هدية الحجاز

د . حسين مجيب المصري

هدية الحجاز

لشاعر الإسلام : محمد إقبال

محمد إقبال

د . حسين مجيب المصري

ها أنا أعود إلى شاعر الفكر والروح محمد إقبال بعد انقطاع عن صحبته المؤنسة في كتاب له بعنوان في السماء دام عامين وبعض عام ، لأجد من مظاهر عبقريته مزيداً وجديداً ، ومن ومضات عقلية وخفقات روحية ما يصلح به أمر الإنسانية في الحال والمآل على سواء .

وإقبال يصطنع الشعر وسيلته المثلى إلى التعبير عن التفكير والشعور، وهو في صنيعه هذا إنما يتلو تلو شعراء الفرس القدماء الذين نظروا إلى الشعر نظرتهم إلى خير ما يؤدي المعنى الفائق باللفظ الرائق ، واعتقدوا اعتقاداً جازماً أن المنظوم أوقع من المنثور في النفس وأعلق بالحفظ ، وأن المجاز يؤيد الحقيقة ويؤكدها .

ويا طالما نظموا الكتاب ينطوي من الأبيات على آلاف وآلاف ، وهم يتصدون فيه لتجسيد روح المعنى وتوضيح كنه الفكرة ، مستعينين على التفسير والتأويل بالتمثيل والتخييل .

وشاعرنا في عداد بلغاء الفارسية لأن جل مؤلفاته بلغتهم ، وهو يشبههم في فرط ولوعهم بنمط من المنظومات يعرف بالرباعي في لغة الفرس وبالدوبيت بمعنى البيتين في لغة العرب . والرباعية تتألف من أربعة أشطر يتفق فيها الأول والثاني والرابع في الروي ويختلف الثالث . والإجماع ينعقد أو يكاد على أن هذا النمط الشعري لاشك في قدمه وأصالته عند الفرس ، ومن المعلوم أنهم أخذوا عن العرب جميع أحكام العروض وأنواع النظم ما خلا الرباعي .

وما نظم العرب فيه إلا في أزمنة متأخرة ، وكان نظمهم قليلاً منحطاً عن الجودة لم يحكمه طبع وليس عليه للفصاحة ظل ، مما ينهض دليلاً على نبوه عن ذوق العرب . والشأن مختلف جد الاختلاف عند الفرس ، فقد نظم فيه أوائل شعرائهم ، ولا نكاد نعرف من شعراء الفرس المذكورين والمغمورين من لم يتوفر على النظم فيه . وعمدة السبب في شغفهم هذا به ، هو اعتزازهم بمظهر من مظاهر قوميتهم ، ورغبتهم في صون أثر باق على وجه الدهر ينطق عما كان لهم من سابقة في مجدهم الحضاري ، وحرصهم على إحياء تراثهم الأصيل ، وإبراز كيان له إلى جانب تراثهم الدخيل . فضلاً عن أن هذا الضرب من الشعر موافق للشاعر على عرض فكرة بعينها لأنه وحدة مستقلة عن غيرها . فشاعر الرباعي مقيد بالمجال الضيق ، وهذا ما يفضي به ضرورة إلى أن يجعل كلامه مدمج التأليف محكم الحدود ، فإن أراد الإبانة عن رأي ، دعم الدعوى بدليلها ملتزماً أدق أصول المنطق ، وإن شاء التعبير عما يموج به قلبه ويخطر على خياله ، لم يجد سبيلاً إلى العدة من الكلمات والكثير من العبارات ، فكان حتماً أن يتساوق كلامه ويتعانق ويجري في ماء واحد ، يتكشف فيه القليل من الفقر عن الكثير من الفكر، وحسبه لمحة دالة وإشارة لامحة .

وكلام تجري عليه هذه الصفات يجمع عليه القلب ويحيط العقل من أطرافه بما تشاكل وتكامل .

ومبلغ علمي ، أن شعراء الفرس من السلف والخلف لم ينظموا الرباعيات كتباً لها المميز من عناوينها والمرتب من أبوابها وفصولها .

بل نظموها في أغراض شتى ثم جعلت من بعد بين دفتي كتاب . وفي تلك الحقيقة ما يلفتنا إلى شاعرنا محمد إقبال ويبعثنا على قولنا إنه نحا منحى جديداً في كتابه الذي بين يدينا ، فقد جعل القسم الفارسي الأهم الأكبر منه رباعيات ليس إلا ، ونظم منها مجموعات تندرج تحت أبواب وفصول .

