شهيد المداد

كتبت هذه المسرحية عام 1390 هـ بعنوان: مسرحية للتاريخ – قصة إعدام الشهيد سيد قطب رحمه الله وأرضاه

الفصل الأول

المشهد الأول

يرفع الستار عن زنزانة فارغة وأمامها حارسان من رجال الشرطة، يمسك كل واحد منهما ببندقيته، ويتحدثان جيئة وذهاباً، ويظهر عليهما أنهما ينتظران قادماً:

الأول:

- لقد سمعت أنهم سيسجنونه هذه المرة إلى الأبد.

الثاني:

- نعم . . . إنه لخطير جداً هذا الرجل.

الأول:

- أطال الله عمر سيدنا، فها هو عام 1965، ولمّا يقتل هذا الرجل.

الثاني:

- ولكنه يثير حفيظة العالم إن قتله، لقد استطاع هذا الداهية أن يثير انتباه الناس عليه، حتى أن مسلمي الباكستان قاموا بمظاهرات احتجاج لأجله.

الأول:

- ولكنه يهدد حياة سيدنا.

الثاني:

- على ما أظن أنه سيضعه هنا للأبد هو وأخاه، وسيضع عليه رقابة، وبذلك فلن يخاف منه.

الأول:

- إنه لا يخيف هو بقدر ما يخيف لسانه وقلمه، بمقالة واحدة يستطيع أن يثير شعبنا كله.

الثاني:

المهم أنه سيضع عليه رقابة شديدة، فلا يستطيع أن ينشر شيئاً بعد اليوم.

الأول (يقف ويخاطب صاحبه باستغراب) :

- ولكن أين الرقابة التي تستطيع أن تظل محافظة عليه، لقد أفسد مراقبيه عدة مرات، حتى أن بعضهم قُتل، ولم يتراجع عن الدفاع عنه . . . إن هذا الرجل ذكي جداً –يتابع سيره وكلامه- يستطيع أن يستولي على قلب محدثه.

الثاني:

- أصحيح ما يقال إن رجل الشرطة الذي راقبه أخيراً انضم إلى أتباعه، وعُذب كثيراً، ولم يستطع التعذيب أن يعيده إلى رشده ؟؟.

الأول:

- نعم، ولذلك كان من رأيي أن يقتله سيدنا، وينتهي منه.

الثاني:

- أظن هذه آخر محاولة لسجنه وإلا فسوف . . . (يصمت فجأة وكأنه سمع صوت قادم) هس . . لقد أتوا . . علينا أن نستعد.

(يعود الشرطيان إلى مكانهما الأول، ويقفان باستعداد).

المشهد الثاني

يدخل أربعة من ضباط البوليس المسلحين، شاهرين بنادقهم وراء رجل قصير نوعاً ما، يظهر على الرجل أمارات السذاجة، وطيبة النفس، وعلى شفتيه آثار ابتسامة جميلة توحي بالثقة بالنفس، ولكن يشع من عينيه علائم ذكاء خفي حاد . . .

يقف الشرطيان باستعداد، ويؤديان التحية العسكرية . . . يتقدم الضباط بالسجين نحو الزنزانة:

أحد الضباط:

- أدخل قبرك قبل موتك، فلن تخرج من هنا بعد اليوم إلا محمولاً على النعش.

السجين صامت لا يتكلم، ولا يُرى على وجهه أي أثر للحزن أو الكآبة، بل علائم الارتياح والطمأنينة تظل على وجهه، وتؤكدها الابتسامة المرتسمة على شفتيه.

ضابط ثان، وقد لاحظ أن بعض جيوبه منتفخة، فيتقدم نحوه:

- ما هذا ؟ ماذا في جيوبك؟

السجين (مبتسماً):

- مصحف . . . إنه قرآن . . (يخرجه من جيبه ويقبله):

- وهل هذا ممنوع إدخاله معي أيضاً:

الضابط الأول:

- لا يمنع إدخال المصف، فهو كتابنا، وفيه ديننا، ولكن أنت يا متستراً باسم الدين، يا مخادع الناس، يا عميل الإنكليز والأمريكان، على كل حال أبو خالد لا ينسى أحداً. . وسيكون عذابك كثيراً عنده؛ لأنك تحاول خداع الناس باسم الدين.

يبتسم السجين دون أن يتكلم، ويدخل إلى الزنزانة، فيغلق عليه بابها الذي هو عبارة عن أسلاك متينة متقاطعة، بحيث يرى السجين واضحاً في الداخل.

أحد الضباط مخاطباً الشرطيين:

- من منكما اسمه يوسف . . أجيبا بسرعة؟

الشرطيان ينظر بعضهما إلى بعض ويقول أحدهما:

- ليس منا من اسمه يوسف . . سيدي.

الضابط:

- حسناً، انتظرا هنا ريثما يأتي يوسف هذا، فهو أشرس سجّان عرفناه، وسيكون حارساً لهذا الخائن العميل، وسيذيقه ألوان العذاب التي لم يرها من قبل.

يخرج رجال البوليس، ويؤدي الشرطيان التحية العسكرية، ويبقيان أمام الزنزانة، يخرج السجين مصحفه ويبدأ بالقراءة، بينما يتحدث الشرطيان بعد أن يبدآ بالابتعاد عن الزنزانة، ويقتربا من النظارة:

الثاني:

- لقد كنت أخشى أن أكون حارسه بعد ما أعلمتني من أمره.

الأول:

- لقد كانوا أذكياء عندما وضعوا له الشرطي يوسف حارساً له، إنه كالوحش. .

الثاني ينظر إلى السجين:

- انظر إلى هذه الجلسة، وهو ممسك بالقرآن كتاب اللَّه، حقاً إنها رائعة، فكتاب اللَّه كالنور بين يديه، ويشع على وجهه . . ولكن وا أسفاه . . إنه خائن .

الأول:

- تعال لنسمع ما يقرأ.

يقتربان بشكل هادئ نحو السجين، ويبدأ صوت السجين يسمع قليلاً قليلاً . . وهو يرتل بصوت شجي مؤثر:

﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾([1]).

