار.

يتراجع إلى الخلف ببطء ويهز رأسه ويتمتم: "إنها سيئة، سيئة للغاية!". لكنه فيما بعد يتذكر ضيفه ليشرق وجهه بابتسامة قائلاً "من فضلك تفضل بالجلوس".

الصراع في حلب، كما استشرت الحرب الأهلية في كل مناطق سورية لتصل إلى طريق مسدود منذ أكثر من عام، تحرك الثوار المقاتلون في أكبر مدن البلاد في أواخر صيف 2012 ليستولوا على ما يقارب ثلث المدينة في غضون بضعة أسابيع، لتبقى على الرغم من كل ذلك حرب المدن الطاحنة المستمرة بين النظام والثوار.

أصبح شأن سكان حلب هو معايشة العنف، وكان أبو ياسين مصمماً على إكمال هذه المهمة ببراعة. فهو مهندس شبكات سابقا، وقد بات واحدا من أقوى وأبرع مصنعي القنابل في حلب، وبات ازدهار صناعة الأسلحة المنزلية أحد الأمور التي حافظت على الثورة السورية. يفيض مصنع ياسين المتواجد في داخل مدرسة مهجورة بالمئات من المواد المتفجرة كل يوم، وهو يسعى باستمرار إلى ابتكار طرق جديدة لقتل الأعداء.

بعد أن جلسنا على الكراسي البلاستيكية، عاد الفتى محضرا صينية تحمل أكوابا من القهوة التركية. على بعد ربع ميل عنا، كنا نسمع إطلاق النار والقصف على خط الجبهة الأمامي ودوي المدفعية، وصوت ارتطام الفتات والشظايا.

بصورة دورية، كان المساعد الكبير في السن يعود ليلقي قنبلة أخرى في الفناء، كان انفجارها وما تعصف به من فتات اسمنتي يتطاير على الطاولة البلاستيكية ويقطع حديثنا.

يعود ياسين جالسا القرفصاء ليتفقد مرة أخرى الفوهة التي أحدثها الانفجار. أضاف صانع القنابل نتروسليلوز إلى المزيج اليوم، في محاولة لإضفاء المزيد من القوة الناسفة، ثم يتحقق من نترات الألمونيوم المتبقية في الحفر، والتي من شأنها أن تشير إلى وجود ردة فعل غير ناجعة.

بعد قليل وصل ثلاثة ضيوف يقتادهم شقيق ياسين الأصغر "أبو علي" (كثير من الثوار يتخذون لأنفسهم أسماء أبنائهم كاسم حركي، وقد استخدمت هذه الألقاب بناء على طلبهم). علي، الذي يدير نصف الأعمال في هذه العملية، كان يمتلك متجر تسويق صغير في حلب قبل الحرب، وهو ذو لحية كثة على وجه عريض، يرتدي ثيابا ممزقة ومانطو جلدي طويل وسترة ذات ياقة مدورة، ورقبة مرتفعة ملطخة ببقايا الشحم والزيت.

وقد أحضر معه قائدا للثوار المقاتلين، وهو رجل قوي البنية يضع سلاحا في حافظة الكتف، ومعه آخران من القادة المقاتلين، وقد عادوا لتوهم من الخط القريب من الجبهة. "أنا بحاجة إلى 50 من كل نوع من القنابل" قال القائد لياسين الذي أومأ إلى مساعديه.

بينما كان الجنود يعبرون كي يحملوا القنابل محلية الصنع للسيارة التي تنتظرهم، كان ياسين والقادة يسيرون نحو ما يسمى مكتب المدير الذي تعلو أحد جدرانه علم الثوار ذي الألوان الثلاثة، الأخضر والأبيض والأسود مع نجوم حمر ثلاث، تحتها راية سوداء عليها تعبير عن عقيدة الإسلام كتب بخط عربي صارخ أبيض اللون، وقد ارتبط هذا النوع من الأعلام بالجماعات الإسلامية المرتبطة خصوصا بالقاعدة.

تحتل وسط الغرفة طاولة خشبية طويلة، ملقاة عليها عينات من أعمال ياسين: قذائف هاون، صواعق، ألغام مضادة للدبابات، زجاجات ألمونيوم كريهة الرائحة ونابالم، رمانات إطلاق قنابل يدوية، قنابل مختلفة في الأشكال والأحجام. وفي الزاوية يقف روبوت مموه باللون الأخضر، مع أربع عجلات وذراع واحدة تنتهي بمخالب.

أخبر القائد ياسين عن العملية القادمة لاستعادة مسجد سقط في يد النظام

مداعباً لحيته أومأ ياسين بالموافقة. وبدأ بحساب كل شيء على وجه الدقة: المتفجرات والألغام التي ستفيد في العملية وكم ستكلف وكيف بإمكانه الموازنة بين مطالب هذا القائد وبين مطالب عشرات الجماعات الأخرى المقاتلة التي تتوافد إليه كل أسبوع تقريباً، يائسة تبحث عن أسلحة.

قرابة 100,000 شخص قتلوا، والثوار المقاتلون كما يعلم الجميع سوف ينضمون إلى الموتى إذا انتصرت حكومة بشار الأسد.

هم أصحاب أنماط حياة عادية، كثير منهم كانوا في الطبقات المتوسطة أو أصحاب أعمال مهنية، لكن تلك الأيام لن تعود، فهم يقاتلون الآن من أجل حياتهم وبلادهم، لكن أبو ياسين يقاتل أيضا من أجل خلاصه الشخصي، من أجل انتصار قد يبرر في وقت لاحق بأثر رجعي، الغاية التي كرس من أجلها قدراته الإبداعية.

