التوبة الخالدة

- 1 -

يفتح الستار عن كعب بن مالك

يفكر في أمر أهمه، وعلامات الحزن ظاهرة على محياه.

يمشي بذهول ويتساءل:

-         هل سينزل قرآن؟

-         كيف يكون قضاء الله في أمري؟

ولكن يخرجه من ذهوله غلامه يقول:

ابنه عبد الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كعب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

ابنه: أما زلت تجلس هنا؟ ألم تذهب إلى النبي بعد؟ هل أعجبك التخلف عن رسول الله.

ينظر كعب إلى ولده مفكراً حزيناً:

كعب: إنني يا بني....

ابنه: ماذا.. تتخلف عن رسول الله، وأنت وافر الصحة، وافر المال، وأقرانك الفقراء ذهبوا بأموالهم وأنفسهم في غزوة تبوك!

صمت...

ابنه كعب: هلا أرسلتني وقعدت وحدك؟

لمَ أبقيت نفسك وأبقيتني؟ هل لأنني صغير، وأنت الكبير لم تذهب؟

تدخل امرأة كعب.

امرأة كعب: كفّ يا عبد الله، ماذا تقول لأبيك؟

عبد الله حانقاً:

- ماذا أقول لأبي؟ قولي: ماذا يقول هو لرسول الله.

- قولي: ماذا يقول أبي لرسول الله؟

- قولي: هل بقي في المدينة إلا المنافقين والعجزة، وأبي أعرفه تماماً، ليس من هؤلاء، ولا من هؤلاء، فلماذا تخلف؟ لماذا لم يجاهد مع رسول الله؟!

امرأة كعب: كفى يا عبد الله، دع أباك في همّه، انطلق إلى عملك، اخرج قليلاً يا بني، دعنا وحيدين؟

يخرج عبد الله.

امرأة كعب تبدأ بالكلام:

- ماذا يا كعب، هل ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟

يرد كعب بصوت هادئ حزين:

- نعم، ذهبت.

امرأته: وماذا قال لك؟

كعب: ماذا تتوقعين أن يقول؟

امرأته: أنا أعلم أن رسول الله يحبك، ولا بد أنك تعلم بهذا الحب، فأنت شاعره، والمنافح عنه، ولست من المنافقين.

كعب: ولكنني تركته هذه المرة يخرج إلى القتال، ولم أخرج معه!.

امرأته: إنّ زلة واحدة يا كعب يسعها قلب النبي الكبير.

كعب: ولكنها ليست زلة يا أم عبد الله.

امرأته: ماذا تقصد؟

كعب: الزلة شيء، والتخلف عن الجهاد شيء آخر يا أم عبد الله.

امرأته: يعني.

كعب: يعني أن المتخلفين عن الجهاد إما أن يكونوا عاجزين عن القتال...

امرأته: وأنت لست عاجزاً عن القتال يا كعب!

كعب: وإما أن يكونوا منافقين.

امرأته: ماذا.. هل أنت منهم يا كعب؟!

كعب: أخشى أن أُعدّ منهم لتخلفي.

امرأته: ماذا؟ هل قال لك رسول الله شيئاً؟

كعب: ولكنه..

يطرق الباب... تخرج امرأة كعب، فيأذن كعب بالدخول.

يدخل رجل من بني سلمة فيقول:

- السلام عليك يا كعب.

كعب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

الرجل السلمي: غفر الله لك يا كعب، لمَ تخلفت عن الغزو؟

كعب: دعني في همي يا أخي، يكفيني ما في نفسي من ألم.

الرجل: أرجو أن يسامحك رسول الله، فهو يحبك.

كعب: وكيف عرفت هذا، ألأني شاعر؟

الرجل: ليس هذا فقط، بل إن رسول الله تذكرك حتى في غزوته هذه.