يكون الشرطيان قد استولى عليها جو التلاوة، فيغرقان في صمت حاد، وعندها يُسمع صوت قادم، فينتفضان كأنما انتبها من غفلة، فيقفان باستعداد.

المشهد الثالث

يدخل رجل ضخم الجثة، ذو وجه كبير أسمر، وشعر أسود غزير، وشاربين مفتولين، سوادهما شديد، وذو عينين عميقتين، ونظرات غضب شديدة يتطاير منهما شرر، فوقهما حاجبان معقوفان عريضان غزيران، وفم كبير يزرع فوقه أنف ضخم:

القادم:

- هل هنا زنزانة السجين الجديدة؟

يقف وينظر نحوهما، فشاهد على وجهيهما علامة استغراب:

- أنا يوسف.

الأول يشعر بالارتياح:

- نعم سيدي.

يوسف:

- اذهبا إلى عملكما، واتركاه لي.

ويشير نحو السجين.

الشرطي:

- حاضر سيدي.

يخرج الشرطيان . . يلتفت يوسف إلى السجين فيراه ممسكاً بالقرآن يرتل. فيتركه ويتمشى في المسرح جيئة وذهاباً، بينما يظهر على السجين أنه ما زال يتلو . . . بعد فترة وجيزة يخيم عليها الصمت، ولا يسمع فيها إلا صوت أقدام السجان . . يتجه السجان نحو السجين وقد علته علائم الغضب:

يوسف:

- ماذا تفعل؟

السجين بهدوء:

- أقرأ القرآن.

يوسف:

- تقرأ القرآن! إذن أنت من الرجعيين، هَمّ . . لقد علمتُ إذن لماذا أرسلوني لمراقبتك . . أنت عدو للاشتراكية، أليس كذلك؟

السجين:

- أنا مسلم وحسب.

يوسف:

- كل الناس مسلمون، ولكنهم لا يفعلون ما تفعل، كل الناس يصلون ويصومون، ولكنهم ليسوا برجعيين مثلك . . ها . . سوف أشرب من دمك أيها الرجعي النذل . . هذه البلاد تقدمت، وبدأت ترقى إلى مستوى البلدان المتحضرة، وأنت ما تزال في قعر الزنزانة، وعقلك يفكر تفكير الذين ماتوا واندثروا . . أنت رجعي . . رجعي.

السجين:

- أنت مخطئ يا صديقي إن ظننت أنني عدو للحضارة، لأنني أطالب بالإسلام: «فديننا ليس بديلاً من العلم والحضارة، إنما هو إطار للعلم والحضارة، ومحور للعلم والحضارة، ومنهج للعلم والحضارة في حدود إطاره ومحوره الذي يحكم كل شؤون الحياة.

- والإسلام كان هو الإعلان الشامل لحرية العقل البشري تجاه الكون المادي، وقوانينه، ومدخراته، وكان الإيذان العام بانطلاق هذا العقل ليعمل ويبدع في ذلك الملك العريض الذي استخلصه ربه فيه»([2])

يوسف (باستغراب):

﷒   - لأول مرة أسمع من رجعي كلمات : علم . . حضارة  . . عقل . . مادة . . قانون . . فعادة لا يقولون إلا كلمات قديمة مكرورة . . (ينتبه لنفسه)

- ولكنك عميل للاستعمار والرأسمالية اللذين نهبا البلاد، واستثمرا العباد .

- إنك حاذق على ما يبدو لي، ولست برجل عادي . . فأنت تعرف كيف تضرب على الوتر الحساس . . أيها المخادع.

يمشي نحو الأسواط المعلقة على الجدار الأيسر، ويتناول سوطاً، وعندما يعود يجد أن السجين بدأ بقراءة القرآن وبصوت مسموع، فيقف مذهولاً من روعة القراءة:

﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ ([3]).

ينتبه السجان لنفسه، فيصيح صارخاً.

يوسف:

- كفى ! كفى! إنك تريد أن تسحرني، كفى لأرينك الويلات، لأجعلن رأسك بلون الشمس، ولترى مني ما لم تره من غيري، لقد كاد ينفذ إلى قلبي سحرك (يتقدم منه) هات ما في يدك  . . هات.

ويهجم عليه، ويمد يده من بين أسلاك باب الزنزانة، ويأخذ منه كتاب اللَّه . . يمسك السجان بالمصحف، ويحاول أن يطوح به بعيداً . . ولكنه يقف فجأة  . . وتظهر عليه سمات الرعب والخوف، ويقع السوط من يده فينزلها، ويتصبب العرق من وجهه، ويقع في حيرة وذهول شديدين . . بينما يبتسم السجين وينظر إلى سجانه:

السجين:

- لماذا لم ترمه؟ ماذا بك؟ لماذا ترتعد؟ كأنك أنت السجين . . ولكن حسناً . . يبدو أن الإيمان بدأ يتسرب إلى قلبك.

يوسف بصوت عال وغاضب:

- لا  . . لا يمكن أن أكون رجعياً . . لا يمكن  . . لا أستطيع أن أتصور نفسي أني رجعي . . فلتبق وحدك رجعياً . .  إني سأظل اشتراكياً تقدمياً.

السجين مبتسماً . . وقد ظهرت عليه هذه المرة سمات الذكاء تماماً:

- ولكنك تراجعت، ولم تجرؤ بكل ثوريتك أن تلقي وترمي بعيداً بمنهج وقانون الرجعيين.

يوسف:

- لا تنس أنني مسلم، فأنا أيضاً أومن بهذا الكتاب، ولكني لست برجعي ولا عميل، فأنا عربي اشتراكي، وبنفس الوقت تقدمي.

السجين:

- هل تصلي وتصوم؟

يوسف:

- لا . . ولكنني كنت أصوم أيام الطفولة؟

السجين:

- هل تؤمن بكتاب اللَّه، وأنه منهج للبشر أجمعين.

يوسف بدأ يتضايق:

- نعم، ولكنه أتى منذ أربعة عشر قرناً، وقد حدث تطورات كثيرة، وبقي الإسلام كما هو.

السجين:

- إذن هل تنكر صلاحية الإسلام؟

يوسف بغضب:

- لا . . فأنا مسلم أكثر منك.