بعد مغادرة القائد، جلس ياسين في المكتب. وحتى تنتهي الحرب، سيكون أقرب إلى مدير لهذه المدرسة. يتناول سيجارة بأصابع فضية ويشعلها بقداحته من ماركة سوني إريكسون. يرتدي بدلة رياضية رمادية اللون، وشعره مجعد مغطى بكوفية قطنية بلون برتقالي وأسود وقد لف ذيولها عبر جبينه على الطراز العربي. سترته المبطنة بالفراء تضفي عليه نوعاً من الريفية، ولكنه يتحدث مطولا بأسلوب يميل إلى أسلوب أستاذ في حقل التعليم. فعندما طرح السؤال نظر بتدرج إلى الأعلى نظرة متروية وهو يحرك أصابعه على لحيته كأنما يقرع طبلاً، ثم يتمتم "حسنا" قبل أن يجيب. وجنتاه هزيلتان و مرتفعتان ومحمرتان بفعل الشمس، وعندما كان يتحدث كانت عيناه تضيقان وتنتفخان بقوة.

يشعل سيجارته، ويتحدث ياسين عن اليوم الذي بدا فيه أن الأسد من الممكن أن يسقط حينما كان يعمل في لبنان في تأسيس وإدارة شركة من شركات تقنية المعلومات في بيروت. كان المكتب مكانا للعقلانية والإنجاز، كان متجرا لمايكروسوفت، حيث كان ياسين يرتدي حينها جاكيت بربطة عنق، مقسما وقته بين شقته في بيروت ومنزله في العاصمة السورية دمشق حيث تقطن زوجته وطفلاه. وعلى الرغم من أن غالبية السوريين قد عانوا على مدى عقود من من الركود الاقتصادي والعزلة العالمية إلا أن الراتب السنوي لياسين كان يساوي 25 ألف دولارتقريبا، مما يعني أنه كان على قدر جيد من الحالة المادية ولم يكن له شأن بالسياسة أبداً.

عندما وصل الربيع العربي إلى مصر وليبيا وامتد إلى سورية وأعطيت الأوامر للجيش بالنزول إلى الشوارع، لم يستطع ياسين تصديق ما يحدث، وهو الذي كانت شقته ببيروت  ملاصقة لقناة الجزيرة، مستغربا الفوضى التي تعم الشارع السوري ومندهشا من التحدي الصريح للأسد.

حتى ذلك الحين كان ياسين يتابع هذه الاضطرابات كمشاهد مهتم، لا كمشارك. احتفظ بمنصبه وعبر الحدود، وحين شارف عام 2011 على النهاية اتجهت الثورة إلى العمل المسلح واتخذت صورة مختلفة عن ذي قبل. صارت المقاومة أقوى بين المسلمين السنة الذين يشكلون قرابة 75% من مجموع سكان سورية، أولئك الذين سئموا حكم العلوية، هذه الطائفة التي تمثل واحد إلى ثمانية من السوريين والتي احتوت بالصدفة حافظ الأسد وابنه بشار الأسد الذين حكموا الشعب والبلاد من عام 1970.

ياسين ينتمي إلى عائلة سنية في حلب، أخوه ووالداه لا زالوا يعيشون في المدينة، التي ما زال الموت فيها مستمراً.

جذبته فكرة الذهاب إلى القتال بجوار أصدقائه وأهله، واستقال من وظيفته بالفعل، وعاد إلى دمشق. قبل زوجته وأولاده مودعاً لهم وكانت تلك آخر مرة رآهم فيها. ليسافر 200 ميل إلى الشمال في أوج الحرب الأهلية، وعبر خطوط النظام إلى الجزء الذي يسيطر عليه الثوار المقاتلون من المدينة.

في الوقت الذي وصل فيه، وجد أن علي قد انضم بالفعل إلى مجموعة من المقاتلين في جنوب المدينة، في حي الطبقة العاملة في صلاح الدين. ياسين تطوع في البداية عاملاً كسائق لسيارة إسعاف، مما أتاح له أن يشهد عن كثب وعن قرب حجم التضحية البشرية التي كان يقدمها المقاتلون. في المرة الأولى التي قاد فيها سيارة الإسعاف أصيبت السيارة بقذيفة هاون بعد أن قُدر له الخروج منها، وفي المرة الثانية نجا بعد أن أصيب خزان الغاز الخاص بالسيارة بإطلاق نار أثناء قيادته.

في هذه الأثناء، لاحظ ياسين معاناة مجموعة أخيه القتالية كغيرها من المجموعات المتواجدة في أنحاء المدينة، من نقص الذخيرة. لدى مجموعة صلاح الدين 85 بندقية مهربة، و36 رشاش كلاشنكوف اغتنمتها من النظام. في المقابل، يمتلك الأسد جيشا محترفا مجهزا برشاشات ثقيلة، دبابات، مدفعية، وسلاح جو. في أحد الأيام كان ياسين في مقر كتيبة محلية تبذل قصارى جهدها لدعم مجموعة من المقاتلين، وشهد وصول قائد وطلبه للذخيرة. كانت الذخيرة ضئيلة جداً، فوزع القائد 50 رصاصة على كامل مجموعته. ارتسمت على وجه القائد علامات اليأس، فهو كمن يرسل رجاله للموت.

