مقهى نياغارا

د. هاشم عبود الموسوي

ترجمة: د. هاشم عبود الموسوي

عندما يُقال بأن الترجمة هي نوعٌ من الخيانة، فإنني أعتقد بقيامي بترجمة هذه القصة الطريفة، أكون قد اقترفتُ الخيانة مرتين، أولاهما.. أنني قبلتُ الترجمة التي أمامي من المجرية إلى الألمانية، على ما وجدتها، وقمتُ بترجمتها مرّةً أخرى من الألمانية إلى العربية، فاعذروني على ارتكابي الخيانتين هذه.. ولكني متيقن من أنكم سوف تصفحون عن ذنبي عند الانتهاء من قراءة نص هذه القصة، والتي كان عنوانها باللغة الأصلية (المجرية) هو مقهى نياغرا، وبالألمانية كذلك، ولكني آثرتُ أن أُطلق عليها عنوان: (المقهى العجيب)، كي لا يتوهّم القارئ بأن أحداث القصة

 تدور في مناطق شلالات نياغرا في أمريكا، وإنما هذا المقهى الافتراضي وهذا الاسم الذي أطلقه الكاتب عليه قد اشتطها من خياله لتكون الأحداث في أحد مقاهي العاصمة المجرية بودابست.

سيرة الكاتب:

استفان أوركيني (Stvan Orkeny) (1912 – 1979م): قصاص وروائي ومسرحي مجري أصدر أولى مجموعاته القصصية (رقصة البحر) سنة 1942م أخذ بعدها بوقتٍ قصير إلى الجبهة في فرق العمل الإجباري ومن ثمّ كأسير حرب في بداية 1943م. سنة 1946م سمح له بالعودة إلى المجر، اشتغل كاتباً مسرحياً لعدة مسارح وقارئاً لدار نشر. بدأ الكتابة بأسلوب واقعي تقليدي تخلّى عنه لمصلحة معالجة ترتكز على الخيال المشتط Grotesque واللامعقول Absurd.

القصة المُترجمة هنا (مقهى نياغرا cafe Niagra) والمعلومات عن حياة الكاتب مأخوذة من الكتاب الصادر بالألمانية بعنوان: (ما ضاع شيئٌ) (Nichts is verloren)، خمسٌ وعشرون قصة قصيرة (Fuenf und Zanzig Ungarische Kurz Geshichten Ungarn, 1988) ، دار نشر كورفينا.

نص القصة:

لم يُمضيا السيد والسيدة نيكوليتش سوى أسبوعين بالعاصمة. وكانت تحدوهما رغبة في أن يستمتعا بكل دقيقة من إجازتهما القصيرة. بعد أن شاهدا إحدى الأوبرات. وبرغم أنها كانت مُضجرة إلى حد البكاء، فقد عادا إلى غرفتهما بالفندق معتدلي المزاج. فيما بعد ذهبا إلى حفلة موسيقية كانت متعتهما بها شاملة، لكنهما بعد ذلك قالا: "يا إلهي، ما أشد سخافتها". شاهدا كذلك مسرحية سوفيتية جديدة، وبرغم استمتاعهما بها في الإذاعة من قبل إلا أنهما لم يرغبا في تفويت الفرصة – خشية أن تخلق عودتهما إلى منزلهما دون أن يُشاهدا ولا مسرحية سوفيتية واحدة انطباعاً سيئاً

 عنهما. هذه هي آخر ليلة لهما من إقامتهما، تذكّرت السيدة نيكوليتش مقهى نياغرا الذي أصبح، بعد أن أُعيد بناؤه، معلم من معالم المدينة.

لم تُدهش السيدة نيكوليتش من عدم سماع موظف الاستقبال في الفندق بمقهى نياغرا. فلقد اعتادت هي وزوجها أن يجدا نفسيهما أكثر معرفةً بالمدينة من أهلها، برغم أنهما كانا زائرين قادمين من أقاليم خاملة. ولكون المقهى لم يكن مسجلاً في دليل الهواتف كذلك، فقد اقترح السيد نيكوليتش، وهو يشكو من معاودة المرض لمعدته، أن يتناولا عشاءً خفيفاً بمطعم الفندق ثم يخلدا إلى النوم.