السجين مبتسماً:

- إذن، لماذا لا تسير كما يريد منك ربك مُنزل الإسلام، وكما يريد نبي الإسلام؟.

يوسف وبغضب ظاهر:

- عدت بي إلى الرجعية ثانية!!.

السجين:

- وهل الرجعية أن تكون مسلماً حقاً؟

يوسف صامتاً:

- إنما الرجعية . . (ينظر إلى السقف، ويسكت برهة ليتفكر ثم يقول) . . إنما الرجعية أن تكون عميلاً للاستعمار والرأسمالية.

السجين:

- أنا لم أدعك لتكون عميلاً، وإنما دعوتك لتطبيق أوامر اللَّه ورسوله.

يوسف:

- إنكم هكذا دائماً أيها الرجعيون . . تتظاهرون بالتدين العميق، وأنتم في أعمق أعماقكم عملاء مأجورون وخونة.

السجين:

- أما أنتم أيها التقدميون، فكفركم ظاهر للعيان . . ولكفركم هذا تريدون من الناس أن يكفروا.

يوسف في حدة:

- لا . . لسنا كفاراً، بل نحن مسلمون.

السجين:

- إذن لماذا لا تتبعون الإسلام . . وسيدك هل هو يتبع الإسلام؟.

يوسف بعصبية:

- إياك أن تذكر سيدي بسوء، فهو المسلم الحق في هذا البلد . . أفهمت!.

السجين يبتسم:

- حسن . . هدئ من روعك، وخاطبني بلغة العقل والضمير، عرف لي صاحبك . . من هو، وماذا يفعل؟

يوسف يحاول ضبط نفسه:

- إن سيدي هو المسلم الحق، وهو أكبر اشتراكي، واعلم قبل كل ذلك أنه رائد العروبة الأول.

السجين:

- حسن . . ألا تستطيع أن تتذكر على ماذا يسأل الميت في قبره، وعلى ماذا يحاسب في آخرته؟

يوسف بدهشة:

- يسأل عن ربه، ونبيه، ودينه، وإمامه، ويحاسب في آخرته على أعماله، إن كانت صالحة وخالصة للَّه، أو  كانت فاسدة، أو تشوبها شائبة.

السجين:

- هل يسأل عن دمه وقومه، لماذا كان لونه كذا، ولماذا كان من قوم فلان؟ ولماذا لم يكن من غيرهم؟

يوسف:

- لا، أبداً.

السجين:

- هل يُسأل عن اشتراكيته ورأسماليته؟

يوسف:

- لا  . . أبداً . . ولكنه يُسأل هل قام بعمله لوجه اللَّه أم لغيره، وهل قام بأوامر دينه أم لا؟

السجين:

- ألم تفكر في موقف الحساب هذا ولو مرة واحدة؟

يوسف تصيبه رجفة صغيرة . . ثم تلوح عليه سيما التفكير . . ويقول بصوت هادئ مرتجف:

- ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾([4]).

أثناء ذلك يكون الستار قد نزل شيئاً فشيئاً.

الفصل الثاني

المشهد الأول

يرفع الستار عن قاعة تعذيب، وفي الصدر زنزانة فارغة، يقف أمامها شرطيان هم اللذان ظهرا في الفصل الأول، وللمسرح باب واحد إلى اليسار، وأما الجدار الأيمن، فبجانبه كرسي يدل على أنه كرسي تعذيب، وعلى الجدار بعض المسامير الحديد الكبيرة . . بينما علق على الجدار الأيسر عدة أسواط، وسلك كهربائي، ومنظر المسرح عامة يوحي بأنه قاعة تعذيب من حيث قلة الإنارة، بالنسبة إلى الفصل السابق، ومن حيث الألوان الحمراء التي تكثر حتى الأنوار أكثرها حمراء.

الشرطي الأول:

- ها قد انتدبونا لتعذيبه.

ويبدآن بالمشي جيئة وذهاباً.

الثاني:

- لقد كنت متوقعاً ذلك.

الأول:

- كيف توقعته؟

الثاني:

- عندما أخبرتني أمس بأنه يستولي على قلب محدثه، وأن عدة من حراسه قد تبعوه، خطر على فكري بأنهم لن يتركوا بعد يوسف – إن وقع في شباكه – حارساً واحداً يحرسه، بل سيعددون الحرس، وقد وقع فعلاً ما توقعت.

الأول:

- ترى كيف استطاع أن يوقع بيوسف، ويوسف هو من هو شدة وصلابة وبطشاً وفتكاً.

الثاني:

- هذا هو ما خفي علينا، ولذلك يجب أن نحذر بشكل جيد، وإلا فإنه سيوقع بنا أيضاً، وتكون القاضية علينا.

الأول:

- لا تخف، فإني سأريه ما ينسيه إيانا، ولا يفكر إلا بنفسه.

الثاني:

- أتظن أننا نستطيع أن نتغلب عليه، ونبعده عن فكرته بما أعددنا له من أفانين التعذيب؟

الأول:

- هذا لا يهم، فالمهم ألا يستطيع فعل أي شيء بعد اليوم (بفخر) حتى نشلّه عن التفكير تماماً، ولو أدى ذلك إلى جنونه، أو موته، وليستصرخ من شاء من الناس، وليطالب بالعفو عنه، فإني سأعذبه عذاباً غاب عن بال يوسف.

الثاني:

- أتظن أن خبرتك بسجون الروس ستنتج ثمارها هنا؟.

الأول:

- هذا ما أتوقعه، لكن قصة الكلبة هذه لم يهتم بها المسؤولون كثيراً، وفي رأيي أنها من أفضل أنواع التعذيب لمثل هذا السجين اللدد([5]).

الثاني:

- ألا ترى معي أن قصة الدود، أو الكهرباء قد تجدي أكثر من الكلبة؟.

الأول:

- لا، فالكلبة، آه لو رأيتها، تستطيع أن تعذب أكثر حتى من الكهرباء، لأن الألم الذي يحدثه الكهرباء قد يؤدي إلى الإغماء أو الغيبوبة، وهذا ليس من صالح التعذيب، فالمعذَّب يجب ألا يغيب عن الوعي، فينقذه من الإحساس بالألم، أما الكلبة فتعطيه الألم المميت الدائم.