كان ياسين شارداً. فهو ﻻ يملك أي خبرة عسكرية. وقد درس ليكون محامياً، وعمل مندوباً للمبيعات لشركة تجارية تعمل في الاستيراد والتصدير. ثم عاد للجامعة لدراسة هندسة الشبكات.

هو الآن في سن التاسعة والثلاثين، ويريد أن يعيد اكتشاف نفسه من جديد. ترك ياسين وآخرون خطوط القتال الأمامية ليقوموا بعمل جديد، سيطلقون عليه اسم "كتيبة الهندسة العسكرية". بدؤوا عملهم بما ادخروه قبل الحرب. لم يتمكنوا من صناعة ذخائر للبنادق، لكنهم صنعوا متفجرات وقنابل لمساعدة المقاتلين في الحفاظ على الذخيرة. مستخدمين علاقاتهم التي كونوها مع وحدات أخرى من الثوار، وبالاستفادة قليلا من المدرسة التي أصبحت خاوية ومكسرة النوافذ لتعرضها للقصف من الجهة المقابلة في صلاح الدين، قاموا بكنس الساحة من الزجاج وبدؤوا بالعمل.

يقوم العمال بتجميع القنابل في مصنع أقاموه بمنطقة يسيطر عليها الثوار في حلب

أحدث المتفجرات المصنعة تأتي قوتها من خليط يحتوي مركبات معقدة من النتروجين، ونترات الأمونيوم، وواحدة من أكثر الأسمدة انتشاراً في العالم قد تفي بالغرض، حيث يمكن الحصول عليها بكميات كبيرة، ويتم استخدامها بشكل واسع في المناجم والمقالع بسبب رخص ثمنها. ولأنه من السهل جداً الحصول عليها، فهي مفضلة للإرهابيين والثوار في أنحاء العالم.

"أي فلاح يمكنه الحصول عليها" يحدثني ياسين في المدرسة. دخلنا أحد صفوف المدرسة الذي تم إفراغه تماما من الأثاث، ووضعت فيه أكياس من فئة 50 كيلو غرام تحتوي أسمدة تركية مجمعة على جدار بعيد ومحاطة بعدد من القذائف المدفعية الخاوية وأسطوانات طويلة من الألمنيوم ليتم استخدامها مستقبلا في صناعة القنابل. يعمل هناك رجل كبير في السن ومعه شابان يافعان ـ ﻻ تتجاوز أعمارهما 12 سنة ـ يعملون بدون قفازات أو أقنعة، ووجوههم وأيديهم سوداء وكأنهم عمال مناجم. يقومون باستخدام مجرفة بخلط كومة كبيرة من مسحوق رمادي يتطاير بعضه في الهواء بينما يتساقط ضوء الشمس القادم من النوافذ الزجاجية عليه. يتم خلط العديد من المواد الأخرى مع نترات الأمونيوم لزيادة قوة الانفجار. المازوت (مادة الفيول) أكثر هذه المواد استخداماً. يدعي ياسين أن هناك خلطة مميزة سرية من تسعة أجزاء، أهم عنصر فيها هو مسحوق الأمونيوم، ذلك الغبار الفضي الذي غطى يديه ومرفقيه. أخذ نظرة الخبير على الكومة. ثم قال إنها لم تمزج بشكل كامل بعد، كما بإمكاني انتقاء هذه المواد بناء على لونها وملمسها: السماد المائل للبياض، حبيبات TNT السميكة، الفحم الأسود المطحون، وغبار الأمونيوم الفضي.

من المتعارف عليه في هندسة المتفجرات، أن الأمونيوم مادة "غير حساسة" مما يجعلها صعبة الانفجار. إن فكرنا بإشعال النار في مخيم مثلا، علينا أن نشعل ورقا لنصنع لهبا وننتظر النار حتى تشعل الخشب السميك. والمتفجرات على نفس الشاكلة، تحتاج لمواد أولية عالية الحساسية لأي تماس مع فتيل مشتعل أو شرارة إلكترونية. يستخدم ياسين وأخوه محرك البحث غوغل google لإيجاد تعليمات تصنيع المتفجرات الشائعة، مثل متفجرات الزئبق، وأكسيد الرصاص. ثم يذهبون لمخبر الكيمياء في المدرسة ويجربون الخلطة. في أحد الأيام عندما كان علي وآخرون يصنعون الزئبق المتفجر، انفجر الخليط بهم، وأصيب أربعة أشخاص بفقدان الأعين والأصابع، بينما أصيب علي في وجهه ويديه من شظايا الزجاج. ومنذ تلك الحادثة أصبح ياسين يؤمن عبوات تفجير تجارية من تركيا كلما أمكنه ذلك.

عندما أنشأ ياسين وعلي الكتيبة، كان أول منتج هو القنابل اليدوية التي يمكن أن يستخدمها الثوار في المواجهات القريبة في المناطق السكنية المتلاصقة. قاموا بجمع المتفجرات مع قطع معدنية صغيرة يمكن أن تتحول إلى شظايا قاتلة، ووضعوها جميعاً في أنابيب بلاستيكية ثم أضافوا المفجر والفتيل. وما إن أتقنوا مبادئ صناعة القنابل، حتى انتقلوا لتجهيزات أكثر تعقيداً. القنابل الكبيرة مثلاً التي تصنع من أسطوانات إطفاء الحريق الفارغة أو عبوات غاز البروبان، والتي يمكن دفنها ومن ثم تفجيرها بواسطة سلك عند مرور قوات النظام. أيضاً الألغام المتطورة المضادة للدبابات والتي تستخدم ضد العربات المصفحة، هذه الألغام كانت السلاح الأساسي والمميت الذي أنهك القوات الأمريكية في العراق.