والباب الأول من كتابه عن الله عز وجل ، وفيه يستنهج سبيل المتصوفة في تضرعهم إلى الله ومناجاتهم له والإبانة عما تموج به قلوبهم من عشق إلهي هو غاية في سمو الروحانية . بيد أنه يعارض المتصوفة في تهافتهم على توكلهم واستكانتهم وقطع الأسباب بينهم وبين دنياهم ، ويرى في هذا ما ينافر واقع الحياة ويحيد عن القصد ويتجافى عن الصواب ويصد عن فهم صريح القرآن . فالمؤمن الموقن يعمل لدنياه كأن سيعيش أبداً ، وينهض بالبشرية إلى ذروة المثالية ، ويوائم بين دنياه وآخرته .

وهو يحب الله بقلب صوفي واصل دلهه الشوق والتوق ، فيقول معبراً عن وجده وكمده :

هياج ماج في ماء وطين بلاء العشق من قلب حزين

قراري برهة حقاً حرام فرفقاً ، شأن قلبي من شؤوني

كما يتشبه بهم بعض الشيء في انصرافهم تمام الانصراف إلى الاستغراق في عشق الذات الإلهية بقطع النظر عن كل ما عداها ، ولا غرو فهم القائلون إنهم يحبون الله ولكن لا رغبة في الجنة ولا رهبة من النار، وهذا هو الحب الحق بالمعنى الأصح الأدق ، لأنه الروحانية في شفافيتها التي لا تعلق شائبة من المادية بصفاتها :

لـي الـدارين إني لا iiاريد
فهبني سجدتي فيها احتراقي

وحـسبي فهم ما روح iiتفيد
ومنها الكون في وجد iiيميد

غير أن إقبالاً حتى وهو في نشوته الروحية الغامرة يعبر عن عاطفته الدافقة لا ينسى القوم من حوله ، ولا يقتلع نفسه من الناس يموج بهم معترك الحياة ، فالغيرية مهيمنة عليه وإن استبدت الأنانية بسواه ، لأنه يتفجع ويتوجع للخلق وقد تردوا في ضلالهم وتحيروا في طريقهم ، وعز عليه ألا يذكرهم وهو في مناجاة ربه ، فجأر بشكواه من حالهم ، داعياً من طرف خفي بالخير لهم ، بعد أن نصب نفسه داعية حق يبنيه لهم ليضع أمرهم في نصابه :

عـلـى قـوم إلهي فلتعنى
رأت عيناي ما يقذى iiعيوناً

كراعي الضأن عالمهم بفن
ألا يـا ليت أمي لم iiتلدني

بعد أن تأذى بمناقص الناس ومعايبهم في رأيه ، كان على ذكر من الإنسانية ، ولم يفته أن يجري قولها على لسانه لأنه الجزء الذي لن يتجزأ منها . وتكشف عن شخصيته الإيجابية وعبقريته المتفتحة المنطلقة التي طوعها لخدمتها ، فدعا ربه لها وأمله أن يستجاب ، وتضمن دعاؤه جوهر فكرته وأساس نزعته وملامح كيانه العقلي والروحي وهو يقول :

إلهي زن لنا خيراً وشراً هب الدنيا نعيماً مستمراً

وشاهدنا خلقنا من تراب لنجعل عالم الغبراء نضرا

أما في الباب الثاني من الكتاب فلا يوجه خطاباً ولا دعاء إلى كائن من كان ، أو على التحديد لا يصرح واضح التصريح بمن يخاطبه كما كان شأنه في الباب الأول . وهو يجنح إلى رمزية حالمة يستشف منها أنه سعى إلى بيت الله حاجاً ، وأن فؤاده مشوق إلى أرض الرسول صلوات الله وسلامه عليه . وله ولع بوصف سفرته الطويلة ولعله يتأثر في ذلك بشعراء المتصوفة وهم يتمثلون التصوف طريقاً يشكو سالكها من طولها ووعورتها . غير أنه أرق قلباً وأجمل وصفاً وأدق تصويراً في نحو قوله :

مـسـاء مثل صبح قد iiتبسم
تمهل إن خطوات على رمال

تـمطى صبحها والليل iiأظلم
كـقـلـبـي كلها قلب ii تألم

ويفرغ من تصوير عاطفته ليولي عقله شطر حال المسلمين ، فلا جرم لقد ذكره مهد الإسلام بها ، فتساءل عن عاقبة أمرهم ورفع كربهم ، وساءه أن يكون للمسلم قلب أقفر من حبيب ، وهو يلمح بذلك إلى أن صلاح حال المسلمين لن يكون إلا بالوقوف عند حدود الدين ، ولزام أن يرق قلبهم للتقوى .

