مقدمة إ . دينيسون روس لترجمة جورج سيل لمعاني القرآن الكريم

مقدمة إ . دينيسون روس لترجمة

جورج سيل لمعاني القرآن الكريم

لاشك في أنه لا حاجة بنا اليوم للتوكيد على أهمية دراسة القرآن من قرب لكل من يرغبون في فهم القضايا الحيوية التي تتصل بالعالم الإسلامي . وفي ظني أن قلة منا _ من الكثيرين الذين يملكون ترجمات لمعاني هذا الكتاب _ بذلوا جهدا في الاطلاع عليه، ومع ذلك لا مندوحة في أن نضع في حسباننا أن القرآن يقوم في حياة المسلمين بدور يجل كثيرا عن الدور الذي يقوم به الإنجيل في حياة النصارى باعتبار القرآن النص الذي تنبثق منه مناسك عبادتهم وأصول تشريعهم المدني ، وليس شرع عقيدتهم الإيمانية فحسب . وكانت الحروب الصليبية الكبرى أول ما قرب الغرب من الإسلام غير أننا لا نعرف بين عامي 1096 _ 1270 ( مدة الحروب الصليبية ابتداء وانتهاء . المترجم ) سوى محاولة واحدة لتعريف أوروبا بكتاب المسلمين المقدس ، وهي النسخة اللاتينية التي أعدها روبرت أمير ريتينا في 1143 ( ويخبرنا سيل أنه إنجليزي ) وهرمان أمير دالماتيا بمبادرة من بتروس فينيرابليس رئيس دير كلونجي . وطبعت تلك النسخة في النهاية على يد  ث . ببلياندر في بازل في 1543 أي بعد حوالي مائة عام من سقوط القسطنطينية في يد المسلمين . وظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر ترجمات كثيرة لمعاني القرآن باللاتينية والفرنسية . ونقل ألكساندر روس في 1649 إلى الإنجليزية إحدى الترجمات الفرنسية ، وهي الترجمة التي تولاها أندريه دي ريار غير أن أهم ترجمة لمعاني القرآن حتى اليوم إنما هي التي قام بها لويجي ماراتشي   ونشرت في بادوا في 1698. أما ترجمة جورج سيل التي بين أيدينا فظهرت أول مرة في نوفمبر 1734 في مجلد من القطع الخماسي ( مقاس الورق ) ، ثم طبعت لأول مرة في 1764 في مجلد من القطع الثماني المتوسط . واحتوت الطبعة الثانية من تلك الترجمة والتي ظهرت في 1825 على سيرة حياة جورج سيل بقلم رتشارد الفرد ديفنانت . وأفيد من تلك السيرة في  المقال الذي كتب عن سيل في " معجم السيرة الوطنية " . وحالما انتقل النبي محمد _ صلى الله عليه وسلم _ إلى الرفيق الأعلى شرع العلماء المسلمون الأوائل لا في تدارس صحة تلاوة نص القرآن فحسب ، بل عملوا أيضا على وضع مبدأ أساسي يبين في المقام الأول سبب نزول كل سورة . وسور القرآن في نسخته الأصلية الحالية مرتبة تقريبا وفق طول كل سورة باستثناء سورة الفاتحة ذات المنزلة الخاصة لا في كتاب الإسلام المقدس فحسب ، وإنما لأهميتها أيضا في مناسك عبادة المسلمين ( يقصد الصلاة . المترجم ). وهي في هذه الصفة تشبه صلاة الرب عندنا في النصرانية . ويظهر الترتيب الافتراضي لنزول مختلف السور في مسرد محتويات القرآن إلا أنه لا مناص من ذكر حقيقة أنه لا العلماء المسلمون الأوائل ولا الدارسون الأوروبيون المحدثون مجمعون إجماعا تاما على الترتيب الدقيق لكل السور حسب تسلسل نزولها . ويحسن لكل من يدرسون القرآن أن يعلموا أن محمدا لم يؤلف النص الحقيقي للقرآن وإنما هو كلام الله الذي خاطبه به ، ومن ثم فالصيغة المستعملة عند اقتباس أي شيء من القرآن هي " قال تعالى " وما شابهها من الصيغ . وطبعا نقل علماء المسلمين من كلام النبي محمد إلا أن تلك النقول تشير إلى أقواله المأثورة باسم " الحديث " الذي انتقل مشافهة مع مراعاة صارمة لصحة تسلسل السند . ويكاد يكون في حكم المستحيل المستعصي أن يستطيع أي مستعرب تقديم ترجمة لمعاني القرآن تتحدى النقد والملام باستثناء _ وإلى