كعب: ويْلي، رسول الله في غزاته لا ينساني، وأنا هنا في بيتي وبين أهلي أتقاعس عن الغزو معه... ما أشقاني... ولكن كيف ذكرني، ومن أنبأك هذا؟

الرجل: عندما وصلنا تبوك، وجلس القوم، تصفح رسول الله الوجوه، ولم نكن نعلم عمن يبحث... ومُدت رقابُنا تريد أن تعلم عمن تُفتش عينا رسول الله، وإذا به بعد أن تصفح الوجوه يردّ طرفه قائلاً حزيناً:

ما فعل كعب بن مالك؟

فقام رجل من قومي، وقال:

يا رسول الله، حبسه بُرداه، والنظر في عِطفيه.

فقال له النبي e : أهكذا قال صاحبكم؟

وبماذا أجابه رسول الله؟

- رسول الله!... سكت عندها، ولم يجب شيئاً، كأنه يريد أن يقول شيئاً، لولا أن غباراً ظهر من بعيد يزول به السراب... فظننا أنك أنت القادم، واستبشرت نفوسنا، وبدأ الهمس في الصفوف، فإذا برسول الله يقول:

- كن أبا خيثمة.

ولما أن دنا تبين أنه أبو خيثمة.

فقلنا: نجا والله أبو خيثمة.

- ولكن كعب بن مالك وقع في الشَّرَك.

يسرع كعب قائلاً:

- ماذا تقصد يا أخي؟

ثم يقول ساهماً:

- وقع كعب بن مالك ونجا أبو خيثمة.

الرجل: ولماذا وقعت يا كعب، هلا ذهبت إلى النبي واعتذرت؟

كعب: بل ذهبت، وها هي عودتي من عنده.

الرجل: إذن، عفا عنك، الحمد لله، اروِ لي كل ما حدث.

كعب: اعتذر إليه المخَلَّفون، فقبل منهم اعتذاراتهم، ووكل سرائرهم إلى الله، ولما وصلت إليه سلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب...

الرجل: وقبل اعتذارك؟

كعب: رويدك يا هذا – وكأنه في حلم -:

ثم قال النبي e: تعالَ...

فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي:

ما خلَّفَك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟

قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أُعطيتُ جدلاً، ولكنني والله لقد علمتُ لئن حدثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عني ليوشكن الله يسخطك عليّ، وإن حدثتك حديث صدق تجدُ عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله U.

الرجل: ثم ماذا... ماذا بعد ذلك؟

بعد صمت قليل:

كعب: ما كان لي من عذر والله... ما كنت قط أقوى، ولا أيسر مني حين تخلَّفتُ عنك.

الرجل: ما أشقاك يا كعب، وبماذا أجابك رسول الله.

قال رسول الله لأصحابه:

أما هذا فقد صدق...

ثم توجه نحوي قائلاً:

قم حتى يقضي الله فيك.

الرجل: إذن أنت تنتظر قضاء الله فيك!

كعب: نعم.

الرجل: إنك لشقي يا كعب... هلا اعتذرت له بأي عذر.

كعب: هل تراه يقبل؟

الرجل: ألم يقبل أعذار المنافقين؟

كعب: ولكنني لست منافقاً!

الرجل: أعلم، أقصد أن الذي قبل اعتذار المنافقين، ألا يقبل اعتذار المؤمنين.

كعب: ولكنني ليس لي عذر عن التخلف.

الرجل: أكان يعيبك الاعتذار يا كعب؟

كعب: لا، ولكنني كرهت الكذب.

الرجل: ولكن كثيراً من الاعتذارات لا تحتاج إلى كذب.

كعب: وأنا في حقيقة أمري لم يكن لديّ عذر.

الرجل: هذا صحيح، ولكن أترى هيّناً غضب اللَّه، وقضاءه فيك؟

كعب: لا يا أخي، ولكن غضب اللَّه يأتي أيضاً من التخلف عن رسول اللَّه، ومن التحايل عليه.

