رسالة مفتوحة إلى سفير إسرائيلي

"دعوا عنا إغراءكم وتضليلكم"

أغوستين بييوسو وإغناطويس غوتيريث دي تيران

(لقد كتب الباحث الإسباني إغوستين بييوسو، أستاذ علوم التربية في جامعة مدريد الوطنية والناشط المعروف في إسبانيا وأمريكا اللاتينية لأعماله ومؤلفاته المتعددة المعادية للصهيونية، هذا المقال ردا على رسالة شخصية سبق أن بعث بها إليه السفير الإسرائيلي في إسبانيا، رافائيل شولتز، للتعقيب على مقال كان أغوستين بييوسو قد نشره في منتصف ديسمبر/كانون الأول العام 2010 في عدة مواقف إلكترونية بعنوان "في عيد الميلاد الراهن أحجم عن دعوة صهيوني إلى مائدة العشاء". وعقب التلميح إلى "الأخطاء والمغالطات" التي زخر بها مقال الباحث بييوسو على حد تعبيره، اقترح السفير الإسرائيلي "الفاخر" بالانتماء إلى مدرسة "الصهيونية الكلاسيكية" على الأستاذ الجامعي التلاقي من أجل إجراء "حوار بناء" لتصويب وجهات النظر "المتطرفة" والمنافية "لحقوق اليهود التاريخية المشروعة". ونقدم للقارئ العربي نص جواب الكاتب على تعليق السفير مطمعا بإشارات عدة إلى ما جاء في المقال الأول الذي أطلق الشرارة الأولى لهذا التراسل، تلخيصا لأهم ما جاء فيه من براهين وأدلة تحجج بها بييوسو لتدعيم الحملة العالمية الهادفة لمقاطعة المشروع الصهيوني ثقافيا واجتماعيا وسياسيا والامتناع عن التعامل مع من يؤيد أو يبرر سلوكيات إسرائيل العنصرية الإجرامية. وأقدم المستعرب إغناطيوس غوتييريث دي تيران غوميث بينيتا على تعريب الرسالة واختيار عدد من المقاطع الواردة في المقال الأصلي).

السيد السفير الإسرائيلي في دولة إسبانيا:

قبل بضعة أيام تسلمت رسالة تحمل توقيعكم تعلقون فيها على مقال قد نشرته على عدد كبير من مواقع شبكة العنكبوت الناطقة بالإسبانية وعنوانه "في عيد الميلاد الحالي لا تدع صهيونيا إلى مائدة العشاء". وكنت قد أشرت في ذلك المقال إلى الحملة الإعلامية المسعورة التي تشنها المؤسسات والدوائر الصهيونية من أجل "استعادة" ثقة الرأي العام الغربي وتطويق مشاعر الغضب والرفض إزاء تجاوزات دولة إسرائيل التي تمثلونها. ولا شك بالمناسبة أن هذه الرسالة تأتي تطبيقا لقائمة من التوصيات والتعليمات وزعتها وزارة الخارجية التابعة لنظام تل أبيب على البعثات والتمثيليات الدبلوماسية الإسرائيلية في أوروبا والقارة الأمريكية وكذلك على "الدوائر والأوساط والجماعات والأفراد" المتعاطفين مع قضية إسرائيل، سعيا لتحسين صورة دولتكم في العالم والتأكيد على أنكم كنتم وما زلتم حريصين على إحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط على الرغم من تعنت (الطرف الآخر) وسلبية (الطرف الآخر) واعتداءات (الطرف الآخر). ونعي جيدا مستوى القلق والتوجس عند المسؤولين الصهاينة حيال موجة الرفض والمعاداة المتزايدة ضد إسرائيل في الديار الغربية عامة والأوروبية خاصة، وهي منطقة كانت تعتبر في السابق معقلا مؤيدا لإسرائيل. إلا أن الأمور شهدت تغييرا على مستوى المجتمع المدني وهو التغيير الذي يناقضه إبقاء جل الحكومات الأوروبية على نهجها الداعم دوما لنظام تل أبيب.

