البئر العميقة

أمضى رودريجو يومين يمسح أرضه حثيث الخطو . قاس ، وجمع ، وحسب كل رقم . وحين رجع إلى البيت أخذ

ورقة وقلما ، وقضى ما يزيد على ساعة حاسبا . وأخيرا قال لزوجه : هو ذا ، هو ذا ما نملكه من الأرض . فدادين حشيش وقمح وشوفان . فدان لكل حيوان في جميع المراعي . تعرفين أنني مدى عشرين عاما كان

لي أحلام ومطامح كبرى . كنت أتمنى مائتي فدان من الأرض الخصيبة وغابات وحيوانات ومباني صحية .

صارت تلك الغاية حياتي ذاتها . أنفقت عمرا لبلوغها مثلما ينفق الناس الوقت في رحلة . ساعة وصول وساعة

مغادرة . أراني وقد غدوت ثريا في الأربعين في هذه الأرض الفسيحة المنبسطة . عمري الآن ثمان وثلاثون سنة

يا زوجي ، وأراني بلغت غايتي أوسع بلوغ إلا أنني أمتلك أربعمائة فدان من الأرض بدل مائتين  ، وضعف

ما كنت أريد من المواشي .

ابتسمت زوجه ابتسامتها المألوفة لحظة الفرح وقالت : أنا سعيدة . عملنا أنت وأنا . وها نحن مثلما تقول

بلغنا غايتنا .

وطعما عشاءهما صامتين ذاك المساء . وفي الغد ، مع بزغة الشمس ، سار رودريجو  على الدرب

الذي تسير عليه المواشي ، وقضى ساعة وسط المرج . قرابة مائة من الأدغال وكثير من النباتات الأخرى

التي لا أسماء لها ولا قيمة تنبت في مرج من الأرض المنبسطة . أطال النظر إلى الأرض الجديدة التي

استطاع إضافتها إلى أرضه السابقة . أرض جديدة تشبه مملكة بينما لا يملك بعض الناس سوى حفنة

فدادين . أرض جديدة من الحقول المزروعة ، وذات مراعٍ أيضا . إنها ثراء جديد . وغمغم رودريجو

لنفسه : لابد من بئر يجلب منها الماء لهذه الأرض القاحلة . يمكنني إضافة مائة فدان إلى ثروتي بماء

البئر ، ولابد من قنوات لجلب الماء هنا وهناك . لابد من إصلاح الأرض وحرثها .

وعندما عاد إلى البيت هذه المرة بدا مهموما أكثر مما كان البارحة ، وفقدت زوجه شيئا

من فرحها وشيئا من ابتسامها . سألته : قلق ؟

قال : آتٍ من المرج في المنطقة العالية .

تشاغلت حول المائدة ظاهرة اللامبالاة إلا أنها كانت راغبة للغاية في معرفة سبب إثارة زوجها

هذه الإثارة القوية . وأردف رودريجو : في المرج مائتا فدان جيدة يمكنها إغناءنا .

لبثت واقفة عند المائدة وفجأة تقبض محياها وأصاب نفسها ألم غريب كأنه خوف من . . . 

قالت : تحدثت أمس عن بلوغ غاية . نحن بلا أبناء . وما نملكه يكفي احتياجاتنا جدا .

لماذا تريد المزيد ؟

قال : إنه الطموح . سنملك خمسمائة فدان . رقم يقال بزهو .

_ بل هي الغطرسة . الغطرسة الخبيثة ، ثم دعني أقل لك . . .

إلا أنه قاطعها : لا . لا تقولي ! لا تقولي شيئا ! لن أسمعك . أنا في حاجة لهذه الفدادين .

إن قنعت بهدف أحققه في ريعان الشباب فسأحيا بقية أيامي دون رغاب جديدة ، ولن يكون

هذا طبيعيا . ستغدو حياتي حزينة . أريد هذا المرج ولابد من حفر بئر لامتلاكه . لابد

من شق جوف الأرض لإضافة الماء الكامن فيها . هناك أطنان من الصخر فوق هذا الماء .

لكنه حين يتدفق سيغمر هذه الأرض الجدباء .

لم تقل زوجه شيئا . طعما البارحة عشاءهما صامتين ، لكنه كان صمات الفرح ،

أما اليوم ففجأة غدا الصمات ضربا من البغضاء الصماء . وفيما بعد قطع رودريجو

ذلك الصمات قبل أن ينام . قال : أعيد عليك يا زوجي كلامي : بي حاجة إلى هذا المرج الكبير .

بيد أنها هزت كتفيها لامبالية واستسلمت للرقاد . وفي الغد قصد رودريجو القرية ليبدأ العمل

في فتح المرج : يستأجر الآلات ، يحصل على المشورات في شأن البئر التي يجب احتفارها .

