حكاية الطفل

ارتحل رجل منذ زمن سحيق رحلة سحرية عجيبة ، بدت له في مفتتحها مسرفة الطول ، وبدت في منتصفها مسرفة القصر . وسار وقتا وجيزا في سبيل شبه مظلم دون أن يلتقي أي شيء ، ثم التقى طفلا بهيا ، فسأله : ماذا تفعل هنا ؟!

فأجابه : دائما ألهو ، تعال لتلهو معي !

فلها معه كل النهار ، وتمتع الاثنان بلهوهما ومرحا . وكانت السماء رائعة الزرقة ، والشمس رائعة السطوع ، والماء رائع الصفاء واللمعان ، وأوراق الشجر مبهرة الخضرة ، والزهور فائقة الحسن والنضرة . وأصاخ الاثنان إلى تغاريد الطير ، وشاهدا كثيرا من الفراش ، وكان كل شيء فتانا بهيا في الجو الصحو . وحين نزل المطر أحب الاثنان مشاهدة تهامي قطراته ، واستياف أرج الأشياء جديدا غضيضا ، وتمتعا بالإصغاء إلى زفيف الريح في الجو الشاتي المطير ، وتخيلِ ما تقوله إذ تنبعث من مهبها _الذي ليس لهما به علم_ صافرة مولولة ، تسوق السحب أمامها ، وتُميل الشجر ، وتدمدم في المداخن ، وتهز المنازل ، وتجعل البحر يهدر غضبا وثورة . وحين يهطل الثلج ، فما أحلى هطوله ! إنه أحسن الأشياء في نظريهما ، ولم يحبا شيئا مثلما أحبا ندفه حين ينهمر سريعا كثيفا مشبها الزغب في صدور ملايين الطيور البيض . وما أحبا شيئا مثلما أحبا تكوماته  العميقة الناعمة ، والإصغاء بعد ذلك إلى السكون في المسارب والدروب . وكان في حيازتهما الوفير من أحسن اللعب ، وأدعى الكتب المصورة إثارة للدهشة والعجب ، وكلها عن حُدْب السيوف ، والأخفاف ، والعمائم ، والأقزام والعمالقة ، والجن والجنيات ، وأصحاب اللحى الزرقاء ، وسيقان الفول ، والكهوف والغاب ، وأعياد الحب ، وكلها جديدة وحقيقية . وفجأة ، في يوم ، فقد الرحالة الطفل ، وناداه مرات دون أن يسمع جوابا ، فمضى في سبيله ، وسار مسافة قصيرة دون أن يلتقي أحدا ، ثم التقى صبيا وسيما ، فسأله : ماذا تفعل هنا ؟!

فأجابه : دائما أتعلم ، تعال للتعلم معي !

وبدأ يتعلم معه أمورا عن جوبيتر وجونو والإغريق والرومان ، وما لا أدريه من الأمور ، وتعلم ما لا أستطيع له ذكرا ،  وحتى هو لا يستطيع له ذكرا ؛ ذلك أنه ما لبث أن نسي وفيرا مما تعلمه . والاثنان على كل حال لم ينفقا كل وقتهما في التعلم ؛ فقد لعبا أكثر الألعاب المعروفة مثارا  للإمراح والإطراب : فركبا الزورق في النهر مصيفا ، وتزحلقا على الجليد مشتاة ، ونشطا مشيا وعدوا ، واعتليا صهوات الجياد ، ولعبا الكريكيت ، وكل صنوف اللعب في حفلات الرقص ، وصادا الأرانب البرية بالكلاب السلوقية ، ولعبا لعبة " أتبعُ مرشدي " ، وخلاف ذلك من ألعاب ورياضات تتجاوز ما يمكن التفكير فيه ، وما استطاع أحد لهما هزما في تلك الألعاب والرياضات . وتمتعا كذلك  بإجازات  ،وب " الاثنتي عشرة كعكة " ، وبحفلات رقص أثناء تلك الإجازات حتى منتصف الليل . ودخلا مسارح حقيقية شاهدا فيها صروحا من خالص الذهب والفضة تنبثق من قلب الأرض ، وشاهدا كل عجائب الدنيا في وقت واحد . وكان لهما الكثير من الأصدقاء الأَوِداء الذين أحتاج إلى زمن لأحصيهم عدا ، وكانوا كلهم في ميعة الصبا مثل هذا الفتى الوسيم ، ولم يبدُ أي منهم غريبا للآخر ما عاشوا معا . ومع ما سبق ، في يوم ، وفي حميا كل تلك المباهج والملاذ ، فقد الرحالة الفتى مثلما فقد الطفل قبله ، وبعد أن ناداه دون جواب ، واصل رحلته ، وقطع مسافة قصيرة دون أن يرى شيئا إلى أن لقي شابا ، فسأله : ماذا تفعل هنا ؟!