وبينما يزول الشتاء يعود الناس إلى الشوارع، كان ياسين يحلم باختراعات أكثر جرأة، ولذلك فهو بحاجة لمصنع حقيقي مزود بآلات ومهندسين قادرين على صناعة الالكترونيات. في كانون الثاني استحوذ ياسين على ورشة ميكانيك في المدينة القديمة، حيث يتمكن من تصنيع سلاح مماثل لما يحمله في يده. في أحد ردهات المدرسة كانت ثمة قذيفة هاون زيتية اللون عيار 75 ملم آتية حديثاً من تلك الورشة. كانت أكثر صناعة محلية متقنة رأيتها. "هذا نتيجة شهر من العمل والتعديل" كما يقول ياسين وهو يقلب الهاون،وتابع  "يستغرق صقل السطح الداخلي للأسطوانة ثمانية أيام". في الحقيقة، كان ملمس الهاون من الداخل ملساً للغاية، والأسطوانة مرتبطة بقاعدتها مع زوج من الشفرات المصقولة، على شكل كرات البولينغ مدهونة وملمعة.

يبيعها ياسين بسعر 500 دوﻻر، وهو سعر رخيص مقارنة مع سعرها في السوق السوداء في حلب والذي يصل إلى ألف دوﻻر. وياسين ﻻ يهتم كثيراً بالربح، وما إن يتقن صناعة إحدى التجهيزات حتى يبحث عن طرق رخيصة لتصنيعها. فعندما صنع القنابل بشكل محلي استطاع أن يخفض التكلفة عن طريق استخدام مخلفات معدنية أخذها بشكل مجاني من أحد مصانع المولدات. وهذا ما خفض تكلفة تصنيع القنبلة الواحدة لما يقرب من 3 دوﻻر، وهو السعر الذي يبيعها به.

سألته عما يخطط لفعله ﻻحقاً. فأخذ يبحث تحت كتبكبيرة كانت موجودة على الطاولة ليخرج قطعة نحاسية ويعطيني إياها قائلاً "ألقِ نظرة على هذه". أخذت أقلبها بيدي، وبدت لي على شكل سبيكة.

قال لي "إنه مفجر حساس للضغط"، "انتبه، إنها تعمل". فجفلت وأعدتها له ثم سألته لماذا تستخدم.

أشار إلى كومة من القطع المعدنية في زاوية ما، وكأنها أجراس إنذار قديمة خاصة بالحرائق . إنها ما يعرف في المصطلحات العسكرية "أجهزة الانفجار التي تديرها الضحية"، أو باللغة المبسطة، الألغام الأرضية.

عينة من قنابل أبو ياسين المحلية

مشروع ياسين في صناعة الأسلحة المحلية ليس الوحيد بين الثوار السوريين. وعلى خلاف ما جرى في بلدان عربية أخرى سرت فيها الحرب في السنوات الماضية، وخلافا لمصر وليبيا والعراق، فقد وصل الثوار لقناعة جلية بأن عليهم تسليح أنفسهم بأنفسهم. اضطرتهم إلى ذلك الحاجة والفرصة النادرة، بعد أن سيطر الثوار على مناطق واسعة حيث صار بإمكانهم إنشاء ورشاتهم بعيداً عن هجمات النظام. كذلك فإن بعض دول المنطقة مثل السعودية وقطر، قامتا بدعم الثوار، وقررت الولايات المتحدة في حزيران البدء في برنامجها المحدود للتسليح. ولكن الأسلحة لازالت شحيحة بما يدفع الثوار للاستمرار في تصنيع أسلحتهم. وكانت المنطقة المحيطة بحلب والتي كانت مركز الصناعة الثقيلة في سورية منطقة خصبة لهذا العمل، بعد أن سيطر الثوار على الورش الميكانيكية ومصانع الصلب ومحطات توليد الكهرباء، وحولوا كل ذلك لما يخدم الحرب.

بعض إبداعات الثوار غاية في الغرابة. عندما سألت عن منجنيق خشبي رديء المنظر بطول 15 قدم، والذي يستخدمه مصنعوه الفخورون به لقذف رشقات من القنابل بوزن 4 باوندات، أخبرني منتجه أنه استلهم فكرته من لعبة الكمبيوتر "Age of Empries". مخترع حلبي آخر ذاع صيته بسبب سيارة مصفحة سميت "شام2” (كتطوير لطراز موجود بالفعل اسمه "شام"). مقعدان في الداخل وشاسيه قديم، مع صفائح معدنية ملحومة في الخارج، وبينما يسوق أحد الراكبين، يقوم الآخر بالنظر لشاشة مركبة وبالتحكم بقبضة بلي ستيشن "Play Station" ليصوب ويطلق النار من رشاش موضوع على السقف.

ومع تفتت الثوار إلى عدد غير محدود من المجموعات الصغيرة المستقلة، صار لكل مدينة أو حي صانع سلاح خاص به. لكن المطالبات بقتال جيش الأسد، أدت إلى نوع من التوحد بين الكتائب المتناحرة. في كثير من المناطق توحدت المجموعات في تشكيلات أكبر يطلق عليها اسم "لواء". يتولى كل لواء تجهيز الكتائب التابعة له لوجستياً، ويزودها بالسلاح والعتاد القادم من تركيا والأردن، بالإضافة لإنشاء المصانع وتزويدها بالعمال. وتقوم الألوية فيما بينها بتبادل وتقديم الأسلحة والخبراء.