"هذا يُمكننا فعله في بيتنا". هكذا أجابت السيدة نيكوليتش. "وإلى جانب ذلك، ألم ينصحك الطبيب بالاستجمام والتسلية؟". لقد أُصيب السيد نيكوليتش بنزيف القرحة قبل سنتين (نتيجة التوتّر النفسي، دون شك) وصار النزيف يعاوده منذ ذلك الوقت. لكن إذا كان للمرء أن ينال قسطاً من التسلية الحقيقية في محل نياغرا هذا. فسيذهب بالتأكيد، بكل طيبة خاطر. أما وأنّه قد تأكد لديه أن هذين الأسبوعين من الإقامة هنا كانا إخفاقاً ذريعاً كما في السنة الماضية، فإنه لم يعد متطلعاً إلى مساءٍ بهيج.

"شيءٌ ما يُنبئني بأننا يجب أن نخلد إلى النوم". لكن السيدة نيكوليتش كانت تموت توقاً إلى زيارة محل بوهيمي. ففي شبابها درست الرقصات الحديثة، وحتى قامت بالرقص هي نفسها مع فرقة للهواة (تحت اسمها قبل الزواج: ميليتا روبرخت) وأصبحت، منذ ذلك الوقت، مجنونة بالفن. خصوصاً الفن الجديد. وبرغم أنها لم تكن متأكدة حقيقة ما الذي كانت تريد أن تشاهده، فإنها رفضت القبول باقتراح زوجها بالبقاء في الغرفة.

كان سائق سيارة الأجرة قد سمع، لحسن الحظ، بالمكان. أخذهما إلى الطرف الآخر من المدينة، إلى ميدان صغير شاحب الإضاءة، حيث لاحظا حركة أضواء حروف اسم المقهى منعكسة على الرصيف المبتل. كانت توجد المزيد من أضواء النيون بالداخل. إضاءة أنابيب الكوارتز الملون الملتوية كاللوالب على الأعمدة الطويلة سبغت على الرواد مظهراً معتلاً شاحباً. لم يكن هناك رقصٌ ولا فرقة. حتى غرفة حفظ المعاطف كانت مُقفلة. بعد عثورهما على منضدة شاغرة في الجهة الأخرى من الحجرة، ألقى السيد والسيدة نيكوليتش معطفيهما على ظهر كرسييهما، الأمر الذي شاهدا أنه سبق وأن قام به

 الآخرون. كان الديكور كئيباً، قليلاً، وقبيحاً، بالنسبة للسيد نيكوليتش، وممعناً في الحداثة، بالنسبة للسيدة نيكوليتش. الجدران مُقسّمة إلى مساحات زرقاء، وخضراء، وحمراء وذهبية، دون أن يكون عليها أي شيء باستثناء خزف مُزخرف برسومات نبات الخزامى على أعمدة القاعة. وكانت الحجرة ممتلئة بدخان كثيف. مضى حوالي نصف ساعة على جلوسهما. أخيراً قال السيد نيكوليتش، الذي كان يجلس مولياً ظهره للحضور "ألا يأتي النادل؟". فردّت زوجته: "بالأساس، لا أرى نادلاً".

غيّر السيد نيكوليتش كرسيه، بالفعل، لا وجود للنادل في أي مكان. يوجد بار في الناحية الأخرى من الحجرة وباب بستارة حمراء – يُفضي إلى المطبخ فيما يبدو. لكن لا أحد خلف البار، وآلة إعداد القهوة السريعة لم تكن تشتغل، ولا وجود حتى لزجاجة واحدة من الويسكي أو أي نوعٍ من المشروبات الروحية فوق الرفوف.

بعد فترة قصيرة قال السيد نيكوليتش: "ينبغي أن يُقدّموا شيئاً ما. إنني أتضور جوعاً".

"لا تكن أحمق شاندور. فلقد حضرنا للتو".

"إنني أبحث عن النادل اللعين منذ ساعة".

"حسناً. توقّف عن البحث إذاً. ربما لا يُقدّمون خدماتهم إلا في وقتٍ متأخر. لابد أنّه شيءٌ جديد، فكّر في ذلك". لقد سمعت شيئاً عن مقاهي الخدمة الذاتية".

"إذن فسأقوم وأخدم نفسي بنفسي". قال ذلك السيد نيكوليتش بغضب.

"لا ينبغي أن تفعل ذلك. أنظر حولك ولاحظ الهدوء الذي يتحلّى به الآخرون".