إن إسرائيل تنعم في يومنا هذا بتفوق عسكري ودبلوماسي لم تألفه في أي وقت سابق فالدعم الأمريكي والأوروبي مستمر لا غبار عليه يضاف إليه التواطؤ العربي الفظيع وتقاعس "المجتمع الدولي" وقصوره ولا مبالاته. فبفضل مثل هذه الركائز أتيح لنظام تل أبيب المضي قدما في مشروع الاستيطان وابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية وتثبيت حصار غزة ثم إحكام هيمنته على كل ما يجري في الضفة الغربية، في حين وجد المجال متاحا للمشاركة بصورة فعالة في وضع الخطوط العريضة للسياسة الإقليمية في الشرق الأوسط (ومن الجلي أن احتلا العراق والسعي الحالي إلى احتواء "التهديد الإيراني" من أهم فصول الخط الإسرائيلي في الأجندة الأمريكية السارية) ومن ثم التوسع الاستراتيجي في مناطق مجاورة كالقارة الإفريقية.

إلا أن هناك خللا ما في مجريات الأمور إذ أن فرحكم لم يكتمل خاصة وأن إنجازاتكم السياسية والعسكرية والدبلوماسية لم تأت مرفقة بالنصر الإعلامي حيث أنكم لا يعنيكم فقط تكريس الاحتلال وإضفاء الشرعية عليه وإنما تريدون أيضا أن تحظوا بإعجاب العالم ورضاه. رسالتكم خير مثال على ما يساور الآلية الصهيونية في إسرائيل وفروعها وأذرعها المنتثرة في جميع أنحاء العالم من الاضطراب بشأن مستقبل المخطط الصهيوني ككل. وإن كانت وتيرة حركة المقاطعة التي ضاعفت من دعواتها وأنشطتها من أجل تضييق الخناق على الشركات والمنتجات الإسرائيلية والجهات الأوروبية المتعاونة بشكل أو آخر مع الاحتلال هي وتيرة لا تدعو إطلاقا إلى القلق على سلامة المعاملات التجارية الإسرائيلية في الغرب، فإن الخطب أصبح يقض مضجع المؤسسة الصهيونية. فلم يفتنا (إذ أكدت جريدة "الغوارديان" البريطانية في 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي) أن وزارة الخارجية برئاسة المتشدد أبيغدور ليبيرمان أوعز إلى عشر سفارات إسرائيلية في العالم (بما فيها سفارتكم في مدريد) بتجنيد ما لا يقل عن ألف مواطن يأخذون على عاتقهم التبشير بمزايا الدولة العبرية والحد من انتشار مظاهر الكراهية لها. وكانت الجرائد الإسرائيلية قبل هذا الإيعاز قد نشرت تحقيقات كثيرة حول تلك "الشبكة العالمية المكونة من جماعات وأفراد يعملون دون أن تجمعهم أي قيادة مشتركة أو تنظيم هرمي" على التظاهر ضد إسرائيل ومناشدة مجتمعاتهم بمقاطعة المنتجات الإسرائيلية (صحيفة "هاريتز"، 2 ديسمبر/كانون الأول 2010). والملفت للنظر في رأي الآلية الدعائية الصهيونية أن دعاة هذه الحملة غير المنظمة التي تتخذ من شبكة إنترنيت مقر لها ليسوا من الجاليات المسلمة المقيمة في أوروبا بل هم نشطاء يساريون "يقعون على أطراف المجتمع" ويجدّون في تصوير إسرائيل على أنها "دولة مارقة لا تمتلك حق الوجود". والبين أن الماكينة التشهيرية الصهيونية تعرف حق المعرفة أن هؤلاء النشطاء ليسوا من المنبوذين ولا يشكلون أقلية منعزلة وإنما يعملون من عمق المجتمعات الأوروبية بعدما أحرزوا تقدما ملحوظا على صعيد إثارة شكوك الرأي العام المحلي حول الممارسات الهمجية للسلطات الصهيونية في فلسطين. وإذا كانوا هؤلاء شرذمة من "المهمشين" فعلا فلماذا أجرت السفارات الإسرائيلية اتصالات مباشرة بنخبة من الأساتذة الجامعيين والسياسيين والمثقفين وحتى المبشرين المسيحيين من أجل الانضمام إلى منتديات ولقاءات مغلقة تتناول "النزاع الإسرائيلي العربي ومسيرة السلام"؟ .