التقيت في حلب بأبو محمود عفا، دهان سابق، يقود الآن لواء يسمى بلواء درع الأمة. كان يرتدي زياً مموها، ومحاطاً بعدد كبير من المدخنين في مدرسة أخرى مهجورة. ذو بطن كبير بارز، ولحية بيضاء كثيفة، يبدو شكله خليطاً من تشي غيفارا وسانتا كلوز. ضخامته تبرز من خلال ابنه ذي الاثني عشر عاما والذي يرافقه دائماً حاملاً سلاح ميم 16 الذي يبلغ ثلثي طوله.

وافق عفا على أخذي لواحد من المصانع التي أنشأها رجاله، بشرط أن أضع عصبة على عيني، مع وشاح ملفوف حول رأسي. شعرت بالسيارة تلتف وتسير مسرعة عبر طرق حلب الضيقة، وبعد قليل اختفت ضجة السيارات والمشاة لأسمع صوت نيران الرشاشات. لقد دخلنا منطقة أمامية في المواجهات، ثم توقفت السيارة أخيراً، وفُتح باب الراكب، سُحبت وطُلب مني السير بينما يد عفا الكبيرة تقودني.

"من يكون ابن الملعونة هذا؟" أحدهم يسأل ظناً منه أنني سجين.

"صحفي .. إنه صحفي" يرد عفا، ويرفع الوشاح عني أخيرا لأرى النور. جلست في مكان ضيق في غرفة صغيرة ذات سقف منخفض والمروحة المعلقة تدور. عدد من المقاتلين يجلسون على الحصيرة مع أسلحتهم، يدخنون ويحملقون بي بفضول. قادني عفا إلى آخر المكان حيث الثوار قد حفروا حفرة في الجدار، انخفضنا ودخلنا منها لأجد نفسي في مكان آخر حيث تتمركز في منتصفه مخرطة كبيرة ومجموعة من الأدوات والتجهيزات.

قدمني عفا لأبي عابد الذي يشرف على العمل، رجل نحيل أصلع ثوبه ملطخ بالزيت. قبل الثورة كان يعمل في مصنع للذخيرة بالقرب من السفيرة جنوب حلب، وهو المكان الذي استخدمته الحكومة لتصنيع كل شيء بدءا من الرصاص إلى صواريخ طائرات الهليكوبتر الهجومية. عندما انشق والتحق بالثوار، جلب معه معرفته في الصناعة الحربية. "درع الأمة" لديه سلسلة كاملة من المعامل الصغيرة المشابهة لهذا المعمل، وكل منها مختصة بتصنيع نوع محدد من المعدات.

"عادة ما نصنع نموذجا وننتج منه بضعة مئات قبل أن ننتقل لإنتاج شيء آخر" يخبرني عابد.

هذا المعمل يعتبر مركزا لجميع الأنواع، حيث ترسل المعامل الأخرى إنتاجها إليه ليتم تجميعه. وهو المكان الذي يقوم فيه عابد وفريقه بتجربة التصميمات الجديدة. معظم المعدات تم أخذها من ورشة لتصليح محركات السيارات. وعلى الرغم من أنهم يتعاملون مع مواد شديدة الانفجار كان الجميع يدخن، وأكوام من نشارة الحديد وأعقاب السجائر على الأرض. ﻻ يكترث أي منهم لحماية عينيه أو أذنيه، بالرغم من ضجيج المخرطة الذي يملأ المكان وشرارة الحديد الذي يُقطع. "الآن نصنع قطعة للهاون" يقول عابد. الهاون هو مفخرة اللواء، فقد صمموا هاوناً عن طريق تقليد الهندسة المستخدمة في نموذج 82ملم الروسي.

بعيدا عن العبوات الناسفة والقنابل، يظل السلاح المفضل لديهم هو الصواريخ قصيرة المدى، والمشابهة لتلك الصواريخ التي طورها المقاتلون في غزة. لصناعة هذه الصواريخ، فإنهم يقطعون مفاصل في نهايات أعمدة الكرنك في السيارات ليستخدموها في وصل أسطوانة الهاون مع قاعدته. ولإطلاقها، فإنهم يستخدمون طريقة أولية مبتكرة، فبعد أن يجروا عددا من عمليات الإطلاق ليتأكدوا من مجال الهاون وهو بحدود 2 كيلومتر، يقوم الثوار بالبحث في خريطة غوغل عن نقطة مناسبة تقع على نفس المسافة من هدفهم. ثم ينقلون الصاروخ لتلك النقطة ثم يستخدمون البوصلة للتصويب نحو الهدف.

بعد أن تم عصب عيني من جديد، قادني عفا إلى لخارج، لأعود لاحقا إلى الحي الذي أقطن به. الظلام دامس، وقد استلقيت على الحصيرة في شقتي المملة وأنا أستمع لأصوات مدينة تعيش حرباً؛ رشقات من الأسلحة الرشاشة، هدير قذائف الهاون القادمة، قصف المدفعية، أصوات قصف طائرات الميغ الجنوني. النظام يقصف المدينة، والثوار يردون عليه. أستطيع أن أشعر بنفسي في أحد جهات ساحة منقسمة بشكل دموي، هؤﻻء الذين يطلقون النار بشكل أعمى في الظلام، وهؤﻻء الذين ينتظرون بخوف فيها.

