الثورة والشعر

قراءة في قصيدة "أفول أوثان الجهل"

للشاعر العربي منير مزيد

بقلم : الشاعر والباحث ماريوس كيلارو

ترجمة: د. رضوان قدحنون

[email protected]

هناك ارتباط كبير بين الثورة وبين الشعر ، فقد لعب الشعر دورا كبيرا في توعية

الشعوب ، فالشاعر ضمير الأمة وصوتها الحر الذي لا  ينام على ضيم ، ولا يسكت على ظلم ولا يطأطأ رأسه لباغٍ أو طاغية . فلقد لعب الشعراء وعبر التاريخ الإنساني صوت الثورة واكبر مثال على ذلك الثورة الفرنسية والتي قادها من الشعراء امثال : كجيرارد دو نيرفال ، وفيكتور هيغو ولامارتين ، وفيني ، والفريد دوموسيه ، وآخرين .

بداية معرفتي بـ منير مزيد كشاعر ، أول شيء بدر في ذهني هو انني اتعرف على شاعر صاحب رؤية شعرية تنهل من سحر الشرق ، وشاعر صاحب رسالة ، وطبعا ، رسالة إنسانية تحاكي البشر على اختلاف ألوانهم وأوطانهم وأجناسهم وثقافاتهم ،  و سرعان ما تركزت وترسخت تلك المفاهيم عندي ،  وبالتالي هذا ما شجعني ودفعني إلى ترجمة قصائدة واعماله إلى الرومانية ، وأراني دوما منحازا لقصائده واشعاره بالإضافة إلى دراساتي النقدية والتحليليه لقصائده . وفي كل مرة يفاجئني الشاعر العربي الكبير بقصائد جديدة تشعرني بانني لم اتوصل بعد باعطاء او إيفاء حق هذا الشاعر والفارس الذهبي .

بدأت قصيدته :

وحيدا أصارع الظلام

والعدم

وهذا الفراغِ اللانهائيِ الباردِ

الممتدد من حبل رؤوسهم

إلى السماء ...

بدأ بمنازلة الظلام ، والظلام ذو دلالات عديدة وأهمها الجهل.. الظلم..الشر  وليأتي مباشرة العدم والعدم له أيضا العديد من الدلالات وهي الفناء..الموت.. الأنقراض ..، كلها  أشكال الظلام الإيحائية .  ليأتي مصدر هذا الظلام  : وهذا الفراغِ اللانهائيِ الباردِ / الممتدد من حبل رؤوسهم / إلى السماء ... بصورة أيحائية على الرغم من عدم الإشارة له مباشرة حتى وأن جاءت  "و"  العطف/ وهذا الفراغِ اللانهائيِ الباردِ...وهنا يشير شاعرنا بأن مصدر الظلام هو في الاساس في عقول ورؤس الجهلاء والمتعصبين..، ويتابع شاعرنا برسم صورة الواقع الناتج عن الظلام :

في مُدنِ الصحراء

الملوثة بالفسادِ

والإستبداد

بالملح والدخان والدموع

أُراقبُ هذا البؤس

أتجرع عرق الموت

فأسمع صيحات المُضطهدينِ

في قيثارات الريح

في أوراق الشجر

في بكاء العصافير

في دوامات الماء

في الصحون والأواني

تشنق أنفاسي

وتغتال أحلامي....

بدأ في رسم صورة الواقع... في مُدنِ الصحراء /الملوثة بالفسادِ / و الإستبداد / بالملح والدخان والدموع....

لنقف عند كلمة الصحراء ، والصحراء تعني الجفاف...الجدب ...التصحر..القسوة.. ليضيف إلى كل تلك المعاني .. الفسادِ / الإستبداد/ الملح والدخان والدموع...صورة سودوية تدفع الشاعر إلى منازلة الظلام كما أشار في بداية قصيدتة ... فالشاعر ليس بمنعزل عن ما يحدث فهو يراقب هذا البؤس ويتجرع الموت ألما وحزنا .. واصوات  المُضطهدينِ تطارده في كل مكان  حتى في الصحون والأواني.. فهو ليس إنسانا مترفا ، وأنما الاكثر ارهافا وتحسسا بالفهم لمعنى الحياة والوجود الإنساني والمتطلع دوما لبناء حياة اكثر أمنا واستقرارا ..

لقد تنقل الشاعر في تفاصيل الحياة اليومية وبكل أشكالها الراهن المعجون بالمآسي بعيدا عن التعقيد اللغويه وانما بمفردات بسيطة لا تحتاج للتأويلات ولا لقراءات مختلفة عن ما أوردها الشاعر وخاصة وانه يتحدث إلى العامة و بلغة شعرية رقيقة وشفافة تلامس شغاف القلوب بدون تصريح  وفوق ذلك لغة تحفر في وجداننا ألما خفيا.. من الصعب مسحه سريعا وبسهولة بل يترك أثره ، ليوقظ فينا الضمير الإنساني الغائب .....

ـ الخبز كافيارُ الفقراء

معجون بالدمِّ والعرق

ـ الحب خطيئة

ـ الحلم جريمة وخيانة

ـ الشعر كفر

هذه القطرات النازفة جراحاتها تثير العديد من الأسئلة :

ـ من تلك الجهات أياً كانت، اجتماعية/ نفسية/ سياسية/اقتصادية، تتلذذ بعذابات البشر ليغدو الخبز كافيارا ، معجونا بالدم والعرق

ـ ما الذي دفع الشاعر ليقول : الشعر كفر؟

ـ أية ديانة او مذهب يعتبر الشعر كفرا والحلم جريمة؟

ـ لماذا يتم اغتيال مارتن لوثر كينغ حين قال : لدي حلم ومن ثم اغتيال المطرب الكبير جون لينون حين ردد نفس العبارة  ... ؟

ـ هل سيبقى الحلم الإنساني كابوسا للآخرين يدفعهم الحقد او المصالح العمياء او الخوف من التغير او... آلاف "او" ليغتالوا صاحب الحلم ... ولمصلحة من...؟!!!!