 مهما يكن من أمر، لا يمكنكم التباهي بإنجازاتكم التثقيفية هذه في وقت ما زالت إنجازاتكم العسكرية غير مكتملة هي الأخرى. فبرغم التعاون السافر للعديد من الدول العربية مع نظام تل أبيب والتشجيع الأمريكي على السياسة الإسرائيلية المتشددة، فإن المقاومة في كل من فلسطين ولبنان لا تزال تحتفظ بأوراق قوي. زد على ذلك اتساع رقعة النفوذ الإيراني في المنطقة وتخبط علاقات نظام تل أبيب مع تركيا من جراء الهجوم على قافلة الحرية. صحيح أن إسرائيل تمكنت بعد ستين عاما من الاحتلال والتصفية العرقية من طرد أكثر من ستين في المائة من سكان البلد الأصليين واغتصاب أراضي الدول العربية المجاورة واستقدام الملايين من المهاجرين اليهود واستمالة الاستثمارات المالية الباهظة من أجل تعمير "أرض الميعاد" ولكن عملية التطهير البشري هذه لا تجري بالسرعة المطلوبة فوتيرة مصادرة الأراضي وترحيل أصحابها وإكراه الفلسطينيين بشكل عام على الرحيل النهائي عن وطنهم وتضييق الخناق على عرب 48 وكافة الإجراءات التعسفية المماثلة لم تقو على صمود الفلسطيني وتشبث أهله بترابه وتاريخه وذاكرته وخصوبته السكانية فما فتئت نسبة المواليد العالية من أسلحة المقاومة الفلسطينية الأكثر فعالية. والواضح أيضا، من جهة ثانية، أن النخبة الفكرية والمالية والعسكرية التي تسير الصهيونية العالمية بدأت تستعجل الخطى في سبيل التصدي لهذا الخطر المبين بما فيها تفعيل سياسة التهويد فغذ السير نحو "الحل النهائي" عبر نقل الفلسطينيين إلى دول الجوار أو تفعيل حرب جديدة واسعة النطاق تسنح لها الذريعة المطلوبة لتهجير جماعي جديد.

وربما كانت مثل هذه الأقوال هي "الأخطاء" التي صادفتموها ضمن مقالي وإن كنتم تمتنعون عن تحديدها. ومن حقكم التصحيح والتصويب فأنا، من طرفي، لا أعد نفسي منزها عن الأخطاء وإنما، كما قال النبي أيوب لمجادليه، "هبني ضللت حقا فعلي تستقر ضلالتي" (العهد القديم، سفر أيوب). نعم، إني وليس غيري أتحمل ثمن زلاتي ولكني لم أربح شيئا من ضلالتي، أي وقوفي إلى جانب القضية الفلسطينية، فلست عربيا ولا مسلما ولا أتقاضى أي مبلغ أو مكافأة مقابل مناهضتي للصهيونية، على خلافكم أنتم وأمثالكم الذين تقبضون أجورا ومرتبات ومعونات ومساعدات ومغريات مالية سخية للترويج الحثيث للدعاية الصهيونية. هنا يكمن الفارق الرئيسي بيننا وبينكم: إنكم مأجورون تعملون على تثبيت مصلحتكم الشخصية ومصلحة الجماعة الصهيونية التي تنتمون إليها، ولذا فإن ضلالاتكم وهفواتكم تظل دائما مشكوكا فيها.

وأخشى أن يقتصر اللقاء الذي تعدونني إليه على محاولة جديدة "للتضليل" والتغني بديمقراطية إسرائيل والتنبيه إلى مخاطر اللا سامية والتشهير باليهودية (شتان ما بيننا والكراهية لليهود وديانتهم!)، أي الأغنية البالية المشروخة التي طالما استمعنا إليها خلال العقود الماضية. واسمحوا لي أن ألفت انتباهكم بالمقابل إلى أني حريص باستمرار، قصد التعويض عن الكم الهائل من الدعاية الصهيونية الحمقى المنهالة علينا من كل حدب وصوب، على قراءة أفكار المفكرين والمثقفين اليهود الصالحين كأحاد حاآم ومارتين بوبير ويشاياهو ليبوفيتز وسيشا فلابان وجدعون ليفي وأوري آفنيري وريشارد فالك وريشارد غولدستون وغيرهم الكثير الكثير من المبدعين المتعقلين المستقلين الذين عاونوني في معرفة حقيقة الصهيونية وماهيتها السلبية المنافية للإنسانية والتحضر. بناء على كل ذلك، لا أحسبكم قادرين على إفادتي علما بأفكار جديدة عن الصهيونية كما لا أظنني مهيأ لتزويدكم بما يجديكم، لاسيما إن كنتم تعتزون بالانتساب إلى مدرسة "الصهيونية الكلاسيكية". والعكس هو الأرجح إذ أني سأقول لكم خلال هذا اللقاء المفترض إن ما تنعتونه ب"الصهيونية الكلاسيكية" ليست سوى منظومة فكرية منحرفة تمخضت عنها دولة تسبح ضد تيار العصر لتماديها في خرق القانون الدولي وانتهاك حقوق الإنسان وهضم حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.