فأجابه : دائما أحب ، تعال لتحب معي !

فذهب معه ، وصادفا في الحال غادة من أحلى ما وقعت عليه عين ، تشبه فَني الحاضرة هنا في زاوية حجرتي ؛ إذ لها عيناها وشعرها ونونتاها ( غمازتاها ) ، وتضحك ويحمر وجهها مثلما يحدث للفني وأنا أتحدث عنها ، فوقع الشاب في حبها من فوره مثلما أحب أحدهم _ الذي لن أذكره _ فني حين جاء هنا أول مرة . حسنا ، وضايقت فني الجديدة أحيانا الشاب صريع هواها مثلما ألفت فني الحاضرة أن تضايق الشخص الذي أحبها ، وتشاجر الاثنان مثلما ألف الشخص وفني الحاضرة أن يتشاجرا ، وسويا شجارهما ، وجلسا في العتمة ، وكتبا رسائل الحب يوميا ، واتصلت سعادتهما ، وداوما البحث عن بعضهما ، والتظاهر بعدمه ، وتمت خطبتهما في عيد الميلاد ، وجلسا متقاربين عند النار ، وأزف موعد زفافهما ، وكل ذلك في تشابه خالص مع ذلك الشخص الذي لن اذكره وفني الحاضرة الماثلة عندي في زاوية حجرتي . وما لبث الرحالة أن فقد الشاب والغادة مثلما فقد قبلهما الطفل والفتى ، وبعد أن ناداهما دون جواب واصل ترحاله ، وسار مسافة قصيرة دون أن يرى شيئا حتى التقى  رجلا في منتصف العمر ، فسأله : ماذا تفعل أيها السيد ؟!

فأجابه : دائما مشغول ، تعال انشغل معي !

فبدأ ينشغل معه ، ودخلا الغابة معا ، ومضت رحلتهما كلها داخلها ، ولم تكن مكشوفة خضراء إلا في بداية الرحلة شان أي غابة زمن الربيع ، ثم أخذت تكثف وتعتم شأن أي غابة في الصيف ، بل إن بعض الأشجار الصغيرة التي ظهرت أبكر من سواها بدأت الآن تتهاوى . ولم يكن الرجل وحيدا ، كانت معه امرأة تماثله سنا هي زوجته ، وللاثنين أبناء كانوا معهما . وسار الجميع في الغابة يطيحون بالأشجار ، ويشقون سبيلهم بين أغصانها وأوراقها حاملين أثقالهم ، مجهدين في عملهم . وكانوا أحيانا يصلون إلى طريق أخضر طويل يفضي إلى غابات أعمق ، ثم يسمعون صوتا بعيدا صغيرا جدا يهيب : أبي ! أبي ! انا ابن آخر ، قف لي !