الرجل: اسمع يا كعب، ألم يقبل رسول اللَّه عذر المعتذرين؟

كعب: بلى.

الرجل: وبعد قبول أعذارهم، ألم يستغفر لهم؟

كعب: بلى.

الرجل: أما يذهب غضبَ اللَّه استغفارُ رسول اللَّه؟

كعب: ماذا تريد من هذا كله؟

الرجل: أي أنك لو اعتذرت لرسول اللَّه، فقبل منك اعتذارك، ثم استعفر لك، فكان يكفيك استغفار رسول اللَّه، وذهاب الوزر عنك.

كعب: أي...

الرجل: هل تُقلِّل من استغفار رسول اللَّه لك، أليس كريماً على اللَّه، ألم يقل له ربه: ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾.

كعب: أ ترى أن هذا يكفي؟

الرجل: نعم، يكفي.

كعب: ولكنني في الحقيقة لم أتخلف عن عذر.

الرجل: دعك من هذا، واذهب واعتذر.

كعب: أيمكن هذا؟

الرجل: كيف لا،  هيا، قم... قم واعتذر.

كعب: ولكن...

الرجل: دع عنك التردد يا أخي... هيا.. قم.

يحاول القيام، ويقول:

- أرى...

الرجل: إنك لا ترى شيئاً.. هيا قم.. وسأذهب معك.

ينهض متثاقلاً مفكراً.

الرجل: ماذا... ماذا بك؟

كعب: هل تريدني أن أكذب نفسي أمام رسول الله.

الرجل: ما معنى هذا الكلام.

كعب: ألم أقل لرسول اللَّه: إنني لا عذر لي في تخلفي عنه.

الرجل: بلى.

كعب: كيف أذهب الآن وأكذب نفسي، وآتي له بعذر؟

الرجل: كفاك هذا يا كعب... لا تعذب نفسك، قلت لك: إن استغفار رسول اللَّه لك يمحو كل شيء، هيا تقدم، ولتخرج معاً إليه.

كعب: اصبر، أريد أن أسألك سؤالاً.

الرجل: هاته.

كعب: هل لقي هذا معي أحد؟

الرجل: نعم.

كعب: ومن هم، وكم عددهم؟

الرجل: اثنان غيرك: مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي، أنتم الأشقياء الثلاثة.

كعب: أتقول: مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية؟

الرجل: نعم مرارة وهلال.

يخاطب كعب نفسه ويتفكر:

-         مرارة وهلال.. مرارة وهلال.. أليس هذان الرجلان من أهل بدر..

الرجل: ماذا تقصد يا كعب؟

كعب: أليسا بدريين؟

الرجل: بلى.

كعب: إنهما رجلان صالحان، نعم، مشهوران بالصلاح.

الرجل: نعم مشهوران بالصلاح.

كعب: وهلال هذا الرجل المسن، الذي يكفيه اعتذاره بسنه وشيخوخته، ثم لم يعتذر؟

كعب: ...

- لا لن أذهب إلى رسول اللَّه.. لن أكذب نفسي، سأنتظر قضاء اللَّه صابراً محتسباً.

الرجل: ويل لك يا كعب، إنك لشقي... قلت لك تعالَ اعتذر لرسول اللَّه، فيستغفر لك.

كعب: لا... لا... لن أخرج.. لن أخرج.

الرجل: حسن، سأذهب... افتح لي الطريق لأخرج...

تدخل زوجة كعب قائلة:

- أصحيح كل ما ذكرته لصاحبك يا كعب؟

كعب: أسمعتيه؟

زوجه: نعم يا كعب.

كعب: إنه للمما يحزن، إنه صحيح.

زوجه: إذن أنت تنتظر قضاء اللَّه فيك؟

كعب: نعم.

يدخل ابنهما عبد اللَّه:

عبد الله مخاطباً أباه:

أبتاه، ماذا فعلت بنفسك!