فسيادتكم، باعتباركم سفيرا يمثل دولة تستعمر بشكل غير شرعي أراضي الغير وتعتدي على مواطنين عزل وتمارس حصارا وحشيا على قطاع غزة الذي يتشكل نصف سكانه من الأطفال والقاصرين، وهي معاملة قاسية بكل المعايير لا تختلف اختلافا أساسيا عما مارسته الآلية النازية قبل عقود ضد الأقليات العرقية الأوروبية وفي مقدمتهم اليهود، إن سيادتكم تنتهج منهج أربابكم نتانياهو وليبيرمان وغيرهما، فلذلك لا أقر لك بأي شرعية للحديث باسم القيم الإنسانية والمساواة والاحترام المتبادل.

لا شك أن أتباع الصهيونية يبذلون قصارى جهدهم من اجل إقناع العالم بأن إسرائيل دولة حضارية ذات نوايا حسنة تبحث كسائر الدول عن مكانتها "الطبيعية". ولأنكم من مريدي هذه الطريقة الدعائية فإنني أعرف مسبقا نموذج الحوار المدعو إليه فهو حوار لا يستشف مواقف الطرف الآخر وإنما تلطيف مشاعر الرافضين والترويع عن غضبهم بالاعتماد على الحجج الباهتة والألفاظ المعممة ثم اللف والدوران والسفسطة حول من هو الضحية ومن هو الجلاد. ومن المؤكد أن هذا الخطاب النموذجي آتى ثماره في مناسبات عدة، تارة لأن متلقيه يجهلون وقائع المأساة الفلسطينية بحكم السيطرة شبه الكاملة للآلية الدعائية الصهيونية على وسائل الإعلام الرئيسية في الغرب، طورا لأن جزءا من إعلاميينا ومفكرينا مفتونون بأضواء الصهيونية الباهرة، ولكنه من المؤكد أيضا أنها أساليب لن تنفع معي وكذلك مع من تمكن من تكوين صورة بالغة الدلالة عما يحدث يوميا في فلسطين. فهناك نسبة متزايدة من المواطنين الغربيين باتت تنظر بعين الريبة إلى شعارات فارغة مثل "مسيرة السلام" و"محاربة الإرهاب" و"التطرف الفلسطيني" و"تضحيات إسرائيل" و"التنازلات المؤلمة" و"الحوار البناء" و"الديمقراطية الفريدة في الشرق الأوسط" وهلم جرا. فلم يسعكم مهما وظفتم من الأموال ومارستم من الضغوط وألقيتم من ندوات ومؤتمرات التستر على الحقيقة المرة: إن إسرائيل دولة عدائية تشكل خطرا مبينا على السلام الكوني بل هي وصمة عار على جبي البشرية برمتها.

في الختام، أعود وأكرر: لا أخالك محملا بأطروحات من شأنها تغيير وجهة نظري فلذلك، إن كان اللقاء يسعى لتحقيق أهداف تندرج في خطة الطريق الدعائية التي رسمت لكم وأصحابكم في دهاليز القرار في نظام تل أبيب، فلا تكلفوا أنفسكم بدعوتي إلى طاولتكم. وبما أنكم تلمحون في رسالتكم، كالمعتاد، إلى "المناخ المعادي للسامية" في مواقف المناهضين للصهيونية وكأننا، فلا أظنكم تدركون الدوافع الحقيقية لمعظم المدافعين عن الحق الفلسطيني في الغرب. فقط أقول لكم إني أصبحت، في القرن الحادي والعشرين، كارها للصهيونية كما كنت سأكره النازية لو كان قد كتب لي العيش في أوروبا الثلاثينات من القرن الماضي أو كما كنت سأكره القومية الإسبانية لو كنت قد شهدت سقوط غرناطة في القرن الخامس عشر وعملية ترحيل اليهود الوحشية المنافية لحقوق الإنسان. ولن أزيد إلا جملة واحدة ثم عليكم السلام: إني أعشق الشعوب والأعراق والملل أجمع فلا يدفعني إلى التمسك بالقضية الفلسطينية سوى حبي للإنسان وإيماني به، ولذلك لا دخل هنا لاعتبارات أخرى كالانتماء العرقي فحتى لقبي الثاني (سانتيستيبان وهو اسم عائلة والدتي) يحمل في طياته أصداء اليهود الأسبان الذين أكرهوا دون حق على الخروج من وطنهم "سيفاراد" إسبانيا.

أغوستين بييوسو وإغناطيوس غوتيريث دي تيران.