الثاني:

- والدود؟.

الأول:

- الدود له ميزاته النفسية أكثر منها الجسمية، ولكن تبقى قصة الكلبة هي أروع أفانين التعذيب، ولكن الدولة لم تلق لها انتباهاً ملائماً.

الثاني:

- أتظن أنه سيحاول الإيقاع بنا؟.

الأول:

- ألم أقل لك إنني سأنسيه حتى العالم والوجود كله . . سوف أجعله لا يعرف إلا عذابه، ولا يذكر إلا آلامه.

الثاني:

- ألا ترى أن يمنعوا من زيارته؟.

الأول:

- لقد عرضت هذا الرأي، ولكن لا أدري لماذا لم يوافقوا عليه.

الثاني:

- علمت أن زائريه هم الذي يتلقون منه الأوامر، ويأخذون منه ما يكتب لينشروه بين الناس.

الأول:

- لا أدري كيف تسمح الدولة بطبع كتبه وتوزيعها، فقد كان يجب منعها بتاتاً من الطباعة والانتشار.

الثاني:

- لقد قررت الدولة أخيراً منع توزيع كل كتبه، وجمعت كل نسخها من جميع المكتبات، وستقوم بحملة تفتيشية في المنازل، حتى لا تبقى كتبه بين الناس فتفسد تفكيرهم، وتهدم التحويل الاشتراكي الذي نبنيه منذ ثلاثة عشر عاماً.

الأول:

- لو كان الأمر بيدي لفعلت غير هذا.

الثاني:

- ماذا كنت تفعل؟.

الأول:

- لو كان الأمر بيدي لقتلته وأخاه، وخلصت الناس من شرهما، وأحرقت كتبهما، وكل من يقتنيها، ولو كلف ذلك نصف شعبنا، فكتبهما تدخل في النفس ومساربها، وتنتشر فيها انتشار الكهرباء في الحديد، وانتشار الدم في الجسم، ولا أدري ما سر هذا الإنسان! فالسحر كذب وخرافة، وهذا ليس عليه علائم السحر والشعوذة، أَقِرَاءة كتاب تخرب دولة ؟؟ هذه أعجوبة التاريخ ؟؟

الثاني:

- إنهما هو وأخوه جعلانا نعيش في مجتمع متفكك منهار، فالسجون امتلأت بسببهما لكثرة أتباعهما كثرة غريبة، مع كل حرب الإبادة التي تشنها الدولة عليهم، حتى أصبح سيدنا يشكّ في كل إنسان يراه، ويظنه من أتباعهما، وأفكارهما ملأت رؤوس الناس حتى الذين لم يتبعوه، فهذا البلد كله يرفض الاشتراكية، ولا يعرف إلا الإسلام، ولو لم ينادِ به، ولا يقبل في تفكيره إلاه، مع كل الهدم الذي قام به سيدنا لهذه الأفكار العتيقة الخربة، لقد أصبحا خطراً على بلادنا كخطر الأوبئة السارية التي تسري بسرعة فائقة فلا تبقي ولا تذر.

الأول:

- لن ينفع الدولة بعد اليوم إلا حرب الإبادة الجنونية، وطريقة الإفناء السريعة بأتباعهما، و .....

يصمت لسماع أصوات قادمة ويقف هو وصاحبه باستعداد تام، ويخاطبه بهمس:

- ها قد أتوا، وسيبدأ عملنا منذ الآن .

 

المشهد الثاني

يدخل عدد من الضباط المسلحين، ومن بينهم بعض الذين دخلوا في الفصل الأول، وأمامهم السجين نفسه، نفس النظرات السابقة، ابتسامة هادئة، واطمئنان في الحركة وثقة بالنفس.

يقدم الشرطيان التحية العسكرية، يقف الجميع أمام الزنزانة، ويتقدم أحد الضباط – وهو كبيرهم – من السجين ويدفعه إلى الزنزانة.

الضابط:

- ادخل، فلن تخرج من هنا بعد اليوم حتى تلقى منيتك، لقد أعددنا لك كل شيء.

يبتسم السجين، ثم يخاطب الضابط الشرطيين:

- هل أعددتما كل شيء؟

شرطي:

- نعم سيدي . . كل شيء جاهز.

الضابط:

- حسن . . هل تقترحان شيئاً؟

الشرطي:

- نعم سيدي، كنت أخبرتكم بشأن الكلبة، فهل حاولتم إعداد كلب لهذا الأمر؟.

الضابط:

- لقد أعددنا كلباً لهذا الشأن، والآن يقوم خبراء روس بتدريبه يومياً، وقد أُعدّ له دورة كاملة، يجب أن يؤديها قبل أن يصبح جاهزاً لتعذيب هذا الخائن.

الشرطي:

- حسن سيدي  . . أرجو أن يتم هذا قبل موت الخائن.

الضابط:

- احذراه . . إنه ذكي جداً، لا تدعا له فرصة ليكلمكما أبداً . . لا تسمعا لكلامه، حاولا أن تصمّا آذانكما عن سماع صوته، فإنه خطر، وقد يوقع بكما كما حدث لغيركما.

الشرطي الثاني (وقد ظهرت عليه علائم الامتعاض):

- حاضر سيدي، وكن في اطمئنان بأننا لن ندع له أية فرصة، إننا سننسيه هذا العالم، ولن نذكّره حتى بنفسه.

الضابط:

- حسناً، وانتبهوا إلى زواره، حاولوا تفتيشهم بدقة، وإن زاره نساء فأرسلوهن إلى مكتب تفتيش النساء، واحذروا من أن يخرج أي إنسان ومعه شيء من هذا السجين، فإن مصيركما سيكون كمصير صاحبكما يوسف، وإننا لن نثق بأحد يحرسه بعد اليوم – يمتعض الشرطيان – لأن ثقتنا بيوسف كانت دون حدود، فإذا به ينقلب رأساً على عقب، وأصبح تابعاً لهذا الخائن، ولذلك قتلناه شر قتلة، فاحذرا هذا المصير.