غير أنه لا يرتضي من علماء الإسلام إلا أن يمعنوا النظر في الدين ليفهموه حق الفهم ، ويكره منهم أن يغفل بعضهم عن دعوة الدين إلى الكفاح من أجل غد أسعد ، والعمل لخير الناس كافة ، وطرح العداء والشحناء والعيش في ظل الإخاء والصفاء ، كما ربأ بهم أن يتوهموا الدين جموداً وخموداً ، فالدين قوام الحياة يصلحها في كل أمورها ، ويسمو بها في كل مناحيها . كما يكره للمؤمن الحق أن يكون متواكلاً منطوياً .

والباب الثالث خاص بالمجتمع أو الشعب ، وقد صدره بقوله \" صل قلبك بالله واسلك طريق المصطفى \" وتندرج تحته عدة فصول وعناوين .

وهو في حديثه عن الجماعة يريد ليبصرها بمابدئه المثالية ونزعته الإنسانية ، ويبذل النصح مهيباً بها ألا تتخلف عن ركب التقدمية ، وأول ما يحبه للشعب أن يتآخى أفراده ويعرف كل منهم قدر نفسه دون أن يتعدى على حق غيره ، وبئسما الشعب يخضع فيه فرد ويذل لمن يطغى ويذل وينتزع الثمرة بغير حق من يد من لقي ما لقى من تعب في زرع شجرتها ، فهذا ما يغضب الله على الشعب كله وقد كبر مقتاً عنده تعالى:

ولاة أمر من ربى لشعب زماماً يملكون لكل أمر

ولكن لا يحب الله شعباً به الفلاح يزرع كي يلبي

ويخص الذاتية بالذكر لأنه من يجل ذات الإنسان إلى أبعد مدى ، وهو بذلك مخالف للصوفية الذين أرادوا المحو التام لها والقضاء المبرم عليها إلى أن تفنى في الله ، كما أن بعض المدارس الفلسفية والدينية تحط من قيمتها وتنفي عنها كل قوة وقدرة . وها هو ذا يعلي من قدرها ويستعير من المجاز لوصف حقيقتها :

لـذاتـك لا إلـه فضم iiمره
ولا تقبض يمينك عن iiوجود

لتخرج من تراب مات نظره
لـه القمران في وهق iiيجره

ومن فصول هذا الباب فصل بعنوان \" الصوفي والملا \" ، بمعنى الصوفي والشيخ . وإقبال يرمز بهما إلى موقفين لبعض المسلمين لا يقعان في نفسه موقع الرضا ، وهما موقف السلبيين الخاملين ، وموقف المتزمتين الجامدين . وهو من بعد يعرض الصوفي والشيخ في صورة المضحوك منه المسخور به ، مبالغة في توكيد الحقيقة التي يريد تناولها بالإيضاح . وما من ريب في أنه متأثر في هذا بمألوف شعراء التصوف في تهكمهم بالشيخ غير المتصوف ، غير أنه صاحب الرأي المخالف والمجدد غير المقلد حين يغلظ اللائمة على الصوفي والشيخ في وقت معاً . فعنده أن الشيخ آخذ بالمظهر لا يتجاوزه إلى الجوهر، أما الصوفي في عزلته وسلبيته فيشاهد حرمة الإسلام تنتهك ولا يحرك لساناً ولا يداً . وإقبال يدعو إلى تدبر آيات الكتاب الكريم التي تهدي سبيل الرشاد وتقطع الشك باليقين وتصلح بها حال العالمين . أما الشرط الذي يفرضه ، فهو ضرورة فهمها على الحقيقة التي ليس فيها من مراء :

لـمـلا أو لصوفي أسير ii!
من الآيات ما أدركت iiشيئاً

وفـي القرآن للعيش iiالكثير
ومن ياسين يبتغيك الحفير !
وفي فصل عن الخلافة والملك ، يدلي الشاعر برأيه فيهما ويدعو إلى الأخذ بتعاليم الإسلام في الحكم وسياسة الملك . ثم أفضى به القول إلى ذكر الأتراك في نهضتهم الحديثة . غير أنه عاب عليهم أن يتهافتوا على تقليد الأوروبيين ورأى ذلك زراية بهم وتجريحاً لعزة نفسهم ، لأنه الداعي على الدوام إلى احترام ذات الفرد والجماعة ، الموصى بالغوص على أعماقها للكشف عن قدراتها وملكاتها وهباتها ، وهو لا يرتضي للتركي أن يظل من الفرنجة في قيود ويبقى أسيراً لسحر طلسمهم ، كما يحزنه أن يكون المسلم عن تراثه المجيد من الغافلين ، وأن يعصب عينيه ليقوده الأجنبي إلى المصير. وبذلك يلتمس إقبال ما استطاع إليه سبيلاً من أمثلة لإشاعة رأيه وإذاعة مبدئه .

