رسل الشتاء

حدث هذا صباح يوم من أيام نوفمبر حين ذهبت جانيت ذلك الصباح ، مثلما تذهب كل صباح ، إلى الحديقة التي تجاور منزلها ؛ حاملة قطع خبز إلى عصافيرها . وحين وصلتها وجدتها ساكنة هادئة . لم تجد عصافير فوق أغصان الشجرة المعراة . لم تجد إلا بعض الأوراق البنية التي كانت تتقصف تحت قدميها . رحلت العصافير . رحل أكثرها إلى بلاد الشمس في الجنوب ، أما العصافير التي لبثت فلاذت بمآوٍ تتقي فيها زمهرير البرد . وجانيت الآن وحيدة . وفجأة لمحت عصفورا بديعا يظهر فوق شجرة دردار عتيقة ، له جناحان أبيضان يحفهما لون أحمر ، وجسمه أزرق ، ومنقاره موشى زينةً ، لم يسبق أن رأت عصفورا في جماله الأخاذ . وهو الآن مستقر في رشاقة فوق غصن ، ويشبه إلى حد ما ريشة طائر على الأرض . وكادت المفاجأة تحبس نفس جانيت ؛ فقد خلب منظره الرائع لبها .

وسمعت فجأة صوتا يحييها : صباح الخير !

فتساءلت : من أين يأتي هذا الصوت ؟!

والتفتت . لم ترَ أحدا في المكان . وبسط العصفور جناحيه ، فتناثر ندف الثلج على الأرض ، وقال لجانيت : أنا رسول الثلج . اسمي نيكسيا . أنا الذي أوقعت ندف الثلج .

وبسط جناحيه ثانية ، وأوقع ثلجا حقيقيا حول الشجرة التي كان يجثم فوقها .

فقالت جانيت : إذن أنت الذي تأتي بالشتاء .

فقال : نعم ولا . الحقيقة أنني لست وحيدا و إن أحببت قصصت عليك كيف يأتي الشتاء : في بلاد الشمال يعيش السيد الشتاء ، ويرسلنا كل سنة في نفس التوقيت إلى كل البلدان لإبلاغها رسالته ، ونحن ثلاثة رسل : أنا نيكسيا ، وصديقي بر رسول البرد ، وبليز رسول ريح الشمال ، وثلاثتنا نأتي  بالشتاء . وأنا دائما أول من يأتي ، وتعلمين جيد العلم أن البرد والرياح محزنان بلا ثلج ، ولهذا يفرح الناس حين آتي ؛ لأن الثلج ناعم رقيق يبهج منهم القلوب حيث ينطلق الصغار إلى الشوارع ، ويبدون كأنهم في عيد .

فقالت جانيت : شيء فائق . كم أحب الثلج ! ما تخيلت هذا يوما . من حسن حظك .

_ صحيح . دوري رائع ، وبر يبغضه كل الناس .

وفي اللحظة ارتعشت جانيت لهبة ريح باردة ، وقدم عصفور أخضر ، وحط قرب نيكسيا ما جعل الجليد يصدر صوتا جافا عند تكسره .

وقالت جانيت له : أراهن على أنك بر .

فقال : أصبت . أنا رسول البرد . سعيد لرؤيتك .

_ إذن أنت الذي تأتي بالجليد ؟! أحب أن أرى كتلة جليد كبيرة فوق حافة نافذتي .

_ ليس في طلبك مشكلة ، سآتيك بكتلة ، إنما لابد أن أجمد في  الأول مسايل الماء والمزالق ، ولابد أن أشكل ألواحا من الصقيع . تعلمين أن هذه بمثابة نجوم تمنعك من رؤية الخارج ، وتجبرك على النفخ على زجاج النافذة لمشاهدة جانب السماء . هيا ! أقول إليك : حان وقت عملي . انتبهي ! سأعرضك للبرد والتجمد .

فسلكت جانيت يديها في جيبيها دون أن يمنع ذلك أصابعها من التخدر وأنفها من التحمر . وحانت عودتها إلى البيت ، فستقلق عيها أمها إذا تأخرت ، فبارحت صديقيها  محزونة القلب إلا أنها كانت مع هذا سعيدة بلقائهما الفريد . وحدثت نفسها في طريقها بأنها ربما ترى في الغداة رسول الشتاء الثالث ليكون الشتاء أتى حقيقة . إذن حان الوقت لتهيئة قفازيها ، ومنديلها الملون ، وسترة تزلجها ذات القلنسوة الفرائية . ولما صحت في الغداة ، علمت في الحال أن رسول ريح الشمال وصل بدوره ، وهي تنتظر الآن زفيفه خلال شقوق السقوف والمداخن . ولبست ملابسها من فورها ، ويممت ناحية الحديقة ، فلم ترَ في شجرة الدردار إلا عصفورا واحدا ، كبيرا للغاية ، أكمد اللون بالكامل ، مشعث الريش ، وحالما رآها استفسرها : تريدين عاصفة ؟! زوبعة ؟! إعصارا ؟! زعزعانا ؟! ألا تدرين أين صديقاي ؟!

وما انتهى من استفساره حتى قدم بر واستقر فوق الغصن الذي استقر عليه أمس . كان بادي القلق ، وكان جليا أنه ينقب عن شيء ، عن شخص ، وأخذ يعصف ، وسأل جانيت : رأيت نيكسيا ؟! أين مضى في ترجيحك ؟!

وأحست جانيت في صوته كل محازن الدنيا ، وبدورها تحزنت وانتابها القلق . سيكون محزنا ألا يؤوب الثلج ، وهي الآن تسمع صخبا يأتي من جهة بيتها . واخترق زجاج نافذة مخزن المؤن سنا برق ازرق ، وأدركت مارتين والدة جانيت في اللحظة حقيقة ما حدث ، فهبطت تثب درجات السلم أربعا أربعا حتى بلغت المخزن ، ولم تدهش حين فتحت بابه من وجود نيكسيا في داخله ، ففتحت له النافذة ، فقال : أشكرك لإنقاذي . كانت النافذة مفتوحة مساء البارحة حين دخلت المخزن للاستراحة ، وأعادت الريح إغلاقها ، فتعذر علي الخروج .

وطار صوب شجرة الدردار الكبيرة . وحين ذهبت جانيت إلى الحديقة وجدت أن شمل العصافير الثلاثة قد التأم فيها ، وأنها تتهيأ للرحيل .

قال أحدها : ارى إثارة عاصفة عاتية .

فقالت جانيت : لي مطلوب منكم جميعا : احب الثلج مثل سائر الأطفال إلا أن البرد القارس والرياح العاصفة يمنعاننا من اللعب ، وكذا الثلج الكثير يسد الطرقات ، ويعكر مزاج آبائنا . قليل من هذه الثلاثة سيكون شيئا رائعا نافعا . ألا يمكنكم الاتفاق في هذا الشتاء على شيء موحد ؟!

فتبادل الثلاثة النظر ، وقالوا : نعم . سنصنع لك أبهى شتاء . شتاء دون برد قارس ودون ريح عاصفة ، وبقدر كافٍ من الثلج .

ولم يعرف أي إنسان علة اعتدال  شتاء ذلك العام وطيبه ؛ فلم يكن هناك سوى جانيت وسواك أيها القارىء .

*عن موقع " قصص للقراءة " الفرنسي .

وسوم: العدد 703