أعد أبو ياسين مقطع فيديو ترويجي لكتيبة الهندسة العسكرية التابعة له، ويبدأ بمقاطع من منتجاته: قنابل تنفجر، عبوات تصدر دخان، دوائر الكترونية وعبوات ناسفة مجمعة، تتخللها مقطوعة صوتية درامية تبدو كأنها مأخوذة من لعبة فيديو. ثم يظهر ياسين جالساً في غرفة مظلمة أمام نافذة بحيث ﻻ يُرى إلا ظله. كان منظر ياسين مخيفا. وفوق ظل ياسين يوجد علم الثوار. "بسم الله الرحمن الرحيم" يبدأ بها ياسين، ثم تظهر قائمة طويلة بالمنتجات التي ينتجها مصنعه.

يرى ياسين أن الفيديو جزء من عملية التسويق. لكي يظهر لقادة المجموعات منتجاته، ليتوافدوا إليه. إنه فخور بما حققه بجهوده الذاتية دون الاعتماد على أثرياء العرب أو أجهزة المخابرات الغربية. "ﻻ أحد يملي علي ما أعمل" يصيح ياسين ونحن جالسون في مكتب الإدارة وينقر بيديه على طاولة خشبية. يرتدي نفس الوشاح الفلاحي الداكن والبدلة الرياضية الرمادية التي رأيته فيها أول يوم التقينا به. يطرف بعينيه طالبا كوبا آخر من القهوة السوداء، وتبدو عليه علامات عدم النوم، قائلا "كلهم بحاجة لي".

بعض اختراعاته باءت بالفشل. حاول أن يطور نوعاً من الطائرات المتحكم بها عن بعد لتستطيع حمل كاميرا فيديو بحيث يستطيع استخدام هذه الطائرة كطائرة استطلاع. لكنه لم يتمكن من صنع معدات خفيفة لهذه الطائرة تمكنها من التحليق خارج مدى نيران الأسلحة الفردية. تلا ذلك روبوت بذراع مسلحة، قام ياسين وبعض طلاب الهندسة بالعمل على تجميعه لمدة أسبوعين اعتمادا على طراز أخذوه من موقع ياباني. "كنا مجبرين على تصنيع الدارات الالكترونية بأنفسنا" يوضح لي، "وهذه الدارات لها إمكانات أقل مما يتطلبه هذا الطراز". كان يطمح لاستخدام هذا الروبوت لاغتنام الأسلحة أو لسحب المصابين من أرض المعركة، لكن هذا الروبوت لم يعمل بالشكل المطلوب منه مما منع استخدامه على أرض الواقع.

يبدو أن ياسين يؤمن بأن أي شيء يمكن إنجازه بجمع التجهيزات المناسبة، للوصول إلى الأسلحة المتطورة ومجاراة ما تستخدمه الجيوش. "هناك نوع معين من الدارات الالكترونية التي أبحث عنها" يضيف أيضاً، "وذلك من شأنه أن يمكن الصواريخ من إصابة الطائرات عن طريق تتبع حرارتها".

إنها الثقة بالنفس التي تذكرنا  بالمخترعين الأفذاذ القدامى الذين ليس لهم نظير، مثل الذين ظهروا في العصر الذهبي للإبداع الأميركي كإيديسون، والذين هُجروا من  روب كولدبيرغ في عشرينيات القرن العشرين، أو في الثمانينات من قبل صناع ماكينات الإفطار، في بداية "العودة إلى المستقبل".

بالرغم من حماسه الشديد للتكنولوجيا، فإن ياسين في بعض الأحيان يكشف عن مدى اضطرابه الشديد من منتجاته المميتة. "هذه الأشياء لقتل الناس" يخبرني في إحدى المرات في حديث مفاجئ، "كل مرة أصنع بها قنبلة، أشعر بحزن شديد" يأمل ياسين في نهاية المطاف، في سورية الجديدة التي سيعمل على بنائها، أن يجد مبررا لأيديه الملطخة بالدماء. قال لي في أحد الأيام "أنا متعب من الحديث عن الموت". أخبرني أنه يخطط لمشروع جديد سيطلق عليه اسم "عمار" ليحيي المدينة المدمرة والميتة. وكخطوة في المشروع، يقول إنه اخترع نوعا جديدا من خميرة الخبز والأسمدة السريعة الجفاف لينتج مواد تنظيف كيميائية، ما يكفي لتغطية المدينة بكاملها. وسيبني العدد المطلوب من المعامل. "والجيش الحر؟ لماذا على المدينة أن تمتلئ بالعاطلين عن العمل؟ العمل في معامل كهذه سيحيي فيهم الأمل من جديد" يقول ياسين وعيناه تبرقان. أما متى سيبدأ "عمار"، فهو ﻻ يملك أدنى فكرة. في هذه الأثناء يستدير ليملأ ويميل آلة مملوءة بالمواد المتفجرة ويزيل العناصر الزائدة.

أمر مثير للفضول أن ترى منتجاته قيد الاستخدام. زرت إحدى مجموعات الثوار التي يقوم بدعمها في المدينة القديمة، حيث كانت الطرق ملتوية كسمة من سمات مدينة أنشئت في العصور الوسطى، وأبنيتها من ثلاثة أو أربعة طوابق. وهي قائمة على جدران حجرية سميكة وعالية، وفي داخلها فناء، مما يؤمن إضافة للشوارع الضيقة والطبقات المختلفة، ملاذاً لمقاتلي الشوارع؛ فالطائرات تجد صعوبة في إصابة تلك الأهداف، والدبابات ﻻ تستطيع الدخول لمثل هذه المناطق الكثيفة. في باحات أحد الأبنية الحجرية في حي قلعة حرامي التقيت أبا محمد، وهو قائد عسكري تابع لـ "أحرار سورية". منزل محمد مجهز بشكل جيد، وفيه كروم عنب ومدقات هواء برونزية وسلحفاة برية. كان القائد طويل القامة ذا شفاه رقيقة، ومرتديا بنطالا مموها بألوان الصحراء، وذا لحية سوداء، ومرتديا عمامة، مقرفصا في ساحة المنزل عند قدومنا ومنشغلا بملء مزيج حارق من الغراء الصناعي والبنزين في مجموعة من قوارير نوتيلا الفارغة.

