ازدواجية اللغة أم نصفية اللغة

من مشكلات تمدرس أطفال المهجر

ذ. سعيد عبيد / تازة - المغرب

[email protected]

يقال إن الطفل المهاجر في فرنسا الذي ينهي تمدرسه الابتدائي دون أن يحتاج إلى خدمة التعليم المتخصص أو يقضي زمانا في أقسامه يعتبر طفلا ناجحا. و لكن، كم ثمن ذلك النجاح؟ و كيف يتم ذلك؟ و ماذا يحدث؟

من قبل كان يقال إن بعض هؤلاء الأطفال لا ينجحون بسبب كونهم مزدوجي اللغة، و الآن نقول إنهم نصفيو اللغة، غير أن هذه اللفظة لا تقاس بمصطلح المناصفة، و لكنها تحمل فكرة أنهم لم يكتسبوا – بطريقة عملية – قدرة استعمال اللغتين معا، اللغة الأم و لغة المدرسة.

لنأخذ حالة البرتغاليين، لأنها الحالة الأبسط. فالطفل البرتغالي [ في فرنسا ] ليس أقدر على متابعة تمدرسه باللغة البرتغالية منه على متابعتها باللغة الفرنسية، و هذا العجز مرجعه إلى أسباب لغوية؛ إذ لم يكن المستوى الثقافي لهؤلاء التلاميذ هو السبب، لا و لا هو انخفاض المستوى الإجمالي للغة الفرنسية عندهم، و لكن ذلك راجع إلى أن شروط اكتساب و تطور اللغة الأصلية من جهة، و اللغة الفرنسية من جهة أخرى بدل أن تساعد هاتين اللغتين، عملت أكثر على مضايقة سياقيهما معا؛ ذلك بأن وجود إحداهما أوقف نمو الأخرى و تطورها.

هذه ليست مشكلة ازدواجية اللغة، و لكنها مشكلة نمط حياة، كما أنها مشكلة التوجيه المقدم للآباء، و مشكلة الوضع التعليمي، أو الرغبة الكبيرة في الاندماج. مشكلة أناس يقولون – بحسن نية – لخادمة البيت، أو لبواب العمارة: " إذا أردت أن يتفوق ولدك في المدرسة، فعليك أن تكلمه بالفرنسية".

فلماذا يا ترى يُطلب من الطفل المهاجر الانخراط في سباق للعدْو، و أداء مهمة وسيط العائلة، في حين أنه معوق لغويا؟ لماذا الطفل المغاربي الذي يستطيع تعبئة أوراق الضمان الاجتماعي، و يستطيع أن يدبر شؤونا إدارية معقدة للغاية، لا يستطيع بالمقابل حل مشكلة [ تعليمية بالفرنسية ]؟

أين الإعاقة؟ لماذا يستطيع أن يعبر باريس طولا و عرضا على متن قطار الأنفاق، أن يطوف طوافا معقدا، أن يفكك و يعيد تركيب دراجة نارية، و لكنه لا يستطيع أن ينجز بطاقة في الرياضيات [ بالفرنسية ]؟

لهذا قررنا أن نلعب باللغة الإسبانية مع مجموعة من التلاميذ في حدود العشرة، في مدرسة عتيقة للتعليم الأولي – حيث كانت المعلمات متفتحات -  في حي لاكوت دور بباريس، مكتظة بأطفال مهاجرين يعانون ظروفا معيشية صعبة.

كنا نعلم – لنسجل هذه الملاحظة في موضع آخر- أن أولاد المهاجرين ذوي المستوى الجامعي، أو اللاجئين السياسيين ( برتغاليين و يونانيين ) كانوا مزدوجي اللغة، و كانت لديهم في سن الرابعة نتائج أفضل بكثير من أحاديي اللغة في النسقين اللغويين معا. و من جهة أخرى فإن أولاد المهاجرين العمال عندما لم يحصروا بين نسقين لغويين، اكتسبوا أحدهما فقط. هذه الاستنتاجات تجد لها تفسيرا منطقيا في إطار فرضية الإعاقة الاجتماعية الثقافية، و الحال أن بعض الجمل الصادرة عرضا عن هؤلاء الأطفال تؤكد هذا التشييد الفرضي المناسب.

جوابا عن سؤال: " بأي لغة تتكلم في البيت؟" بدت "الإنجليزية" إجابة غير مناسبة، أما "الفرنسية" فكانت قليلة الاحتمال، إذ إن هذا الطفل يتكلم الفرنسية بشكل رديء جدا، و كذلك أبواه. و حسب المختصة النفسانية للمدرسة، فإن عدم معرفته بماذا يتحدثون في البيت، معناه على الأرجح أنهم لا يتحدثون أصلا.

في هذه الأثناء باشرنا بحثا حول مستوى اللغة الأم و اللغة الفرنسية في وضعيات لعب. في البداية رفض الأطفال [ الإسبان ] رفضا قاطعا حتى مجرد الاعتراف بأنهم إسبان قائلين: " الإسبان كلهم مغفلون ". و أمام إلحاح مرسيدس، المعلمة ذات الأصل الإسباني، ( و هذا مزج غير قابل للتصديق في نظر هؤلاء الأطفال )، أخذت التحفظات تتراجع شيئا فشيئا. إننا لم لم نحادثهم أبدا باللغة الفرنسية، غير أنهم خلال عدة أسابيع واصلوا الإجابة بالفرنسية. كمية الإسبانية الصادرة عن هؤلاء الصغار ارتفعت بشكل تدريجي، و في الوقت نفسه أخذ السلوك المدرسي العام يتحسن: العنيف أصبح متعاونا، و المعقد المنعزل أضحى مشاركا. ثمة مفاجأة أخرى، تطور اللغة الفرنسية عندهم أصبح ملموسا. كان السؤال الذي طرحته عليهم المعلمات كالآتي: " ماذا فعلتم في س...؟" " لا شيء، لعبنا فقط بالإسبانية مع فلان أو فلانة".