كان السيد نيكوليتش قد لاحظ، في الواقع، إلى أي مدى يجلس الآخرون إلى مناضدهم صابرين، ولكنه صُدم الآن باكتشاف غريب ألا وهو عدم وجود مفارش على المناضد الرخامية وغياب أدوات المائدة، بما في ذلك الكؤوس والفناجين. كانت أحاديث الرواد خفيضة إلى درجة الهمس وكانوا يُلقون بنظرات عابرة متسائلة، وهم ينفثون دخان سجائرهم، نحو الباب الذي تحجزه ستارة. بين الحين والآخر يُطلّ شخصٌ ضخم أحمر الوجه بقميص داخلي من خلف الستارة ليُلقي بنظرة في أرجاء الحجرة كما لو كان يبحث عن شخصٍ يعرفه، وكما هو متوقّع، يُشير بعد برهة إلى شخصٍ ما بالقدوم. ينهض الشخص

 المومأ إليه ويغيب مع الرجل ذي البنية القوية وراء الستارة لبضع دقائق ثم ترتفع الستارة ليخرج الزبون متضرّج الوجه جراء المتعة. وعندما يعود إلى رفاقه فإنهم لا يقطعون حديثهم معتبرين، فيما يبدو، غيابه الوجيز أمراً طبيعياً تماماً. وفي هذا الأثناء يخرج الرجل ذو القميص الداخلي مجدداً مُشيراً إلى شخصٍ آخر، فيذهب معه.

"عزيزتي ميلي إلى أين يمضي هؤلاء؟" تساءل السيد نيكوليتش.

"إلى دورة المياه. إلى أين تعتقد؟".

"ولكنّ لماذا فقط عندما يدعون".

"لا أدري. ولن أُتعب ذهني في محاولة معرفة ذلك". قالت زوجته ببرود، ثم شرعت في تزيين أنفها وشدّ شعرها، دون أن تحول عينيها ولو لمرة عن الرجل المفتول العضلات بشعر صدره الأجعد البارز من خلال قميصه الداخلي. والآن ذهب زبون آخر إلى الداخل. أعقبه بعد عودته شخصٌ آخر "هل يسير الأمر حسب الدور؟". تساءلت السيدة نيكوليتش. "أم أنه مقتصر على الذين بالداخل؟". حرّكت كرسيها على نحوٍ يُمكن من ملاحظتها فيه بسهولة من الناحية الأخرى من المقهى. لكنّ الرجل ذو القميص الداخلي أشار برغم إلقاءه نظرة خاطفة على كعكة شعرها الأشقر إلى المنضدة المجاورة لهم. ومن ناحية

 ثانية حاول السيد نيكوليتش جاهداً ألا يُلاحظ من قبل الرجل الفظ الملامح، على الرغم من أنه لم يتمالك نفسه عند ملاحظته لكيفية قفز جاره من على كرسيه بتلهّف عندما نودي عليه والسرعة التي اجتاز بها طريقه نحو الستارة الحمراء. بدا أنّه شخصٌ مُهمّ، ليس فقط بسبب الوسام المُثبّت على صدر سترته. ولكن بسبب ما تعبّر عنه هيأته ومشيته المعتدّة، وشعره الذي في بياض الثلج. ظلّ السيد نيكوليتش يُمعن فيه النظر. ناسياً جوعه، وحتى قلقه، وقد خامرته رغبة في التسلل إلى الباب واستراق نظرة إلى الرجل العجوز، لكنه لم يجرؤ، ولهذا فقد اكتفى بالاستدارة في كرسيته

 والتحديق بالستارة.

انتبه، فجأة، إلى أن جميع من بالحجرة يتخذون نفس الوضع مواجهين الستارة، كان يبدو أن الزبائن يتحدّثون فيما بينهم، ولكنهم كانوا في الواقع يتبادلون فقط جُملاً سريعة قصيرة، كما لو كانوا يتوقّعون حدثاً هاماً ومُبهجاً ويتفادون أن يحدث وهم غير متأهبين له. كان الترقّب يُضني السيد نيكوليتش إلى حد أنّه قفز واقفاً عندما خرج العجوز الأبيض الشعر من باب المطبخ واستوقفه "معذرةً سيدي. إننا ننتظر هنا منذ أكثر من ساعة. هل سنلتقي خدمات هنا الليلة؟".

"لماذا أنت قليل الصبر إلى هذا الحد؟" تساءل الرجل هازاً رأسه إنّك لست مراسلاً صحفياً، أليس كذلك؟

"كلا سيّدي إنني مهندس زراعي".