وفي اللحظة يلمحون كيانا صغيرا يزداد كبرا كلما اقترب جريا نحوهم حتى إذا بلغهم أحاطوا به وقبلوه مرحبين ، ثم يتابعون الرحلة . وكانوا أحيانا يصلون فجأة إلى طرق كثيرة رحيبة ، ثم يتوقفون فجأة عندما يواجهون انغلاقا للطريق في مسيرهم . ومرة قال أحد الأبناء : " أنا ذاهب إلى البحر يا أبي ! " ، وقال ثانٍ : " أنا ذاهب إلى الهند يا أبي ! " ، وقال ثالث : " أنا ذاهب للبحث عن حظي حيثما أستطيع " ، وقال رابع : " أنا ذاهب إلى السماء يا أبي ! " .

وسار كل واحد منهم في تلك الطرق وحيدا بعد أن سفحوا دموعا وفيرة لحظة فراق والديهم ، والذي أراد الذهاب إلى السماء ارتفع في الجو الذهبي  الصافي واختفى . وعند الفراق ، نظر الرحالة إلى الرجل فرآه يتأمل السماء فوق الأشجار حيث علائم أفول النهار ودنو الغروب ، ولاحظ أيضا أن الشيب أخذ يغزو شعره إلا أنهم جميعا لم يستطيعوا إطالة استراحتهم ، فلابد من الرحيل ، ولابد من أن يكونوا دائمي الانشغال . لقد تعرض موكبهم لفراقات كثيرة حتى لم يعد معهم أبناء ، ولم يبق سوى الرحالة والرجل وزوجته الذين واصلوا سبيلهم معا . وبدت لهم الغابة في هذا الوقت من رحلتهم حينا صفراء الورق وحينا آخر بنيته ، وأخذت بعض أوراقها تتساقط . وبلغوا في مسيرهم طريقا أكثر عتمة من سائر الطرق ، وفجأة توقفت الزوجة وقالت : سمعت من يناديني يا زوجي !

فأحدوا السمع ، وتناهى إليهم صوت من مكان بعيد في الطريق يقول : " أماه ! أماه ! " ، كان صوت الابن الذي قال إنه ذاهب إلى السماء ، فقال الأب : أتمنى ألا يكون الآن ، الغروب يقترب ، أتمنى ألا يكون الآن ، لكن الصوت نادى ثانية : " أماه ! أماه ! " دون أن يأبه بكون شعر والده شاب تماما وكون الدموع تغمر وجهه ، ثم إن الأم التي كانت عندئذ قد مضت مبتعدة في الطريق المعتم وذراعاها حول عنق  زوجها ؛ قبلته ، وقالت : دعيت يا أحب الناس ، وهأنذا ألبي .

وذهبت وبقي الرحالة وزوجها ، فتابعا سيرهما حتى اقتربا من نهاية الغابة إلى حد أنهما شاهدا حمرة الغروب أمامهما خلال الأشجار ، بيد أن الرحالة فقد من جديد صديقه وهو يشق سبيله بين الأغصان ، وناداه مرات  دون سماع جواب ، وحين اجتاز الغابة ورأى الشمس الهادئة تغرب فوق مشهد أرجواني مترامٍ ؛ وصل إلى عجوز جالس فوق شجرة هاوية ، فسأله : ماذا تفعل هنا ؟!

فأجابه بابتسامة هادئة : أتذكر ما سلف ، تعال للتذكر معي !

فجلس قربه في مواجهة الغروب الصافي ، فعاد كل أصدقائه في هدوء وأحاطوا به . عاد الطفل الجميل ، والفتى الوسيم ، والشاب العاشق ، والأب والأم وأبناؤهما ، كلهم صاروا حوله ، فصار لا يفقد أحدا ، فأحبهم كلهم ، وعاملهم بطيبة ولين ، وسره دائما أن يراهم ، ووقروه  هم من جانبهم وأحبوه . وأحسبك أنت الرحالة يا جدي العزيز ؛ فهذا ما تفعله معنا ، وما نفعله معك .

*للكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز ( 1812 _ 1870 ) .

وسوم: العدد 699