التحولات كانت كثيرة إلى درجة أن مديرة المدرسة - مدفوعة أكثر من الجميع بالحرص على التطور الجيد لهؤلاء الأطفال الذين تعرق أسرهم، و ظروف عيشهم، و الصعوبات التي تنتظرهم- طلبت منا أن نفعل الأمر نفسه مع باقي أطفال المدرسة من الجنسيات الأخرى.

تقدمت كلوديت، و هي معلمة من أصل برتغالي، لتحدث " المعجزة " من جديد: أطفال لم يكونوا يتحدثون في المدرسة لا البرتغالية و لا الفرنسية، أخذوا شيئا فشيئا ينتمون إلى جماعة القسم، ينشطون أو يهدؤون، يأتون إلى الفصل بفرح و سرور. و ذات يوم، عبر أحد التلاميذ الجدد عن دهشته البالغة حينما سمع كلوديت تتوجه إليه باللغة البرتغالية قائلا: " عجبا، إنك تتحدثين مثل أمي."

الملحق الثقافي لسفارة يوغسلافيا(1) مقتنعا تماما بأن الأطفال المهاجرين لا ينبغي أبدا أن يفقدوا صلتهم بلغتهم الأصلية، أرسل معلما لتنشيط ورشة يوم السبت باللغة الصربية الكرواتية. موسيقى و أغان و رقصات و قصص تجعل الأطفال الراغبين في ذلك ينغمسون كليا في بيئة أخرى، إلى درجة أن أم الصغير سلوبودان لما حاولت الإبقاء عليه إلى جنبها في البيت صباح السبت، رد عليها قائلا: " اليوم هو السبت، لن نذهب إلى المدرسة، سنذهب إلى يوغسلافيا".

وجود معلمة برتغالية في المدرسة سمح بعقد اجتماع مع الآباء، هذا الاجتماع لعب على صعيد آخر دورا حاسما في العلاقات الفرنسية البرتغالية داخل المدرسة. روت المديرة قصة الاجتماع هكذا: " كل الآباء كانوا في مكتبي، خجلين في البداية. كانت كلوديت تجلس على أريكة، في حين كنت أجلس أنا على أحد الكراسي الصغيرة المخصصة للتلاميذ. كان النقاش باللغة البرتغالية حيويا للغاية، و كان الآباء يعبرون عن آرائهم بوضوح. رأيتهم يطرحون على كلوديت أسئلة عديدة، و هي تجيبهم. و بين الفينة و الأخرى كنت أرفع يدي من كرسيي الصغير المنعزل إلى حد ما، طالبة ترجمة ما يكون قد أضحك الجميع أو أثار مرحهم. بعد الاجتماع أطلعتني كلوديت على أسئلة الآباء المناسبة، و المنصبة – في الواقع – حول وظيفة المدرسة، و التوجيه، و التعليم الثانوي، و غيرها..." بعد ذلك الاجتماع المشهود، لا أحد من تلامذة المدرسة البرتغاليين واجهته مشاكل "لا تقهر"، أو احتاج أصلا إلى تدخل الأساتذة "لمتخصصين".

في السنة الماضية، انتقل التلاميذ البرتغاليون و اليوغسلافيون الذين استفادوا من تلك الأوراش إلى الأقسام التحضيرية. لا أحد منهم رسب، كلهم تعلموا القراءة بالفرنسية بشكل سوي. و أكثر من ذلك، فقد حصل الصغار البرتغاليون الخمسة الذين سبق لهم أن درسوا في "مدرستنا" الأولية على مراتب متقدمة في المدرسة الابتدائية الأقرب منا، في حين أن الأطفال البرتغاليين الآخرين رسبوا. هكذا تجري العادة.

ماذا حدث؟ إننا بواقع ساعة و نصف أسبوعيا لم نلقن الإسبانية و لا البرتغالية و لا الفرنسية لأطفال بُكم خرس، و بالمقابل فكل المدرسة تعلمت أناشيد برتغالية، و عاشت أجواء يوغسلافية. الآباء كانوا يستقبلون على الأقل مرة في الأسبوع من لدن أفراد يتكلمون نفس لغتهم، و الذين ضاروا مترجمين لهم، أو عنهم لهيئة المدرسة. حوار أكيد توطد بينهما، و العلاقات بين الأسرة و المدرسة تغيرت، و الآباء و الأمهات أخذوا يترددون على الأقسام باستمرار، و الأطفال أخذوا يتكلمون كثيرا، و بشكل ثرثار في بعض الأحيان.

              

* عنوان المقال الأصلي: اليوم هو السبت، لن نذهب إلى المدرسة، سنذهب إلى يوغسلافيا.

* (1) انقسمت يوغسلافيا إلى ست جمهوريات في بداية التسعينيات. ( المترجم ).

* المرجع: الإخفاق المدرسي ليس حتمية – مجموعة البحث " مركز دراسة التعليم المتخصص و التكييف المدرسي".

L’echec scolaire n’est pas une fatalitè – C.R.E.S.A.S – les èditions E.S.F – Paris – 4 è – 1988.