الشرطي الثاني وقد ظهر عليه رمز الخوف:

- حاضر سيدي، نحن هنا لتنفيذ الأوامر.

يلتفت الضابط نحو السجين الذي بدأ بقراءة القرآن:

- وأنت تقرأ القرآن؟ تريد أن تحتال علينا بتظاهرك بأنك متدين محب للإسلام، يا عدو الدين واللَّه، ستنال العذاب ضعفين وعذابين: عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة.

يبتسم السجين بإشفاق دون أن يتكلم، يخرج الضباط، ويقدم الشرطيان التحية العسكرية . . يبقى الشرطيان على الخشبة، والسجين داخل الزنزانة.

الشرطي الثاني:

- هل ستبدأ التعذيب مباشرة أم ستنتظر قليلاً؟

الشرطي الأول:

- لا . . بل سنبدأ التعذيب اليوم، ومنذ الآن.

يتجه الشرطيان نحو الزنزانة . . يخرجان السجين . . يخلعان قيوده . . يربطانه على الجدار الأيمن . . يقيدان قدميه إلى الجدار . . وكذلك يديه بعد أن يرفعاهما إلى الأعلى . .

الشرطي الأول يخاطب السجين:

- ماذا هل تحب أن نلاعبك قبل التعذيب أم نبدأ مباشرة؟

السجين مبتسماً:

- ما سبب تعذيبي؟

الأول:

- خائن . . وتقول ما سبب تعذيبي! ! عميل للإنكليز . . رجعي تريد أن تتآمر على الدولة لأنها تقدمية اشتراكية !. ها سأريك كيف تخون بلادك . .

السجين:

- أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه ؟!

الأول:

- لا واللَّه . . بل نقتل رجلاً عدواً للَّه ورسوله يا فاسق.

السجين:

- آه لو كنتم تعلمون من هو اللَّه.

الثاني:

- لا تحاول جداله، فقد حذرونا من ذلك.

الأول:

- حسن . . هات سوطين لنعطيه تمريناً قبل أن نبدأ بتعذيبه.

يذهب الشرطي الثاني ويحضر سوطين . . يعطي أحدهما لصاحبه، وينهال الاثنان عليه ضرباً . . على صدره . . والسجين صامت . . صامد كالطود . . مسنداً رأسه إلى الجدار ومغمضاً عينيه . . مطبقاً على فمه . . بعد فترة وجيزة يقف الشرطي الأول عن الضرب ليعلن لصاحبه انتهاء التمرين الرياضي الأول، ويخاطب السجين:

- ماذا؟ هل أعجبك هذا التمرين . . سندربك عليه يومياً قبل أن نبدأ التعذيب . . والآن اختر إحدى الطرق التالية: هل ترغب العذاب بالكهرباء . . أم بالماء المغلي؟ . . وإذا كنت تريد الكهرباء، فلدينا طرق عديدة ومبتكرة في هذا المجال . . ترى أم تريد تسريحة جميلة ؟!

السجين صامت ورأسه إلى الجدار، ودمعات من عينيه تهبط على خده.

الأول:

- حسناً، سنمنحك تسريحة جميلة فوق هذه السياط؛ لأن جسدك الآن أصبح قابلاً لشق أنهار من الدم فيه.

يشير إلى صاحبه نحو الباب، فيذهب الشرطي الثاني إلى المكان الذي أشار إليه صاحبه، ويمد جسده خارج المسرح، وإذا به يحمل آلة حديدية كالمذراة، ويعطيها لصاحبه، يمسك بها الشرطي الأول، ويبدأ بإمرارها على صدر السجين بقوة، وتكون ثياب السجين قد تقطعت من السياط، وأثناء التمشيط يدير الشرطي الثاني وجهه حتى لا يرى العذاب، بينما السجين يتلوى من الألم، وتتساقط دموعه غزاراً دون أن يسمع منه آهة واحدة، ولكن جسده لا يستطيع الثبات والاستقرار، ويرى قطرات من الدماء تتساقط من المشط، وبعد فترة ينتهي من تعذيبه، فيلقي المذراة بعيداً ويخاطب السجين:

- والآن هل ما زلت مصرّاً على رأيك؟ هل ما زلت رجعياً؟ هل تريد قلب نظام الحكم؟

يصمت السجين ولا يتكلم، بينما يتابع الشرطي مخاطباً صاحبه:

- هات الطشت.

يذهب الشرطي خارج المسرح، ويغيب لحظة ثم يعود حاملاً طستاً كبيراً يتصاعد البخار منه، ويدل على أنه مليء بالماء المغلي، يحمله ويضعه أمام رأس السجين، ويحاول الشرطي الأول أن ينزل رأس السجين فيه:

- اشرب . . اشر ب هذا الماء يا خائن.

ولكنه لا يستطيع أن ينزل فم السجين في الطست فيتناول الطست من صاحبه، ويصب الماء على رأس السجين، ولكن بعد أن ينزل الستار، حيث يسمع حركات مضطربة.

الفصل الثالث

المشهد الأول

نفس المنظر السابق، قاعة التعذيب كما هي، والشرطيان يقفان أمام الزنزانة الفارغة.

يرفع الستار

الأول يتمشى أمام الزنزانة مع صاحبه:

- أظن هذه المرة أن تعذيبنا لم يجد معه أيضاً، فلا الكلبة ولا الكهرباء ولا .... الإعدام سيخيف هذا السجين، إنه جبار، ولا أدري لم يتحمل كل هذا التعذيب! ألهذه الدرجة يفضل خيانة وطنه على نفسه، إذن لماذا يخون وطنه بدون فائدة تعود عليه؟

الثاني:

- لا أظن ذلك!.. لقد بدأت أشك في حقيقة هذا الإنسان.

الأول:

- ماذا تقصد من قولك.

الثاني:

- إن صبره هذا يذكرني بعمل الصحابة الأول.

الأول:

- أظن أن إنشاناً يحمل مبدأ ويتمسك به بهذا الشكل لا بد وأن يكون صادقاً.