"عليك إذن بالهدوء" قال العجوز مربتاً على ظهر السيد نيكوليتش بودّ. هذه المرة الرابعة التي نأتي فيها هنا والليلة حان دورنا أسرع من أية مرّة سابقة." ثم جلس العجوز مُبتسماً وكان به عرجٌ خفيف لم يكن يُلاحظ عندما غادر الحجرة مُسرعاً. سددت السيدة نيكوليتش نظرة غاضبة إلى زوجها: "لِمَ تتسرع في السؤال أنظر إلى المحتفلين هنا. حتى (زوبو ريجي) يجلس هناك وليس مستاءً مثلك" كان الممثل الكوميدي المشهور الذي تظهر صورة بكل المجلات، حاضراً بالفعل. عقد السيد نيكوليتش يديه منتظراً بهدوء مثبتاً عينيه الخرزيتين على الستارة شاعراً بالذنب كتلميذ صغير،

 عامد ظهره مثل العجوز وطوى ذراعيه مثل زوبو ريجي منتظراً بقلق عودة الزبائن الذين تابعهم بنظره وهم يُغادرون، وحاول أن يستنبط من وجوههم ما حدث خلف الستارة ولكنه لم يُفلح. فهم يُغادرون الحجرة بملامح مشدودة تتجه عيونهم إلى البعيد وبابتسامة حالمة ويعودون مكتسين نفس التعابير باستثناء أن الابتسامة أصبحت على نحوٍ ما مغتصبة كما لو صمّمت لأن تكون قناعاً لتجربة روحية عميقة، انقضى المساء متثاقلاً، قام معظم الزبائن برحلتهم إلى المطبخ والعودة. بدأت أعماق السيد نيكوليتش تضطرب. ففي كل مرة يظهر فيها الرجل ذو القميص الداخلي يُحاول أن يجتذب

 انتباهه وكان يرفع رأسه فجأة، أو يعطس، أو يقوم بحيل صبيانية أخرى. إنّه ينظر الآن في أرجاء الحجرة نظرة متمهّلة، وحتى أنه يقوم ببضع الخدع للزبائن. كان يُمعن النظر في سيدة ترتدي قبعة جميلة وعندما تقفز عن كرسيها يومئ إلى شخصٍ آخر في نهاية الحجرة فتسري همهمات الرضى عبر المقهى ويبتسم الزبائن بتشفٍ لهذه النكتة.

أخيراً حانت اللحظة المرتقبة: إذ أشار الحاجب إلى منضدتهما قفز كلاهما، لكنّ الرجل ذا القميص الداخلي أومأ بيمناه إلى السيد نيكوليتش، بينما كان يُشير إلى ميلي بيسراه، كما لو كان يضربه على رأسه من بعيد، اتخذت المرأة طريقها مسرعةً وغرق السيد نيكوليتش في كرسيه محدقاً في زوجته بعينين مفتوحتين على آخرهما.

لم يُطق الجلوس طويلاً ونهض عندما نفد صبره، لكنّ النظرات المستفهمة من حوله أثابته إلى رشده، فعاود الجلوس. أخيراً انفتحت الستارة وظهرت ميلي، لكنّه لم يجد الوقت لطرح الأسئلة لأن الرجل ذا القميص الداخلي أشار إليه، بعد طول انتظار، بأصابعه المكتنزة. استطاع أن يُلاحظ، برغم ذلك، اللمعة الغريبة بعيني زوجته والتورد الذي كسى وجهها، وكان هناك شيءٌ ما مُصطنع وغير طبيعي في مشيتها كما يحدث عندما يحاول السكران إثبات أنه بإمكانه السير بشكلٍ سليم تماماً، وعندما تقابلا وجهاً لوجه تجنّبت النظر إليه.

أومأ الرجل ذو القميص الداخلي برأسه مزيحاً الستارة إلى الخلف، بدأ وجهه عن قرب أكثر وداعة، جبهته الضيقة وأنف الملاكم الأفطس الذي يملكه بمنخاريه المبينين لا يُمكن وصفهما بالملاحة، ويوحيان مع ذلك بانقيادية ودفء حيوانيين. وراء الستارة يوجد باب دوار فتحه للسيد نيكوليتش بأدب.

"لا.. لا.. من هنا لو سمحت".

بعد أن اجتاز ممراً قرميدياً وصل السيد نيكوليتش المطبخ الذي كان نظيفاً وأنيقاً بشكلٍ غير معهود. لم يكن الموقد مشتعلاً وبدت القدور والمقالي على الرفوف غير مستعملة، وكانت مقلاة واحدة مُعلّقة على الحائط تلمع كالبدر لم يكن هنالك يوجد طباخون ولا خدم، أما الرجال الثلاثة الذين رآهم السيد نيكوليتش فيُمكن أن يكونوا أي شيءٍ عدا خدم كان أحدهم يحمل هراوة بيده والآخر عصا من الخيزران، بينما كان الثالث يقف خالي اليدين، ودون أن يتفوّه بكلمة صفع السيد نيكوليتش على وجهه لمجرد دخوله، لكنه نال توبيخاً على ذلك "هل جننت يا شموخي؟" صاح ذو القميص