درجة عالية _ ترجمة سيل؛ لأنها حين ظهرت أول مرة لم يكن لها منافس في حقلها . ويمكن القول اليوم بعدل إنه لم تعقبها ترجمات لاحقة لها نفس نصيبها من الجودة. ويشابه تلك الترجمة جودة وقيمة مصنفه الشهير " حديث تمهيدي " الذي يعتبر " عملا إبداعيا فذا " ( ورد ما بين المزدوجتين في النص الإنجليزي بالفرنسية . المترجم ) إذا ما تذكرنا مدى قلة الكتابات الدقيقة التي ظهرت في زمنه في حقل الدراسات الإسلامية . وعمليا لم يكن في زمنه كتابات مهمة في ذلك الحقل سوى كتاب الدكتور بوكوك " من التاريخ العربي " ( ورد ما بين المزدوجتين في النص باللاتينية . المترجم ) . ويقر سيل في الاستهلال الأول لترجمته بالفضل العظيم  لذلك الكتاب عليه. والعمل الثاني المهم في ذلك الزمن هو ترجمة ماراتشي لمعاني القرآن . ورغم العدد الكبير من العلماء الأوروبيين الذين عملوا في حقل الدراسات الإسلامية منذ زمن جورج سيل ؛ يظل كتابه " حديث تمهيدي " أحسن مدخل في أي لغة أوروبية لدراسة الدين الذي بشربه نبي الجزيرة العربية ، بيد أنه ، وعلى حد تعبير وِرِي " في الوقت الذي نعتبر فيه كتاب " حديث تمهيدي " أوفى مدخل وأجدره بالثقة لمعرفة المذاهب والمناسك والعبادات والعادات والأعراف في الإسلام؛ يقتضينا الواجب أن نعترف بحقيقة أن البحث الحديث كشف أمورا كثيرة تتصل بتاريخ قدامى العرب تعدل تعديلا واسعا الكثير من المقولات التي جاءت في الكتابات المبكرة عن ذلك التاريخ ... ). والحق أن معرفة غالبية الأوروبيين بالإسلام بنيت قرونا طويلة بالكامل تقريبا على كتابات محرفة مشوهة لنصارى متعصبين الأمر الذي أدى إلى خليط ضخم من الافتراءات المسيئة لسمعة الإسلام والمسلمين ، وتم فيها تجاهل متعمد لكل ما هو حسن في الإسلام ،   وغُولي في في كل ما هو سيء فيه _ طبعا في نظر الأوروبيين _ أو أسيء تفسيره . ومع ذلك لا يجب أن ننسى أن العقيدة الجوهرية التي دعا إليها محمد معاصريه في أرض العرب الذين عبدوا النجوم ، والفرس الذين اتبعوا تعاليم هرمز وأهريمان ، والهنود الذين عبدو الأصنام ، والترك الذين كانوا بلا عبادة محددة ؛ إنما هي عقيدة توحيد الله ، وأن بساطة دعوته ربما كانت أقوى فاعلية في انتشار الإسلام من سيوف الغزو . والإسلام وإن أثر في  العالم النصراني تأثيرا خطيرا إلا أنه جلب إلى نصف آسيا عقيدة روحية النزعة . وإنها لظاهرة مثيرة للاندهاش والانبهار أن الترك الذين دفعوا في أحوال كثيرة قبائلهم المتبدية المترحلة لاجتياح الهند والشرق الأوسط دون أن تواجه جيوشهم مقاومة ؛ قد غلبهم الإسلام بدورهم ، وأقاموا بعدئذ ممالك إسلامية . وبذل المغول في القرن الثالث عشر غاية ما في طوقهم لإزالة آثار الإسلام حين نهبوا بغداد ، ولكن ، ومع أن الخلافة الإسلامية انحطت في مصر يومئذ إلى منزلة مغمورة عاثرة فإن الامبراطوريات الحديثة النشأة للمغول ما لبثت أن صارت دولا إسلامية إلى أن حاز الترك لقب الخليفة الذي انعقد لواؤه منذ ذلك الزمن في بيت آل عثمان . وهكذا لبث القرآن خلال التغيرات والتحولات التي وقعت في ثلاثة عشر قرنا الكتاب المقدس للترك والفرس وربع أهل الهند تقريبا . والمؤكد أن كتابا بهذه الصفة يستحق أن يقرأه الغرب قراءة موسعة خاصة في وقتنا الحالي الذي قضت فيه المخترعات الحديثة على حواجز المكان والزمان ، وصار اهتمام الناس فيه يعم  شئون العالم كله . ويصعب علي في الحق الجزم بالمدى الذي استفادت فيه استشهادات سيل الواردة في ملاحظاته على هامش ترجمته استفادة مثلى من المفسرين العرب للقرآن ، وأخشى