يندفع عبد اللَّه نحو أبيه، ويضمه أبوه إليه ويقول:

كعب: أبوك يا عبد اللَّه ينتظر قضاء اللَّه فيه.

ابن كعب: لماذا تخلفت يا أبي؟

كعب: طول الأمل يا بني... واحْذَرْ طول الأمل.

ابن كعب: ماذا تريد بطول الأمل يا أبي؟

كعب: عندما نادى منادي الجهاد في تلك الأيام الحارة القائظة... وبدأ الناس يجهزون رحالهم.

ابن كعب: ألم يكن عندك راحلتان يومها؟

كعب: بلى يا بني، ولأول مرة أملك راحلتين معاً.

ابن كعب: وصحتك يا أبتي؟

كعب: لم أكن في أي يوم وافر الصحة كتلك الأيام.

ابن كعب: إذن فيم التخلف يا أبت؟

تتدخل الأم في الحوار:

- عبد اللَّه... كفى!

كعب: دعيه يا أم عبد اللَّه...

ثم يتجه نحو ابنه:

كعب: ألم أقل لك يا بني: هو طول الأمل... كنت أنظر الناس يتجهزون، ويتهيؤون للغزو، وعندي راحلتان، وأقول في نفسي: أستطيع التجهز بسرعة عندما أريد.

الأم:

- وتجهز الناس، وأنت تمنّي نفسك بالسرعة.

كعب: نعم، تجهز الناس، وأنا أقول غداً... غداً.. بعد ساعات..

وعندما خرج الناس جئت إلى البيت لأسرع باللحاق بهم...

ثم قلت:

ناقتي قوية، وأستطيع أن أسبقهم، وأدركهم... ثم انتهى الوقت، وبقيت هنا في البيت كالنساء...

يصمت قليلاً وهو ساهم شاخص البصر إلى السماء، ويردد بصوت خفيض:

كعب: ليتني لحقت برسول اللَّه... ليتني لحقت برسول اللَّه...

الأم:

- إنك لشقي يا كعب.

عبد اللَّه:

- ألم يقل لك رسول اللّه شيئاً؟

كعب:

- لا... ما زلت أنتظر قضاءه فيَّ.

يُطرق الباب، فيخرج عبد اللَّه وأمه.

كعب:

- ادخل.

يدخل رجل من الأنصار، وهو متجهم الوجه، يتكلم بصوت متهدج يائس:

الأنصاري: السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته

يتمتم كعب برد السلام، وينظر مضطرباً إلى الرجل.

الأنصاري يتابع:

- أنت مُقاطَع من قبل جميع المسلمين، وهذا بأمر من رسول اللَّه e، ومقاطع حتى من الكلام.

يصرخ كعب:

- أنا وحدي!؟

الأنصاري: أنت، وهلال ابن أمية، ومرارة بن الربيع... لكم اللَّه.

 

- 2 –

بعد أيام من بدء المقاطعة:

يرفع الستار عن عبد اللَّه وأمه:

عبد اللَّه:

- إلى متى هذه المقاطعة يا أماه؟

الأم: عِلمُ ذلك عند اللَّه يا بني.

عبد الله: إذن... ما نتيجتها؟

الأم: نتيجتها كما يقدّر اللَّه، وكما يريد اللَّه ورسوله.

ابنه: واللَّه إني لأرثي لأبي يا أماه، كيف يعيش وحده.

الأم: لست وحدك ترثي له يا عبد اللَّه، كل المسلمين يرثون له.

ابنه عبد الله: إن والدي يذهب إلى السوق، ويذهب إلى المسجد، وأما هلال ومرارة فإنهما لزما بيتيهما، وجلسا يبكيان، فليس لهما إلا البكاء.

الأم: كان اللَّه في عونهم جميعاً، ألسنا نبكي نحن لمصاب أبيك يا عبد اللَّه؟

عبد الله: بلى واللَّه، إنها لقاسية هذه الأيام عليه.

