الحوت الذهبي العينين

عاش في البحر البارد ، في مكان بعيد جدا من مكاننا ، حوت رمادي في لون البحر ، ولون الريح ، ولون الضباب ، لم ينسه البحارة الذين رأوه ما عاشوا ؛ ذلك أن عينيه كانتا لؤلؤتين ذهبيتين . وألف البحارة بعد أن يعودوا ويدخلوا الخانات أن يهتفوا : رأيناه ! رأينا الحوت الذهبي العينين !

وسمع الملك في قصره هتافهم ، فتمتم : أحب رؤية هاتين العينين الذهبيتين ، فلا ريب في أنهما عينان سحريتان .

ووعد أن يمنح من يأتيه بهما جائزة كبرى . واعتاد البحارة عند ركوبهم البحر ألا ينسوا أخذ حرابينهم  معهم لتساعدهم في صيده غير أنه كان إذا سمع مراكبهم تمخر عباب  البحر يغوص عميقا فيه ، ويمضي إلى شاطئه الآخر ، فلا يراه هناك سوى الفتى نول الذي يحبه . وكان نول هذا تعيسا يتيم الأبوين ، يعيش في كوخ مع عمته هل التي لا تحبه . وألف كلما رجع عشية أن يقعد فوق نتء  صخري موهون القوى من العمل الذي كلفته به عمته ، ويشرع في انتحاب عنيف يحمل البحر صداه أحيانا إلى شاطئه الآخر ، فأتى الحوت ذات عشية وخاطب نول في صوت حنون جعل موج البحر يثور ، قال : انتظر قليلا يا نول الصغير ! ستصغر عمتك يوما ويعتريها الوهن ، وستكبر أنت وتبلغ أشدك ، وستفعل كل ما يحلو لك ، صبرا قليلا يا نول !

لكن ، واحسرتا ! تعقبت العمة هل  نول ذات عشية حتى النتء الصخري ، ولما رأت العينين الذهبيتين تأتلقان في نور البدر ، صممت في الحال على أخذهما إلى الملك ، وعادت في هدوء إلى الكوخ ، فاستحمت ، وسرحت شعرها ، ولبست وشاحها ، وهرولت إلى قصر الملك ، وقالت له : تجعل ابن أخي في قصرك إن أحضرت إليك عيني الحوت الذهبيتين ؟!

فأجابها : نعم ، وسأعينه رئيسا لوزرائي ، وسأمنحك ما شئت من المال .

فقالت : إذن أرسل معي في الغد خير جندك إلى النتء الصخري !

وحين صحا نول في الغد أحضرت إليه سلطانية شيكولاتة ، وقالت مبتسمة : إذا أردت يا نول يمكن أن يكون هذا اليوم آخر عهدنا بالجوع والبرد والنوم فوق أعواد السرخس الخشنة ، وفي استطاعتك أن تكون في الغد رئيس وزراء ، ووافر الغنى . ما عليك سوى أن تنادي الحوت ، وسأنتزع أنا عينيه !

فصرخ نول : لا ! عيناه تخصانه وحده ، ولا موجب لأن يأخذهما الملك . أفضل الفقر على انتزاع عينيه !

فهزت كتفيها وصاحت : تلفق قصصا حول عينين يستحيل أن تكونا حقيقيتين ، وليستا إلا كرتين ذهبيتين لا يستعملهما الحوت أبدا .

فأعاد نول نفيه : لا ! لا !

فأخذت تبكي قائلة : حين أفكر في ما فعلت لك من خير ، وفيما كلفتني من أعباء ، وفي ضروب الرعاية التي محضتك صفوها ، وفي أطباق الطعام التي أطهوها لك ، بينما لا تحب أنت أن أحظى بفراش وثير أنام عليه ...

عندئذ قال : طيب ، قبلت !

فذهبا إلى الصخرة ، ونادى : حوت ! يا حوت !

وسمعا مثل هزيم الرعد ، وانفلق الموج وظهر الحوت ، وفي اللحظة رماه الجنود المختبئون وراء شجر الصنوبر بحرابينهم ، وحطوا عينيه في صندوق صغير دون أن يطلق أي صرخة ، وكل ما فعله أنه أخذ ينتفض ليسقط الحرابين من جسده ، ثم أطبق جفنيه الرماديين ومضى ، أما نول فلبث  ساكنا في مكانه دون حراك للنظر إلى الماء البارد حتى شدته جدته من كمه قائلة : هيا ! بنا إلى قصر الملك ! ها قد صرنا من الأثرياء !

وجن الملك فرحا بعيني الحوت الذهبيتين ، وخاطهما في قبعته الفرائية ، وفي الحال رأى كل البحار الزرق والخضر والدهم ، ورأى في نظرة واحدة كل السفن التي تمخر عبابها ، وكل الأسماك السابحة فيها ، وكل الكنوز الجارية في أعماقها ، ورأى ما أسفل جبال الجليد ، والدوامات ، والمواضع التي تندفع منها الزوابع ، فصاح : قضي الأمر ! ملك البحر أنا !

وتخلص من كل المقصات الموجودة في البلاد حتى لا يستطيع أحد حل عيني الذهب بعد خياطتهما في قبعته . ومن ذلك اليوم ما فاه نول بكلمة ، ولا أكل شيئا ، وما عاد ينام ، وصار حين ينظر إلى قبعة الملك يتخيل عيني الذهب تبكيان . وفي عشية تالية اعتلى الصخرة ، وتمتم : حوت ! يا حوت !

وفي اللحظة انفلق الموج المظلم نصفين ، وظهر الحوت ، وتوجع قائلا : أعد لي عيني يا نول لو تكرمت ! إنهما الحاستان التي أبصر بهما حين تلطمني الأمواج . أعدهما ، أرجوك !

فأجابه نول : سأعيدهما لك غدا صباحا ولو كان في هذا موتي .

وعندما عاد إلى القصر شعر بتحسن في خفقات قلبه ، وبأن تنفسه زاد سرعة ، إنه سعيد ! لقد نوى أمرا . وبلغ القصر عند حلول الليل ، ودخل حجرة الملك دون جلبة ، ونزع قبعته متلطفا ، واقترب من النافذة المنارة بالبدر ، وقضى الليل في حل الغرز بيديه . وبعد حلها فائض السعادة أسرع إلى الصخرة . جرى منقطع النفس ، لكنه سمع في اللحظة صوت اندفاع فرسان الملك وراءه ، سمع صيحاتهم ، وصهيل خيلهم . والتفت ليرى إن كانوا لا يزالون بعيدين عنه ، ثم هوى من فوق الصخرة مستغيثا : حوت !

فجذب الفرسان أعنة خيلهم لإيقافها ، ثم ولجوا البحر ، ولما لم يروا سوى الأمواج الهائجة عادوا إلى القصر . ولم يعد الناس يسمعون شيئا عن نول الصغير ، ومع ذلك يقول البحارة إنهم رأوه ، وحين يدخلون خاناتهم يثرثرون حوله في أصوات منخفضة حتى لا يسمعهم الملك ؛ قائلين : رأيناه ! رأينا نول الصغير ! كان معطفه مغطى بالملح ، وتبدو عليه سيما السعادة . كان يضحك ويلهو في الموج فوق ظهر الحوت الذهبي العينين .

*موقع ل. جي . سي الفرنسي .

وسوم: العدد 684