 الداخلي بحدة "كيف تهاجم شخصاً بهذا الشكل؟" ولكي يصلح هذا الحدث البغيض وجّه حديثه إلى السيد نيكوليتش بشكلٍ أكثر كياسة "عليك أن تُبدي الحماس. هذا كل ما هنالك الرغبة والحماس ما هي رغبتك سيدي؟ هل تمانع في التعري مثلاً؟". ظلّ السيد نيكوليتش واقفاً مكانه ناظراً إلى الرجال الأربعة لم يكن خائفاً ولا مندهشاً، فلقد كان لديه دائماً شعور – كلا، لقد كان متأكداً من أن شيئاً كهذا سيحدث له يوماً ما، وقد قرر أنه من الأفضل أن ينتهي منه الآن، ولكنه وجد صعوبة في صياغة كلماته.

"لا أُفضّل ذلك، إذا لم يكن لديكم مانع".

"مانع.؟ بالتأكيد لا قال ذو القميص الداخلي بابتسامة ودودة "واضح أنك لست من المدينة هل تُمانع في أن تشتم أيضاً.

"أترك أمر ذلك لكم".

تنحّى ذو القميص الداخلي جانباً قائلاً هيا يا شباب بدون تكاسل" شرع المرافقون الثلاثة، الذين كانوا يبدون أنهم خائفون من الرجل ذي القميص الداخلي في ضرب السيد نيكوليتش بشدة لم يكونوا مندفعين ولكنهم كانوا يعملون بكفاية وكانوا يضربونه كما لو كانوا يطرقون حديداً ساخناً بسرعة قبل أن يبرد مطلقين تعليقاً بين البرهة والأخرى "إذاً فأنت لست راضياً عن معدّل محصول القطن آه؟ قال الرجل الذي يُمسك بالهراوة "تعتقد أنّك عارف بكل شيء، أليس كذلك" صرخ الرجل الذي يستخدم عصا الخيزران أغدق الرجل الثالث، الذي لم تكن لديه أداة ضرب وكانت مهمته الصفع على

 السيد نيكوليتش شتائم عامة خذ هذه أيها القملة! وهذه أيها التافه! ثم هذه أيها الخنزير!" صارخاً في كل مرة يوجّه فيها إليه لكمة.

لم يشترك ذو القميص الداخلي في الضرب، ظلّ يقف عاقداً ذراعيه، وفقط عندما انفتحت فرجة ضيقة، ركل السيد نيكوليتش على مؤخرته بعقب حذائه، يُمكن تبيّن أنه لم يكن من وظيفته أن يفعل ذلك ولكنه كان يُريد بدون شك، أن يكون قدوة لمساعديه الذين بعد أن شرعوا في العمل بحماسٍ مُفاجئ انقطعوا فجأة تراجعوا ثلاثتهم وأشعل صاحب الهراوة سيجارته التي كانت حتى هذا الوقت تتأرجح من زاوية فمه، وبرغم أن السيد نيكوليتش كان يشعر بالصداع وأن ركبتيه كانتا ترتجفان قليلاً، إلا أنه لم يكن منهكاً بل أنه شعر بأنه خفيف وحُرّ كما يحدث للمرء بعد نزهة مُتعبة ولكن مُبهجة

 أو بعد تدليك جيد، فقد انزاح عنه القلق الذي ظلّ يُلازمه طوال هذا الوقت ومع ذلك لم يجرؤ على المغادرة ابتسم الرجل ذو القميص الداخلي وفتح له الباب.

"من هنا، سيدي لو سمحت".

خطا السيد نيكوليتش بضع خطوات، ثم توقّف لا يدري إذا كان من العادة في مثل هذه المناسبات تقديم إكرامية مالية. وضع بعناية شديدة، ورقة من فئة العشرة فورنتات على حافة المنضدة، عَبّر صاحب الهراوة عن شكره لذلك بانحناءة بالغة ووضع النقود في جيبه، اجتاز السيد نيكوليتش الصالة عائداً إلى وسط المقهى، كانت عيناه تبرقان ووجهه الشاحب متضرجاً بسبب الاستثارة، حاول أن يسير برشاقة الجنود لأنه شكّ في أنه يعرج قليلاً، بعد أن جلس قرب زوجته قام يُبلّل شفتيه بريقه في سيماء موحية بالرضا.

بقيا لمدة خمس عشرة دقيقة أخرى، رجعا بعدها إلى الفندق وفي اليوم التالي غادرا إلى مدينتهما النائية في الأقاليم المهملة.