وتتجلى دعوته إلى التأدب بآداب الإسلام والأخذ بأوامره ونواهيه حين يوجه الخطاب إلى فتاة المجتمع ويزعها عن أن تتزين وتتبرج . كما يذكرها بعظم فضلها أماً صالحة ، ويرغب إليها أن توصي بالنظر في القرآن ، ثم يبين لها كيف أن ذلك يمكنها من تسوية النفوس ، إلى أن يضرب لها المثل بما كان من أمر أخت عمر بن الخطاب حين شاهد القرآن بين يديها فدفعه إليه ليقرأ حتى رق للإسلام قلبه .

وإقبال ساخط على ما آلت إليه الأمور في العصر الحاضر، فهو القائل فيه :

وعصر منه للدين الشكاة وحرياته وأد الطغاة

كما أنه يقدح في شبابه لأنهم ليسوا على بينة من أمر دينهم ، ويغمز فيهم لأنهم يقلدون الفرنجة في رقصهم ، فمن أقبح العيب عنده أن يقلدوا ، وتلك منه دعوة ضمنية إلى شدة التمسك بالذاتية .

ويريد ليحرك مسلماً من ركوده وجموده فيذكره بالبرهمي الذي يضع ما يعبد من صنم تحت بصره تبركاً وتعظيماً وإعزازاً ، على حين خلاطاق بعض المسلمين من مصحف يزدان به ، كما يظهر الإعجاب ببرهمي لايكل عن العمل الدائب ساعده القوي وينحت له به صنماً من الصخر الصلود . ثم يضرب أمثلة عدة وغايته من هذا كله أن يشحذ من همم المسلمين ليلتمسوا الوسائل إلى الغايات ويبتغوا بالعمل وجوه النجح .

ويتصدى للتعليم ، وفي نظره أن العلم يرسو على أساس من الحس ، وهو يمد الإنسان بقوة تتبع الدين ولابد ، وإلا فلن تكون إلا قوة شيطانية . كما أن العلم مقطوع الصلة بالعشق ، ثائر متمرد كالشيطان . أما إذا زاوجه العشق فهو إلهي الصفات . وبهذا العشق تكتسب الحياة مالها من معان ، ويصبح العلم بفضل منه نعمة للبشر .

وبعد ، فهذا كتاب من كتب عدة أطرفها محمد إقبال أهل الضاد وتبوأت مرموق منزلتها في المكتبة العربية بخاصة بعد أن تبوأتها في المكتبة الإسلامية بعامة ، وكان السبيل إلى ذلك نقلها عن لغة الفرس ولغة الهند إلى لغة العرب ، ولكن بكيفية تدخل تحت شرط دقيق لمزيد العناية، ونريد بذلك بذل الوسع لجعلها في النقل أقرب ما تكون إلى الأصل . وهذا متعلق بالمعنى والمبنى جميعاً ، وتلك صعوبة يواجهها المعرب ولا يجد ندحة عن توطين نفسه عليها . وهو واجد أن التوفيق محالفه في موضع وخاذله في آخر، إن كان ممن يتمسكون بالحرفية ويولعون بالمثالية .

ولذلك فهو ملزم بترجمة الشعر شعراً من نفس النمط وعين البحر، ولا ضير أن يفضي ذلك في الأحايين إلى وقوع الكلام موقع الغرابة من تذوق من يطلع عليه . ولكن للمعرب أن يتصرف في نطاق الإمكان ، ولتكن عنايته بروح المعنى في المقام الأول ، لأن مجرد إحلال لفظ مكان آخر يشوه من جمال الشعر على الخصوص ، فأي تبدل أو تقدم أو تأخر جدير بأن يزين أو يشين . ولا ريب أن قارئ الترجمة ينسى أو يتناسى أنه يرى القمر في الماء لا في السماء ، ويلقي السمع إلى الغناء فيما تردد له من أصداء .

وهنا وقفة لابد منها لأقول إن كتاب هدية الحجاز يتألف من شطرين أولهما يحتوي الرباعيات الفارسية التي ترجمناها ، وفي الثاني منظومات وبعض رباعيات باللغة الأوردية لم تترجم . والقسم الفارسي من هذا الكتاب هو الأكبر في الحجم ، كما انه في الأهمية أعظم ، وهو يشكل وحدة متسقة في نوعية منظوماته ، ويمكن أن يعد بحق كتاباً قائماً بذاته .

وجرى قضاء الله بألا يرى هذا الكتاب النور إلا بعد أن غشيت صاحبه ظلمة الموت في عام 1938 ، وما أشبهها بظلمة السماء التي يتجلى فيها النجم نوراً على نور .

القاهرة في الصيف من عام 1975 .