الأم: إنها – يا بني – أيام تأديب وتطهير.

عبد الله: كيف؟

الأم: يا بني، إن اللّه ورسوله يريدان بالمؤمنين خيراً، وإن أي ابتلاء للمؤمن حتى الجهاد في سبيل اللَّه، وسبيل رسوله.

عبد الله: اللهم طهر نفوسنا يا رب.

الأم: ألم تكلم أباك يا عبد اللَّه؟

عبد الله: إنني منذ  منع رسول اللَّه كلامه، لم أكلمه يا أماه، فطاعة رسول اللَّه واجبة.

الأم: ولكن ألا يُغضب هذا أباك؟ لأنك تعقّه ولا تكلمه، أو تردّ عليه السلام؟

عبد الله: إن أبي يعاقَب لمخالفته، وهل يرضى أن أُعاقَب أنا أيضاً، هل تريدين مني أن أخالف رسول اللَّه؟...

يتابع عبد الله: ثم إن أبي هو الذي رباني على الإيمان باللَّه، وبرسوله، وهو الذي علمني طاعة اللَّه وطاعة رسوله، إنه يعلم أنني لا أكلمه رضاءً للَّه، ولرسوله، لا عقوقاً وفجوراً.

الأم: إنك ابن أبيك... فالإيمان يتغلغل في أعماق نفسيكما، بارك اللَّه بك يا ولدي.

أصوات من خارج المسرح.

تتابع أمه قائلة:

- لا بد أن أباك قادم.

يدخل كعب منهكاً مكدوداً:

كعب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

صمت قليل، ثم يصرخ كعب:

- أقول: السلام عليكم....

ينظر الولد وأمه بعضهما لبعض نظرات أسى وحزن، دون أي جواب.

كعب يصرخ مرة أخرى:

- قلت، وسأقول دائماً: السلام عليكم... السلام عليكم ...السلام عليكم... ألم تسمعوا؟: السلام عليكم.

ثم بدأ صوته يتدرج نحو الضعف، ويقترب من البكاء:

- السلام عليكم... حتى أنتم.. لا تردون السلام... إني أكاد أُجن...

يتمشى ذهاباً وإياباً ساهماً حزيناً يحدث نفسه:

- أمشي في السوق لا أحد يرد علي... ولا يحدثني... وحتى لا يردوا عليّ سلاماً... أصلي في المسجد المليء بالمسلمين... كأنني أصلي وحدي فيه...

أسلِّم على رسول اللَّه، على رسول اللَّه e... وأحدق فيه النظر... فلا يرد عليّ...

ثم أصرف نظري عنه... وأسارقه النظر...

وأتساءل: هل حرك شفتيه برد السلام؟ أم لا... أريد أن أعرف هل أنا مؤمن... هل أنا مؤمن... أم حُكم عليّ بالنفاق...

فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عني، هل نظر إليَّ لحبه لي، وشهادته بإيماني...

هل أعرض عني لكرهه لي... ولنفاقي... أين أنا... هل أنا مؤمن... هل أنا منافق...

يرتفع صوته قليلاً بحدّة وتحدٍّ:

- بل أنا مؤمن... إنني مؤمن... نعم مؤمن... أنا أحب اللَّه ورسوله... ولكنني ...

ولكنني تخلّفت، تقاعست عن الجهاد مع رسوله... لو قُتِل:

فيصرخ بصوت حادٍّ:

لا... لا أستطيع أن أتخيل... لا أستطيع أن أتحمل...

لو أوذي رسول اللَّه وأنا هنا هانئ مطمئن في بيتي وبين أهلي...

ثم خَفت صوته قليلاً:

ولكنني يجب أن أحاسَب... لماذا جبنت... لماذا تركت رسول اللَّه وحيداً... إذن أكون سبباً للهزيمة... أنا سبب الإيذاء لرسول اللَّه لو فعلت هذا...