وبعد عرض الواقع الأليم  تأتي الرسالة التي يريد شاعرنا توصيلها والحلم الذي يراود الشاعر  ...

أنا لست ابناً لأحد منكم

أنا إبنُ السماءِ والأرضِ

الحب ديني

والشعر لغتي

وما بيني وبين الله

يخصني

فإلهي يتفهم عذاباتي....

يقبل  القروح ويشفيها

فبئس ما تدعونني إليه....!

وتلك الرسالة كونية وإنسانية بحيث جعل من الحب ديانة ، و من الشعر  لغة وما يتعلق بالعلاقة ما بين الله والإنسان هي علاقة خاصة ...وهذه دعوة مخلصة لنبذ الطائفية  والكراهية بين أبناء الديانات ، وهذه ليست المرة الأولى التي نرى مثل هذه الدعوة في

قصائده ... وبنفس الوقت احترام ديانات ومذاهب الاخرين.. وتلك أسمى غايات الشعر..الحب و القضايا الإنسانية... وتلك سمات تميز قصائد منير مزيد عن غيره من الشعراء...

اما اصدقاء الشاعر فهم :

العصافير التي تستحم بالغناء

والزنابق التي تنمو على وجنات الإله

الجداول الحالمة التي تراقص أوجاعي

والليالي الثملة بالحب

أصدقائي....!

وهذا يفسر مطلع القصيدة : وحيدا أصارع الظلام

فلا اصدقاء له من بني البشر لمناصرة الشاعر في صراعه مع تلك القوى . وهنا يثير عندي سؤالا في غاية من الأهمية ..

ـ هل وجد الشاعر نفسه وحيدا في الوقت الذي كان يشعر بان لديه اصدقاء سوف يساندوه إلا انهم تركوه وحيدا وخاصة اذا عرفنا ظروف التي دفعت شاعرنا إلى كتابة هذه القصيدة ، وخاصة وأن منير مزيد لا يكتب لمجرد الكتابة بل نتاج تجربة او شعور  أو احساس دفين ، أو ان هؤلاء الاصدقاء هم اصدقاء لكل الشعراء .. ؟!

وبما أن القصيدة بدأت بمنازلة الظلام ، فلا بد من وجود أدوات يتسلح بها شاعرنا ليكون جاهزا لتلك المنازلة و أدوات منير مزيد هي الشعر ومستنجدا بـ إلاهة الشعر...وهنا شاعرنا يمتطي جواد الشعر ويشهر سيف الكلمة وبهما سيحطم أصنام الجهل ويحرق صوامع الشر ويحيل الصحراء إلى جنة تحتضن رياحين الشعر وازهار السماء... ليؤكد لنا لا خلاص لعذابتنا الا بالشعر كما قال  ارنولد ماثيو : أن خلاص الإنسانية يكون بالرجوع إلى الشعر...

أفيقي يا ربة الشعر

من سهاد دمي

وانثريني

انثريني حبات ضوء

 في  غياهب رؤوسهم

فعفن الظلمة

قد غلفت عقولهم ....

مهوسون بالجهل

بالحقد والغضب

ودعيني....

دعيني أحطم  أصنام الجهل    

صنما

صنما....

وأحرق صوامع الشر

صومعا

صومعا....

وأزرع في مدن الصحراء

رياحين الشعر

وأزهار السماء

وأغني ...!

ويبقى الشاعر منير مزيد اسماً شعرياً لامعا في سماء الشعر ، وصوتا إنسانيا حرا امام قوى التطرف والتعصب والجهل الاعمى ، و لم يساوم على المبادىء الإنسانية ورسالة الشعر  ولا تأخذه في الحق لومة لائم.. وستبقى اشعار منير مزيد مشاعل حرية لكل أبناء البشرية في كل زمان ومكان..  لقد أطلعنى شاعرنا على ظروف هذه القصيدة والاسباب التي دفعته لكتابتها ، ولكم أحزنني  وشعرت بمرارة شديدة تجتاح كياني حين تجرأت قوى التطرف والتعصب الاعمى بحذف قصائده ، فأجدني من اكبر المناصرين له ، وقد اطلقت على شاعر العرب ، بشاعر الحب والإنسانية  وهذه المرة أجد فارسا عربيا نبيلا ، يمتطي جواد الشعر ويشهر سيف الكلمة ...

لذا سأطلق عليه بالفارس الذهبي . والان فهمت اكثر ما يعنيه منير مزيد حول مفهوم العروبة له بحيث كان يجيب " القلم والسيف والخيل" ، وكل مرة اقرأ قصائده يزداد حبي للشرق العربي واحزن على ما يحدث هناك ... وما يحزنني اكثر هو ،  هل هناك أمة ما زالت تستخدم مقص الرقيب وتطارد الشعراء و تحاربهم بهذه القسوة والبشاعة ،  وتحارب شاعر مثل منير مزيد الذي اعطى صورة مشرقة للإنسان العربي... في وقت احوج اليه الشرق العربي ومن امثاله ... وبالتالي ما يحدث لـ منير مزيد وما حدث سابقا له في الأردن  يرسخ اكثر تلك الصورة المشوهة للعالم العربي  وتجعل من مهمة منير مزيد  وامثاله شبه  مستحيلة ...