نهض وسار ليريني بقية ترسانته، لديه بعض الصواريخ، وصندوق من قذائف الهاون المعدة محليا، وحقيبة ظهر ممتلئة عن آخرها بقنابل كروية معدنية بحجم حبة البرتقال والمعدة محليا أيضا، ويخرج من أعلاها فتيل، شبيها بالقنابل في أفلام الرسوم المتحركة. بعد ملء باقي القوارير، حمل محمد ورجاله البنادق متوجهين إلى الشارع، حيث سلكنا طريقنا كالفئران، خلال المدينة ذات الهندسة المعقدة. تبعتهم عبر زقاق ضيق إلى فناء أحد المنازل. مررنا من خلال فتحة كبيرة في جدار الفناء وعبرنا ممرا ضيقا بين البيوت، ثم عبرنا إلى سقف آخر، وأخيرا نزلنا إلى فناء ثالث، حيث تنتظرنا مجموعة من الثوار، مرتدين خليطا من الملابس العسكرية والملابس العادية حاملين بنادق هجومية، وزوجا من قاذفات القنابل ورشاشا خفيفا. اشتد صوت الرصاص والانفجارات المنتشر في كل أرجاء حلب. كان صوت أزيز الرصاص واصطدامه مسموعا بوضوح، وقد كان الهجوم على وشك البدء.

الشوارع مهجورة في حي صلاح الدين في حلب

أومأ إلي محمد لأتبعه على عدد من السلالم في آخر الفناء. في الأعلى وعند تراس الطابق الثاني، كان هناك مقاتل يافع ينتظر بجانب عمود معدني بطول ثمانية أقدام وعلى شكل حرف (Y) وتتدلى منه قطعة مطاطية سميكة. أدركت أن هذا الشيء هو مقلاع كبير. يقف بجانبه مقاتل ذو لحية مروحية الشكل وشارب محلوق تماماً، عرف نفسه باسم أبو زكريا. رفع أبو زكريا قنبلة من أحد الأكياس التي جلبها مقاتل آخر. "آنغري بيردز (بالعربية الطيور الغاضبة)" قالها بالإنكليزية مشيراً بإبهامه إلى المقلاع وهو يضحك.

أصوات البنادق تُسمع مرة أخرى، وصفير الرصاص يسمع بوضوح أكثر وهو يمر من فوقنا. صعدنا إلى الطابق الأعلى. يربت زكريا على الحائط المواجه لظهورنا ويخبرني أن مقاتلي النظام على بعد خمسة عشر متراً عنا.

هرولت من الجهة المقابلة من التراس مجموعة أخرى من الثوار، يصرخون علينا لنحتمي. كانوا في الليلة الفائتة قد تسللوا خلال الظلام وزرعوا عبوة ناسفة كبيرة في أساسات منزل استولى عليه جنود النظام، ويريدون الآن تفجيرها. انحنينا ووضعنا أصابعنا في آذاننا قبل أن يهز انفجار ضخم الأرض، ويتلوا ذلك أصوات قعقعة وتساقط الحطام.

وعندما حان وقت مشاركة المقلاع وضع محمد قنبلة في الشريط وأرجعه إلى الخلف بإحكام مقرفصاً على ركبتيه وممسكاً به بكل قوته، ووضع زكريا شعلة سيجارة على الفتيل. مع سماع صوت طقطقة الأصابع، أفلت محمد القنبلة، لكن الزاوية كانت منخفضة كثيراً. سمعنا صوت قرقعة معدن القنبلة ـ ذات الثلاثة دوﻻرات القادمة من كتيبة الهندسة العسكريةـ وهي تصطدم بحائط الفناء وترتد نحونا.

بدأ الجميع بالصياح والصراخ للهرب، وكان قريبا مني باب بدرفتين يصل بالطريق، لكن أحد الدرفتين كانت مغلقة بإحكام، بينما تزاحم ثلاثة آخرون على الدرفة الأخرى، علقت في عنق الزجاجة. خياري الوحيد هو الحمام، فانحشرت فيه واضعاً وجهي على البلاط البارد. ليقفز مقاتل علي قبل أن نشعر بانفجار القنبلة العنيف، والذي أصابني ليس فقط بالصدى، ولكن بالصمت. ولدقيقة كاملة كانت الدنيا صامتة، إلى أن بدأ صوت رجال بالتردد كصوت راديو بعيد. استعدت قدرتي على السمع تدريجيا مع صوت طنين مستمر في أذني. والعجيب أنه لم يصب أحد بأذى.

عاد محمد وزكريا خلف المقلاع وبدؤوا بإمطار القنابل باتجاه النظام، وهذه المرة كانت ناجحة. بعد أن أفرغوا ذخيرتهم، طلب محمد من الجميع التجمع في الفناء السفلي، حيث اجتمعوا في دائرة ليرددوا عبارة "الله أكبر". بعدها انسحبنا مئة متر باتجاه أحد الأزقة، وانتهى الهجوم كما بدأ. فجأة، وبدلا من الاستمرار بالهجوم، استراح المقاتلون لساعة كاملة وتناولوا شطائر الفلافل.