الثاني:

- أرأيت عند تعذيبنا له ماذا قال؟

الأول:

- إنني ما زلت أذكر كلماته: إنني أبكي عليكم، لأنكم تجهلون لماذا تعذبونني، أنتم محقون في عملكم هذا، لأنكم ستنالون أجراً عليه، ولكن واحسرتاه عليكم عندما تُسألون يوم القيامة، فماذا يفيدكم عملكم هذا عندها . . ماذا يفيدكم عندها ؟.

الثاني يردد بحزن:

- ماذا يفيدكم عندها . . ماذا يفيدكم عندها.

الأول:

- لقد بدأت أشك في مبدأ سيدنا، لو كان حقاً يتبع الإسلام كما يدعي، لأثبت ذلك بمعاملته لهذا الإنسان الذي يطالب بالإسلام، ولو كان الحكم إسلامياً بجملته لما وجد من يطالب بحكم إسلامي إلا السفهاء من الناس، والسجين هو من هو في الذكاء والتفكير.

الثاني:

- إن هذا السجين يقول بأن الاشتراكية والقومية ليسا الإسلام في شيء، وإن الربا والسفور محرمان في الإسلام، فهو يريد أن يعود الناس إلى الإسلام القديم، لا إسلام الشيوخ الذين تحضروا، ونشاهد  سيقان فتياتهم ونهودهن.

الأول:

- لو كان حقاً ما يتكلمه سيدنا لفعل كما أمرت الآية الكريمة : ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾([6]).

الثاني:

- لقد حاول سيدنا ذلك، ولكنه لم يتفق معه؛ لأنه أراد أن يرغمه على رأيه للموافقة على أعماله دون النظر للإسلام، ودون أن يتناقشا في أمر المبادئ.

الأول:

- إنني لأذكر موقف سعيد بن المسيب عندما رفض البيعتين لعبد الملك بن مروان، وكيف صبر على جلد خمسين جلدة... رحم اللَّه ..

وصمت يخيم قليلاً، بسبب سماع أصوات قادمة، ثم يقف الشرطيان أمام الزنزانة باستعداد.

 

المشهد الثاني

يدخل عدة ضباط كالعادة، اثنان منهم ممسكان بالسجين الذي ظهرت عليه أمارات الضعف والمرض. يدخل السجين إلى الزنزانة، ويكون الشرطيان قد أديا التحية العسكرية

أحد الضباط: مخاطباً الشرطيين:

- لا تعذباه هذه المرة، فقد أمرنا الطبيب بإراحته، وإلا مات أثناء التعذيب، هذا النذل الذي فضل الموت على وطنه، فباعه بثمن بخس، ستعاد محاكمته سراً في هذه المرة أيضاً، وسيقرر الحكم النهائي في قضيته .

الأول:

- حاضر سيدي.

الضابط:

- لا تحاولا أن تقعا معه في جدال أو مناقشة، فهو عليم بمسارب النفوس ودخائلها، ويعرف كيف يضع السم بالعسل.

الثاني: بامتعاض:

- حاضر سيدي .

يخرج الضباط، و يقدم الشرطيان التحية العسكرية.

يجلس السجين، ويخرج مصحفه من جيبه، ويبدأ بالقراءة، بينما يقف الشرطيان بعيداً عن الزنزانة، ويبدآن بالحديث:

﷒          الثاني:

- لا أدري واللَّه لم كل هذا التحذير من هذا الرجل، وهل نحن بسطاء أم بهائم؟ لماذا يخيفوننا منه؟ ولماذا يرفضون منا حتى مناقشته، هل هو إلى هذا الحد من الخطر أو الذكاء العجيب؟ أم هي قصة إيمان بمبدأ والإخلاص له؟

الأول:

- فعلاً بدأت أتضايق من هذه التوصيات، ألهذا الحد يحتقروننا؟ أيظنون أنا من سفهاء الناس وعامتهم، فننقاد مباشرة لكل رأي وخبر؟.

الثاني:

- أظن أن لو كان مبدؤهم يستطيع أن يقف أمام مبدأ هذا الإنسان لحاولوا على الأقل أن يحذرونا من أفكاره بأفكار أخرى، أو حاولوا توعيتنا على الأقل بأخطاء مبادئه وتفكيره، و لكن لم يعطونا إلا كلمتين: خائن .. عميل .. كيف كانت خيانته ؟ ما هي دلالة عمالته، متى قبض عليه في الخيانة أو العمالة وكيف؟ وما هي الوثائق أو التصريحات الدالة؟ طبعاً لا شيء سوى الصحف الرخيصة، والمجلات الدائرة التي تصفق لكل قائم، وتحيي كل وارد، والتي لا تقوم إلا على الدعاية الباطلة، والأباطيل المحكمة.

الأول:

- إن الصحف القديمة التي كانت تصدر على عهد الحكم البائد، حكم الاقطاع والملكية العميلة – كما يقول سيدنا – هي الأخرى كانت تقول أيضاً إنه عميل وخائن، وقد سجن في زنزاناتها مدة طويلة، وعذب عذاباً كثيراً.

الثاني:

- إذن كيف تكون خيانة إنسان في الحكم الرجعي والحكم التقدمي سواء، وإذا قلنا يحب مصلحته الخاصة، فها هو على شفا حفرة من القبر، وها هو يعذب بأحدث وسائل التعذيب، وبينه وبين النجاة كلمة واحدة، فيرفض أن يقولها، ولو قالها لنجا، وإلا فسيموت حتماً، وهل من مصلحته أن يموت؟ لقد بدأت أرتاب في كل شيء حولي لهذا التناقض العجيب، فلا الاشتراكية تستطيع أن تغذي عقلي وروحي، ولا القومية كذلك، أنا أطلب الاستقرار فلا أجده، وهو يجده في تعذيبه، فكيف أجده أنا يا إلهي؟

الأول  ينظر إلى السجين:

- ألا ترى أنه مستقر في حياته، لم أره إلا مبتسماً عدا أوقات التعذيب، فإنه كان يبكي بقلبه لا بصوته ونحيبه، إنه وجد الاستقرار: في عينيه، في جلسته، في قلبه، في قراءته، في كل شيء فيه ترى الاستقرار، حقاً إنه عظيم، لأنه عثر على مبدأ أعطاه الاطمئنان حتى في سجنه وتعذيبه، نحن سجانوه نتعذب لأننا نخاف، نخاف من حكامنا، نخاف في بلدنا، في بيتنا، حتى أثناء تعذيبه نخاف، في كل لحظة نتوقع أي شيء يحدث بغير صالحنا، إننا لا نملك الاستقرار . . آه ليتنا نكون مثله.