رحماك ربي... أنا لست منافقاً... بل أنا مؤمن... أنا مؤمن...

يُطرق الباب، فتقول الأم:

- انظر يا عبد اللَّه من بالباب.

يعود عبد اللَّه قائلاً:

إنه عمي أبو قتادة الأنصاري يا أماه.

الأم:

أدخله يا بني... واقض له حاجته.

تخرج الأم، ويتساءل كعب:

- أبو قتادة... إنه ابن عمي... إنه أحب الناس إليّ... لا بد أن أسأله... لا بد أن أكلمه.

يدخل أبو قتادة، فيقول كعب:

أهلاً ابن عمي... أهلاً بأحب الناس إليَّ.

ينظر أبو قتادة إلى كعب دامع العينين، ولا ينبس ببنت شفة، ولكنه يتجه بالحديث إلى عبد اللَّه بصوت غير مسموع، ثم يتجه نحو الباب، فيمسك به كعب قائلاً:

- إلى أين يا أبا قتادة؟

أبو قتادة يحاول الإفلات، ويمسك به كعب بقوة قائلاً:

ألسنا أخوين، حبيبين؟

يصمت أبو قتادة ....

يتابع كعب:

هل تنكَّرْت لي يا أبا قتادة... ولكن حسن، إنك مأمور..

يفلت أبو قتادة، ولكن كعباً يسرع بالإمساك به:

- رويدك يا ابن عمي...

يقف أبو قتادة، ويجلس كعب أمامه قائلاً:

- أنشدك اللَّه هل تعلمني أحب اللَّه ورسوله

يصمت أبو قتادة ...

كعب: أنشدك اللَّه هل تعلمني محباً للَّه ورسوله.

يصمت أبو قتادة...

كعب بصوت مرتعش خائف:

أنشدك اللَّه هل تعلمني محباً لله ورسوله؟

يصمت أبو قتادة ....

يقول أبو قتادة بصوت متهدج مقطع:

- ... أ... أ... اللَّه ورسوله أعلم.

ويخرج أبو قتادة مسرعاً.

كعب بصوت متهدج حزين:

... ويلك يا كعب، ماذا فعلت بنفسك... هذا جزاء من يخالف اللَّه ورسوله... لا... بل هذا بداية جزائه... ويل لك يوم القيامة من النار.

يخرج عبد اللَّه بعد أن يبدأ بالنشيج، ويتابع كعب:

- ويلك يا كعب من عذاب اللَّه... ماذا فعلت بنفسك يا كعب.

صوت من الخارج:

- يا كعب بن مالك... يا كعب بن مالك.

كعب:

- الحمد للَّه، جاء الفرج... هذا رجل يكلمني... بل يناديني... الحمد للَّه... جاء الفرج...

يصمت كعب ساهماً، ويتابع بصوت ضعيف:

- ولكن هذا صوت غريب... ليس من أهل المدينة، فابن عمي كان عندي منذ قليل... وهو أولى الناس بالبشرى...لا... هذا ليس من هنا... إنه غريب...

يتابع الرجل نداءه:

- يا كعب بن مالك.. يا كعب بن مالك.

يفتح كعب الباب، ويدخل الرجل، فيقول كعب:

- نعم، ماذا تريد، ومن أنت؟

- ما هذا يا كعب... كيف تعيش في هذه المدينة؟

- لا تكثر من الكلام... قل من أنت، وماذا تريد؟

- أنا من نبط أهل الشام، قدمت بالطعام لأبيعه في المدينة، وكلما سألت عنك يشيرون إلى بيتك... هل هم يقاطعونك، ويقاطعون حتى حجارة بيتك؟

- لا تثرثر كثيراً... قل ماذا تريد.

- خذ يا أخا العرب... هذه رسالة لك من ملك غسان.

يتناولها وهو يتمتم:

- من ملك غسان!