عندما عاد المقاتلون للجبهة كانت نيران الرشاشات بانتظارهم: جنود النظام أعادوا تنظيم أنفسهم ولم تفلح العبوة الناسفة الأولى وﻻ الثانية في إسقاط المنزل الذي يتحصنون به. قامت مجموعة من الثوار بإسكات أحد زملائهم اليافعين والذي بدا شاحب الوجه ومتوترا، فقد أصيب في فخذه في الزقاق. حملوه إلى حافلة تنتظر وحاولوا باستخدام إحدى الأدوات أن يوقفوا نزيفه، حيث ضغطوا على الشريان باستخدام مجموعة من الحجارة.

بعد أن تخثر الدم، اتكأ زكريا على الحائط، وأخذ يحك جبينه بأصابعه المرتعشة "مازلنا نقاتل في هذا المكان من ثلاثة أشهر" يقول وهو يشيح بوجهه إلى الأرض “لكن غداً سنتقدم بإذن الله".

في حي صلاح الدين، قام المقاتلون وسكان الحي بحمل جثمان المقاتل لدفنه.

آخر ليلة في حلب، ذهبت لزيارة أخيرة مع أبو ياسين. كنا في أواخر آذار، والجو مازال بارداً، ويومها هطل المطر. في تلك الليلة كان القمر بدراً ينير الطريق في المدينة التي انقطع الكهرباء عن معظمها، وعندما وصلت إلى المدرسة، رأيت وميضاً أصفر خلال رذاذ المطر من داخل المدرسة لوجود الإنارة التي تعمل على مولدة الكهرباء. أحد أتباع ياسين فتح لي الباب الثقيل وقال "صانع القنابل مريض".

رأيت ياسين في مكتب الإدارة مستلقيا على أريكة وبطانية سميكة من الصوف تلفه حتى ذقنه. كانت أجفانه مسودة ووجه يبدو شاحباً جداً. حاول بضعف أن ينهض “آسف" قالها ثم سعل بحدة. لقد أمضى يومين وهو طريح الفراش بسبب حمى شديدة أصابته.

كانت لدي بعض الأسئلة عن عمليات التصنيع، لكنه أصر على الحديث عن "عَمار"، عن مصانع الخميرة والإسمنت، وخططه الطموحة لسورية الجديدة. قال لي إنه يريد أن يريني شيئا. لقد كانت صورة له مأخوذة قبل الحرب، كان حليق الذقن ومرتدياً بدلة وربطة عنق، كانت بنيته جيدة قبل أن تتدهور إلى نحول شديد. الرجل المتلحي الجالس أمامي والمرتدي لكوفية ﻻ يمكن أن أشبهه بالرجل الموجود في الصورة. ضحكنا معا.

"أكره هذا" قالها وهو يطوف بنظراته في الغرفة المليئة بالأسلحة. "هل تعرف ماهو حلمي؟" انتظر دقيقة وقد أومأت برأسي متسائلا. لقد سمعت كل ما قاله عن المستقبل المجيد الذي يطمح له.

ثم قال: "حلمي أن أجلس مع رفاقي في المقهى، ﻻ أكثر، فقط مقهى. ثم أتمشى ببطء إلى بيتي لأجد زوجتي وأوﻻدي نياما".

صفير قذيفة هاون قادمة ملأ المكان المظلم، ثم انفجرت في مكان بعيد.

"نأمل أن ينتهي هذا الحلم السيء" قالها، وأومأ بيده إلى كل أنحاء مكتب الإدارة وقال: "هذه مدرسة! أين الطلاب؟ أين هم؟".

مشى مترهلاً لدقيقة ثم توقف وبدأ في السعال. حك جبينه، أشعل سيجارة، وأخذ يدخن حتى خفت حدة السعال. نظر إلي بابتسامة مصطنعة. "لكنني متفائل بسورية. سورية ستعود بلداً عظيماً. عمالنا بنو نصف دول الخليج، ويمكنهم أن يبنوا بلدنا".

أصر ياسين على السير معي إلى الباب الأمامي حيث وقفنا لدقيقة نتأمل الشوارع الفارغة على ضوء القمر. كان هناك فراغ كبير على طول الطريق الممتد من المدرسة، وبعد ذلك تصطف أبنية ذات أربع طوابق، أحدها مدمر ليكون المنظر كأنه سن مكسور. خلال هذا اليوم أسقطت طائرة للنظام قذيفة على هذا البناء ما أدى لدفن ثلاث عائلات تحت هذا الركام. وبالرغم من مرضه، ساهم ياسين بعمليات الانقاذ وقضى نصف اليوم وهو يتنفس الهواء المليء بالغبار، ويصيح بأعلى صوته إلى أن سمع بكاء أحد العالقين.

"ستكون على ما يرام" أعاد ذلك لي وهو يحدق في الأفق البعيد. التفت إلي وضوء القمر يلمع في عينيه المرهقتين المنتفختين، "عليك أن .. تفكر" قالها بلغته الإنكليزية الضعيفة، ومشيراً بأصبعه تجاه رأسه، الرجل الحكيم يسيطر على مصيره. "بإمكانك أن تفعل أي شيء... إن فكرت". سلسلة من الانفجارات تلوح في الأفق وكأنها برق بعيد. وارتخى وجه ياسين.

"السلام عليكم" قالها وهو يلتفت مغادرا.