أن تدل نتيجة تقصٍ وثيق لتلك الاستشهادات على شح أصالة البحث من طرفه . وهو نفسه يقول في مستهل ترجمته الذي خاطب فيه القارىء :" نظرا لانعدام فرصتي في الاطلاع على مكتبات عامة فإن الكتابات التي استفدت منها في كل عملي كانت تلك التي اعتمدت عليها في دراستي الخاصة باستثناء تفسير البيضاوي لدى مكتبة الكنيسة الهولندية في أوستن فريارز " . نحن الآن لدينا خبر من الطراز الأول يتعلق بالمخطوطات التي كانت عند سيل " في دراسته الخاصة " ؛لأن منفذ وصيته طبع مجموعة منها بعنوان " مجموعة مصطفاة مثيرة للفضول ولا تقدر بثمن ؛ بالتركية والعربية والفارسية من مكتبة المرحوم والعالم العبقري السيد جورج سيل . وهي الآن كتب مملوكة للسيد وليم هامرتون متشانت في لوثبير ، وفي الإمكان الاطلاع عليها يومي الأربعاء والجمعة من كل أسبوع إلى أن تباع أو ترسل إلى الخارج .ن . ب . والمخطوطات نفسها معروضة للبيع مجتمعة لا متفرقة " . وقد باعها عند أول فرصة المدقق اللغوي في جامعة أكسفورد توماس هانت إلى مكتبة رادكليف ، وهي موجودة الآن بصورة مستديمة في مكتبة بودليان . وفي المتحف البريطاني نسخة من هذه المجموعة مكتوبة بالإنجليزية والفرنسية في صفحات متواجهة ، وتضم 86 كتابا . وتشمل عددا قليلا جدا من المؤلفات العربية العالية القيمة وإن كانت غنية بكتب التاريخ التركي والفارسي . ومما له دلالته الكبيرة مع ذلك حقيقة أنها بالكاد تشمل مؤلفات عربية، كما لا تشمل شيئا من التفاسير التي تحيل إليها ترجمة سيل لمعاني القرآن في كل صفحة من صفحاتها الأمر الذي حداني لاستنتاج مؤداه أن مصادر سيل _ باستثناء البيضاوي _ اعتمدت على كتابات من القيمة الثانية ، وأن تفحص العمل الجليل الذي قدمه ماراتشي في ترجمته لمعاني القرآن يجلي الأمر كله أوضح تجلية . وسيل يقول عن ترجمة ماراتشي :" إنها إجمالا بالغة الدقة ، لكنها تتشبث بالنص العربي تشبثا حرفيا يجعلها عسيرة الفهم على من لم يدرسوا الإسلام . والملاحظات التي ألحقها بترجمته عظيمة القيمة حقا إلا أن تفانيده ودحوضه للحقائق والمعلومات _ والتي كبرت عمله فجاء مجلدا ضخما _ قليلة القيمة أو لا قيمة لها بتاتا ، والسبب أنها غالبا ليست مقنعة ، وأحيانا لا صلة لها بموضوع عمله ، بيد أن عمله عمل عالي القيمة رغم كل مثالبه ومآخذه. وأراني مذنبا بنكران الفضل إن لم أعترف بفضله علي غير أن بقاء ترجمته باللاتينية دون نقلها إلى لغات أخرى يجعلها عديمة النفع لمن لا يفهمون هذه اللغة ... ". هذا هو اعتراف سيل بفضل ماراتشي عليه إلا أنه لا يمضي في هذا الاعتراف إلى حد كافٍ ؛ ذلك أن أي موازنة بين الترجمتين تبين لنا أن ماراتشي حقق في ترجمته الكثير الذي ظهر في ترجمة سيل ، وهو ما لا يمكن أن يبلغه تقريبا إلابمعرفة اللاتينية  في ما يخص الكتاب العرب . ولست أقصد بهذا الإلماح إلى أن سيل ما كان يعرف العربية ، لكنني أحب أن أؤكد أن ما في أيدينا من ترجمته يعطي تقييما مضللا عن الدراسات التي استند إليها في تلك الترجمة، وأن اعترافه بفضل ماراتشي عليه يقصر كثيرا عن الوفاء بما هو مدين به إليه . ولابد هنا من ذكر أن ماراتشي لم يكتفِ بترجمة كامل النص العربي للقرآن ، بل زاد فنقل النص الأصلي نفسه إضافة إلى ترجمة كل اقتباساته من الكتاب العرب . وعمله في الحق عمل معرفي عميق لم ينل ما هو أهل له من الثناء . ولقد كان بين يديه مجموعات ثرية من المخطوطات المملوكة لمكتبات إيطاليا . ولا نعرف كيف تعلم العربية . ويقول فولتير عنه إنه لم يزر الشرق يوما . وقد كان