يقتربان من السجين فيسمعان القرآن بصوت شجي:

السجين

- ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ صمت.

- ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾

فترة صمت ثم قراءة في شدة وحدة:

- ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾.

يكون الصمت قد عاد إلى هدوئه، ولكنه يعود إلى الحدة أيضاً

-  ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾([7]).

يكون الشرطيان واقفين وعيونهما مسمرة نحو السجين، وتظهر عليهما علامات التأثر والانفعال، فيصرخ الشرطي الثاني:

- كفى .. كفى .. كدت تميتنا .. فنحن لسنا بكافرين .. نحن مؤمنون .. كفى .. ارحمنا .. ارحمنا.

يتوقف السجين عن القراءة، وينظر نحوهما بابتسام.

الشرطي الأول:

- باللَّه عليك قل لنا لماذا اتهموك بالخيانة؟

السجين:

- لأنني لم أوافق على كل ما يفعلون.

يضع مصحفه في مكانه في جيبه .

الأول:

- ولمَ لمْ توافق؟

السجين:

- لأنها على غير ما أمر اللَّه.

الأول:

- ولكننا الآن في ظروف حرب مع الاستعمار والصهيونية، فيجب أن نتحد ولا نختلف، وبعد التحرير ننظر في هذه الأمور.

السجين:

- وهل الإسلام لا يطالب بالتحرير والاستقلال؟

الأول:

- ولكنه قد يشغل عنها مدة .. أما شعاراتنا الحالية، فهي منصبة على التحرير والكفاح.

السجين :

- إن الإسلام في صميمه حركة تحريرية، تبدأ في ضمير الفرد، وتنتهي في محيط الجماعة، وما يعمر الإسلام قلباً ثم يدعه مستسلماً خاضعاً خانعاً لسلطان على وجه الأرض إلا سلطان الواحد القهار، وما يعمر الإسلام قلباً ثم يدعه صابراً ساكتاً على الظلم في صورة من صوره جميعاً، سواء وقع هذا الظلم على شخصه، أو وقع على الجماعة الإنسانية في أية أرض، وفي ظل أي سلطان، وأي ظلم أكبر من الاستعمار والشرك؟([8]).

- وإذا رأيت المظالم تقع، وإذا سمعت المظلومين يصرخون، ثم لم تجد الأمة الإسلامية حاضرة لدفع الظلم، وتحطيم الظالم، فلك أن تشك مباشرة في وجود الأمة الإسلامية، فما يمكن أن تحمل القلوب الإسلام عقيدة، ثم ترضى بالظلم نظاماً، وبالسجن شريعة([9]).

الثاني:

بعد أن ظهرت الدهشة على كليهما، وبدأ الضعف يتسرب إليهما يقول أحدهما:

- نحن محتاجون الآن إلى أناس محاربين، لا إلى مصلين فقط .

السجين في ثورة:

- إنه الإسلام أو لا إسلام .. إسلام فهو كفاح لا يهدأ، وجهاد لا ينقطع، واستشهاد في سبيل الحق والعدل  والمساواة، أو لا إسلام فهو إذن همهمة بالأدعية، وطقطقة بالمسابح، وتمتمة بالتعاويذ، واتكال على أن تمطر السماء على الأرض صلاحاً وخيراً وحرية وعدلاً.

- الذين يؤمنون باللَّه حق الإيمان، هم الذين يجاهدون في اللَّه حق جهاده، ثم هم الذين يجاهدون لتكون كلمة اللَّه هي العليا، وكلمة اللَّه في هذه الأرض لا تتحقق إلا أن يرفض البغي والظلم منها، وأن يصبح الناس سواسية كأسنان المشط، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى([10]).

الأول:

- ولكننا نحتاج إلى كلمة واحدة تجمعنا كلنا لنحارب الإقطاع والرأسمالية والتخلف لننهض ونبني أمة .

السجين:

- وإذا كانت الروح القومية تملك أن تدفع بنا اليوم إلى كفاح الاستعمار الباغي البغيض .. وإذا كانت الروح الاجتماعية تملك أن تدفع بنا اليوم إلى كفاح الإقطاع الفاجر، والرأسمالية الطاغية.. وإذا كانت روح الحرية الفردية تملك أن تدفع  بنا اليوم إلى كفاح الطغيان الباغي، والعسف المتجبر. .

فروح الإسلام تجمع الاستعمار والإقطاع والطغيان كلها في عنوان : البغي .. وتدفع بنا جميعاً إلى كفاحها جميعاً بلا تلعثم ولا تردد، وبلا جدال ولا تفرق.

إنه ما من مسلم يستشعر قلبه روح الإسلام، يمكن أن يدع الإقطاع الفاجر والرأسمالية الطاغية في أمن وطمأنينة، لا يكشف مخازيها ولا يبين شناعتها، ولا يصرخ في وجهها الطالح، ولا يجاهدها باليد واللسان والقلب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .. وكل يوم يمر دون جهاد، وكل ساعة تمر دون كفاح، وكل لحظة تمر دون عمل ... ثم لم يستشعره ضميره، ووزر ينوء به شعوره، وخطيئة لا يكفر عنها إلا الجهاد الدافق الفوار([11]).

الثاني:

- إذن فبالإسلام فقط نحارب كل شيء عدو لنا؟!

السجين:

- نعم، كن مسلماً فحسب.

يبدأ صوته جهارة وثورة :

- فهذا وحده يكفي لأن يدفعك إلى كفاح الاستعمار في شجاعة واستماتة وتضحية واستبسال، فإن لم تفعل – يضع يده على قلبه – فتحسس قلبك، عسى أن تكون مخدوعاً في حقيقة إيمانك، وإلا فما صبرك عن كفاح الاستعمار؟

- كن مسلماً فحسب .. فهذا وحده يكفي لأن يدفعك إلى كفاح المظالم الاجتماعية جميعاً .. كفاحاً جاهراً دافعاً فائراً، فإن لم تفعل – يضع يده على قلبه – فتحسس قلبك عسى أن تكون مخدوعاً بحقيقة إيمانك، وإلا فما صبرك عن كفاح العدوان؟!