ونهاية ذلك الأسبوع  جاء سباستيان حفار الآبار بحفاره العالي فوق عجلاته . وبعيدا في المرج

اختار الموضع الذي أراد الحفر فيه ، فأقام قاعدة الحفار بعون ابنه الكبير النحيل وشغل محركه.

اندق الحفار في الأرض خلال أيام بوصة وراء بوصة . وفي البدء عنت الأرض لضرباته .

وفي اليوم الرابع حضر رودريجو إلى المرج ليري ما يجري فيه ، فأراه سباستيان الجرانيت الأحمر

الجيد الذي أظهره الحفر . الآن كل ضربة من  الحفار صارت تصطدم بعقبة . وبعد مائة خطوة في العمق

قضم الفولاذ شيئا من الصخر ثم شيئا آخر ، وتقدم بمعدل بوصة في الساعة .

قال سباستيان : سنصل إلى هناك . الماء أسفل الصخر . الماء دائما موجود .

وفي انتظار ظهور الماء استخدم سباستيان خيله ومحراثه لشق القنوات والجداول التي ستنقل

الماء إلى كل مكان في المرج . وشق بحيرة صناعية هي عبارة عن حوض ضخم يستقبل الماء

ثم يجريه في القنوات والجداول .

وفي تلك الأثناء كان سباستيان يتابع دفع الحفار خلال الجرلنيت  . وهكذا ساعة بعد ساعة وخلال ثمانية عشر

يوما استغرقها الحفر ؛ انتهى العمل ؛ ففي اليوم الثامن عشر تدفق الماء من جوف الأرض في صورة

اهتزازات مصمتة للتربة ، فصاح سباستيان : الماء ! ها هو الماء !

وتدفق الماء عاليا جدا حتى بدا كأنه يود بلوغ السحاب . وصاح رودريجو بدوره : الماء !

وجاء عدوا من قلب المرج . وسارع سباستيان بوضع آلاته فوق العربة وخرج معجلا من البحيرة الصناعية

التي شقها رودريجو وشرع في ملئها . وفي الحال بلغ الماء حوافها ، فنقلته القنوات والجداول إلى كل مكان .

وذاك المساء احتسى رودريجو وسباستيان والجيران في المقاطعة أنفس أنواع الخمر وغنوا واحتفلوا بالماء

الجديد . وسأل كل جار : قل لنا ، هل ستبخل علينا بمائك الذي تملك منه مقدارا كافيا ؟

صاح رودريجو : ستأخذون قدر ما تريدون . ستأخذون قدر ما تريدون . موجود منه قدر يكفينا كلنا .

وصرح العجوز سباستيان :  لا أذكر أنني رأيت قدرا من الماء تدفق  من الأرض مثل هذا القدر . هذا

تقريبا يشبه المعجزة .

وبعد ثلاثة  أيام فحسب  من الفرح الكبير تعين على رودريجو الاعتراف  بأن الأموربدأت تسوء ؛ لأن الماء

سال بقدر يقل تارة ويزيد تارة عما كان عليه في اليوم الأول . ومات النبات واسود في كل مكان

وصل إليه ذلك الماء . هلك كله بدلا من أن يعود إلى الحياة . وقصد رودريجو جيرانا كثرا

للنظر في الأمر ، واستحسن كل جار ذلك الماء ، وشاهد تدفقه دون فهم شيء من أمره ودون

اكتشاف علة إهلاكه كل شيء . وبعد وجيز من الوقت غُمر المرج ، وبدأ الماء يصل إلى

فدادين رودريجو الجيدة التي رآها تموت بدورها . لقد أنشأ أعمق بئر في خزان فيه عشرون

إصبع ديناميت وكثير من جذوع شجر البتولا . إنه منجم رفعه رودريجو دون أن ينذر أحدا ، وبدلا

من سد المخرج اندفق الماء مضاعفا . لم يتوقف جريان الماء مدى عامين ، ولم تكن أرض رودريجو

خلالهما سوى مرج أسود . وبدت مبانيه مهجورة ؛ فقد رحل عنها حطيما ليكسب في المدينة ما

يتقوت به ، هو الذي أراد زراعة الأرض . وبعد حين ، بعد حين مديد ، علم رودريجو أن الماء

الذي تدفق من أرضه كان يحوي كبريتا ، وأنه لو كان أخبر سكان المدينة بذلك لقصدها آلاف

 المرضى طلبا للشفاء من أوجاعهم ، ولكان عرف ثراء أكبر عشرين مرة من الثراء الذي

تجلبه الأرض بقوة العمل ، لكن هذا عرف متأخرا عشرين عاما وقبل بضعة أيام من وفاة

رودريجو ، فلم يبتسم إلا ابتسامة واهنة ، وتنهد التنهيدة الأخيرة غير ناظر إلى زوجه القريبة منه

والتي شاخت من الحرمان ، وتنظر الآن في جمود إلى الرجل الذي لم يدرِ كيف يتعرف اللحظة

التي كان فيها ثريا .

* : قصة : إيف تريول .

وسوم: العدد 655