يفتح الرسالة، ويبدأ بالقراءة:

- أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك... ولم يجعلك اللَّه بدار هوان، و لا مضيَعَة.. فالحق بنا نواسك.

يتوقف عن القراءة، وينظر نحو السماء قائلاً:

- رحماك يا رب...

ثم يصرخ بوجه الغساني:

- اخرج... اخرج..

يخرج الغساني، ويضرب كعب بالصحيفة إلى الأرض قائلاً:

- وهذا أيضاً من الفتنة والبلاء...

ثم ينادي بصوت عالٍ:

أم عبد اللَّه... يا أم عبد اللَّه... أين أنت يا أم عبد اللَّه...

تدخل أم عبد اللَّه مهرولة دون أن تتكلم، وتنظر إليه باستغراب، ويرفع الرسالة من الأرض، ويخاطبها:

- خذي هذه، واسجريها في التنور... البلاء يتعاظم ويتفاقم... البلاء يكبر... ما هذا؟

ثم ينظر إلى السماء ويتابع:

- رباه... ارحمني يا رب... ارحم عذابي ... رباه، أربعون يوماً مضت في العذاب...

أربعون يوماً تمضي وأنا معلق بين السماء والأرض... حتى الوحي وقف وأنا في هذا البلاء!

يطرق الباب، فتحمل أم عبد اللّه الرسالة الغسانية وتخرج، ويقول كعب:

- ادخل.

يدخل رجل من المسلمين قائلاً بلا مقدمات:

- إن رسول اللَّه يأمرك أن تعتزل امرأتك.

كعب يصرخ هلعاً:

- أطلقها... أم ماذا أفعل؟

- لا... بل اعتزلها، ولا تقربها.

- يعني تمتنع من خدمتي؟

- نعم.

يخرج الرجل، وصاح كعب:

- أم عبد اللَّه، يا أم عبد اللَّه.

تدخل زوجه صامتة:

- الحقي بأهلك، وكوني عندهم.

زوجه: هل هو طلاق؟

كعب: لا، ولكن حتى يقضي اللَّه في هذا الأمر.

زوجه: هلاّ استأذنت رسول اللّه في إبقائي عندك لأخدمك، كما استأذنت امرأة هلال بن أمية لزوجها؟

يصرخ كعب:

- لا، فهلال رجل مسن شيخ كبير، وأنا شاب قوي... الحقي بأهلك.

تخرج المرأة، ثم يخرج بعدها كعب

 

- 3 –

يرفع الستار عن كعب يتجول على الخشبة ساهماً:

- ها قد مضى خمسون يوماً، ونحن – الثلاثة – على هذه الحال...

يتابع قائلاً بقلق وخوف:

ماذا أفعل يا رب... إني أعلم أن جرمي كبير...  فالتخلف عن رسول اللَّه جرم لا يغتفر...

 معصية الرسول – يا رب – ليست هينة عندك ... إنها أمر جلل...

يحسبونه هيّناً وهو عند اللَّه أمر عظيم... ألست أنا القائل:

وفينا رسول اللَّه نتبع أمره   إذا قال فينا القول لا نتظلع تدلى عليه الروح من عند ربه   ينزّل من جو السماء ويرفع نشاوره فيما نريد وقصرنا   إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع

ثم يخاطب نفسه:

- يا رب... إني تبت إليك... ارحم شبابي... ارحم قلبي ... يا رب... هي توبة نصوح... دائمة...

فلن أُخالف أو أقصر عن رسول اللَّه... يا رب... يا رب...

صوت من بعيد:

- يا كعب بن مالك أبشر... يا كعب بن مالك أبشر.

كعب منتفضاً:

- هه... ما هذا... إني أسمع من يناديني... لماذا يقول: أبشر...

ماذا يريد، فلأستمع وأنصت.