كاهن اعتراف عند البابا إنوسنت الحادي عشر، وأهدى ترجمته التي ظهرت في بادوا بإيطاليا في 1698 إلى إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة ليوبولد الأول . ونشر مع مقدمته لترجمة معاني القرآن ورقة بحث سماه " الرائد " ( ورد الاسم في النص باللاتينية . المترجم ) حوى عمليا كل ما كان معروفا في زمانه عن محمد والدين الإسلامي . وفي الإمكان الزعم على كل حال أن عمل سيل الذين بين أيدينا يقدم إلى طالب العلم في الغرب كل الأساسيات اللازمة لدراسة الإسلام دراسة أولية؛ لأن ترجمته وملاحظاته على متن القرآن تقدم لذلك الدارس فكرة جلية عن الإسلام قدر المستطاع  دون أن يرهق نفسه سنوات في الدراسة بالعربية عما يراه ملايين كثر من الناس ابتداء بفزان وانتهاء بالشرق الأقصى كلمة الله المنزلة والأصل  الثابت المكين لعقيدتهم . ولد جورج سيل في حدود 1697تقريبا ، وتوفي في 1736 . وكل سيرة كتبت عنه تلفت النظر إلى ما قاله فولتير في مصنفه " المعجم الفلسفي " في شأن إقامة سيل ما يزيد على عشرين عاما بين العرب . وأحسب ما قاله " زلة لسان " ( وردت في النص باللاتينية . المترجم ) من جانبه؛ إذ من المستبعد أن يكون اختلق تلك القصة . ولا ريب في أن سيل كان ذا علم حسن بالعبرية سواء قبل التوراة أو بعدها مثلما تشهد إشاراته إلى كتابات الأحبار العبرانيين . وتوفي سيل بعد عامين من نشر عمله الجليل ؛ في بيته بشارع سري في منطقة ستراند وهو دون الأربعين . وكان قبل في 1720 طالبا في " المعبد الداخلي " ابنا لصامويل سيل المواطن والتاجر من أهل لندن . وفي نفس العام أرسلت بطريركية أنطاكية سلومون نجري ( سليمان السعدي ) من دمشق إلى لندن ليحث "جمعية تعزيز المعرفة المسيحية " على إصدار نسخة عهد جديد بالعربية لنصارى سوريا. والمرجح أن يكون سليمان هو معلم العربية الأول لسيل ، وإن كان يقال لنا إن داديتشي مترجم الملك ، وهو يوناني متعلم من حلب ، قاد سيل في " متاهة من لهجات الشرق " . ومهما يكن ما تعلمه سيل قبل ترجمته _ والحق أنه كان لغويا موهوبا _ نجد في سجلات الجمعية المذكورة عاليه أنه عرض في 30 أغسطس أن يكون أحد مدققي العهد الجديد بالعربية ، وأنه ما لبث أن صار المدقق الرئيس له إلى جانب ولايته منصب محامي الجمعية ومناصب شرفية أخرى . وتمت ترجمة معاني القرآن إلى الإنجليزية بعد ترجمة العهد الجديد إلى العربية . وترك سيل في ترجمته غالبية أسماء الأعلام على أصلها العربي ، ولكن ينبغي للقارىء أن يعلم أنه كان في الغرب على عهد سيل الكثير من الحرية في ما يخص كتابة الأسماء الشرقية ، وهي  حرية قادت إلى تغييرات كثيرة فيها . وإجمالا فإن نقل سيل لتلك الأسماء _ رغم افتقار ذلك النقل لنظام علمي مطرد _ جعلها واضحة وأقل تشوشا بكثير مما نقله معاصروه من العلماء الإنجليز ذوي الأصول الهندية الذين شوهوا الأسماء الإسلامية بما في ذلك أسماء الأماكن في الهند تشويها تاما بوضع حرف علة مكان حرف علة آخر يختلف عنه من حيث المد الصوتي .

ولم يقم العلماء إلا في زمن متأخر جدا بوضع حرف في الأبجدية اللاتينية يعادل في وضوح كل حرف في الأبجدية العربية . ومع أن المستشرقين الأوروبيين لم يعتمدوا نظاما شاملا في هذا الميدان إلا أن لكل كاتب نظاما يمكن أي قارىء على دراية بالعربية من رد أي اسم لأصل كتابته . وفائدة أي نظام من هذه النظم أن أوجد تمييزا واضحا بين نوعي كتابة ونطق بعض الحروف ، وتمت الإشارة دائما إلى حرف " العين " العربي المراوغ في كتابته ونطقه عند نقله إلى اللاتينية .