يتابع المنادي من بعيد مع اقتراب الصوت قليلاً قليلاً:

- يا كعب بن مالك أبشر... يا كعب بن مالك أبشر.

كعب مستبشراً فرحاً:

- أبشر؟... جاء الفرج... رباه إنهم ينادونني بالبشرى... هل أنا في حلم أم أنا في حقيقة... لا بد أنها أحلام.

يتجه نحو الجمهور:

- أتسمعون ما أسمع؟... أم أنا غارق في أوهامي وخيالاتي...

إني سمعت... نعم لقد سمعت البشرى...

طرقٌ شديد على الباب... فيفتح كعب الباب

يدخل عدد من الرجال:

- أبشر يا كعب... هذا خير يوم مرّ عليك مذ ولدتك أمك.

رجل آخر:

- أبشر يا ابن مالك.

آخر يقول:

- أبشر يا كعب.

آخر يقول:

- ليهنك توبة اللَّه عليك يا كعب.

رابع يقول:

- إنك لسعيد يا كعب بن مالك.

يدخل رجل ملهوف غارق في التعب والعرق...

- أين كعب بن مالك... أبشر يا كعب.

- من أنت يا أخي.

- أنا الذي ناديتُ من أعلى الجبل لأسمعك البشرى قبل كل الناس.

- فعلاً... سمعتك قبل كل الناس.

جاءتني البشرى الأولى من فمك أنت... فجزاك اللَّه خيراً، ولك ثوباي هذان.

ينزع رداءه ثم يصيح:

- أيها الناس من عنده ثوبان يعيرني إياهما، لأعطي أخي هذا الذي بشرني ثوبيّ هذين.

أحدهم:

- أنا يا كعب.

آخر:

- بل أنا.

- لا، بل أنا.

كعب:

- رويدكم يا إخوة، وجزاكم اللَّه خيراً.

وبشير إلى أحدهم:

- انطلق يا أخي، وأحضر لي ثوبين لأنخلع من ثوبيّ هذين صدقة لأخي هذا الذي بشرني، وسأوفيك دينك هذا.

يخرج الرجل ويبدأ الباقون بتبشيره والمباركة له بالتوبة:

- بشراك يا كعب.

- أبشر يا كعب.

كعب يقول:

- رويدكم أيها الإخوة... أريد أن أفهم شيئاً... اهدؤوا.

أحدهم: نعم، ماذا تريد أن تفهم يا كعب؟

كعب: من أعلمكم بهذه البشرى.

أحدهم يبدأ بالكلام:

- بعد أن أدينا صلاة الصبح، أقبل علينا رسول اللَّه e فرحاً باسماً، وأذن لنا بتوبة اللَّه عليكم أيها المخلفون الثلاثة، فجئنا نتراكض لنبشرك.

كعب: وهل هي توبة من رسول اللَّه، أم هي من الله يا أخي.

الرجل: لا، بل هي توبة من فوق سبع سموات، إنها قرآن من اللَّه يا كعب.

كعب: يعني نزل في توبتي قرآن يتلى.

الرجل: يتلى إلى أبد الدهر يا كعب.

كعب: هل تحفظ منه شيئاً يا أخي؟

الرجل: نعم اسمع:

يبدأ الرجل بالتلاوة.

ويسمع صوت تلاوة شجية تهز أركان المسرح كلها، حيث يوضع تسجيل لقراءة الآيات التالية لأحد القراء المتقنين المجودين:

- ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 117- 119] [التوبة: 117].

كعب مسروراً: أينزل بي –وأنا العبد الضعيف – قرآن يتلى؟!!

الرجل يقول له:

-       بل إن رسول اللَّه لما نزلت هذه الآيات قال ووجهه يبرق بالسرور: أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك مذ ولدتك أمك.

يخرُّ كعبٌ ساجداً للَّه تعالى.

ويسدل الستار على سجدته.

30/4/ 1980م.

وسوم: العدد 824