- كن مسلماً فحسب .. فهذا وحده يكفي لأن يدفعك إلى كفاح الطغيان، في صلابة، واستعانة بقوى الذباب الذي يحسبه الضعاف من العقبان!. فإن لم تفعل – يضع يده على قلبه – فتحسس قلبك عسى أن تكون مخدوعاً في حقيقة إيمانك، وإلا فما صبرك عن كفاح الطغيان؟

إن مبادئ الأرض جميعاً، وإن مذاهب الأرض جميعاً لتتفرق ليختار كل ميدانه لتحقيق العدل والحق والحرية.. فأما الإسلام، فيكافح في الميادين جميعاً، ويحتضن الحركات التحررية جميعاً، ويحبذ المكافحين جميعاً([12]).

الأول:

- لماذا اتهمت بالعمالة والخيانة إذن؟

السجين:

- اتُّهمت بهما لأنني لم أرضهما، فسيدكما لا يريد الإسلام، ولو كان يريده لأقامه، ولن يشاد هذا الدين من أحد إلا غلبه كما قال رسول الله e، سيدكم له خمسة عشر عاماً يحكم، فماذا أقام للإسلام؟ هل أقام له حكماً واحداً .. تبصّرا في تاريخه، ماذا فعل إلا التحويل الاشتراكي الذي أدى إلى الإلحاد، وفساد الأخلاق! انظرا في نفسيكما، هل تعرفان اللَّه كما كنتما تعرفانه من قبل؟ تحسسا قلبيكما، هل يزداد إيمانكما كلما مر الزمن على التحويل الاشتراكي، أم هو في تناقص؟ انظرا حواليكما هل ينقص الفساد والانحلال والعهر والكفر كلما مر الزمن على التحويل الاشتراكي، أم هو في تزايد؟ فكروا أيها الناس أين الإسلام؟ هل هو في تقدم أم هو في تراجع؟ هل يزداد عدد المسلمين أم يتناقص؟ هل يزداد الإيمان في القلوب أم ينعدم؟ ماذا أفدتم من التحويل الاشتراكي، هل حصلتم على السعادة والمساواة، أم مازال الظلم في كل مكان يعمر الأرض؟ ماذا أفدتم من القومية؟ هل توحدتم؟ هل صرتم بلداً واحداً وقلباً واحداً ويداً واحدة؟ أم أنتم ما زلتم أشلاء مبعثرة ممزقة، ويلعن بعضكم بعضاً؟

الأول:

- إذن عدو للقومية أيضاً!

السجين:

- إن درعنا الوحيد هو إسلامنا فقط.

الأول:

- وهل القومية غير الإسلام؟ إنهما واحد، فأنا لا أستطيع أن أتصور نفسي مع الإسلام وضد العرب.

السجين:

إن كنت مع العرب فاطلب لهم الخير والفلاح، واعلم بأن الخير هو الإسلام، فادعهم للإسلام قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة.

الثاني:

- ألا ترى أن ندعو للعروبة قبل الإسلام؛ لنتحد ونتضامن، ثم ندعو للإسلام بعد ذلك.

السجين:

- إن هذا الدين ليس إعلاناً لتحرير الإنسان العربي! وليس رسالة خاصة بالعرب! .. إن موضوعه هو الإنسان .. نوع "الإنسان".. ومجاله هو الأرض .. كل "الأرض" . إن اللَّه – سبحانه – ليس رباً للعرب وحدهم، ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم.. إن اللَّه هو "رب العالمين".. وهذا الدين يريد أن يرد العالمين إلى ربهم، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره، والعبودية الكبرى في نظر الإسلام هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر.. وهذه هي "العبادة" التي يقرر أنها لا تكون إلا للَّه، وأن من يتوجه بها لغير اللَّه يخرج من دينه مهما ادعى أنه في هذا الدين، ولقد نص رسول اللَّه e على أن "الاتباع" في الشريعة والحكم هو "العبادة" التي صار بها اليهود والنصارى "مشركين" مخالفين لما أمروا به من "عبادة" " اللَّه وحده"([13]).

المشهد الثالث

يدخل شرطي مسرعاً:

الشرطي :

- سيدي !

يقف عندما يرى السجين يتكلم إلى الشرطيين، وينظر إليهما باستغراب ودهشة يصمت الجميع لحظات، يبدو شيء من الارتباك على الشرطيين، ولكن الشرطي يقطع الصمت قليلاً:

- سيدي .. هل بالإمكان إدخال أحد من الزوار ليزور السجين؟

الأول:

- نعم .. نعم ليدخل من يريد.

قالها بارتباك، بينما يقف الشرطي الجديد لينظر مرة نحو الشرطيين ومرة في السجين، ويثبت بصره إليه، ويتأمله من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى كأنه يحاول أن يستقرأ الموقف، بينما يكون السجين قد عاد إلى طبيعته الهادئة العادية التي اعتاد النظارة رؤيته عليها، وينتبه الشرطي إلى نفسه ويقول:

- حسن .. حسن .. سندخل الزوار.

يخرج من المسرح، وينظر الشرطيان إلى بعضمها بشيء من الارتباك، ثم يتجهان بنظرهما نحو السجين، ويرد إليهما السجين نظرة عميقة يجاول أن يقرأ ما في نفسيهما، ثم يبتسم قائلاً:

- لا تخافا .. لن يحدث شيء.

يصمت الشرطي الأول، بينما يقول الثاني باضطراب:

- ولكننا سنموت، لا بد من أن يقتلونا، فسيدنا طاغية لا يعرف إلا كرسيه ومنصبه، ويخاف عليه كما تخاف العنكبوت على بيتها.

السجين:

- الحمد للَّه الذي عرفكما الحق، وأيقظ قلبيكما من الغفلة التي رانت عليهما زمناً.

يردد الشرطيان:

- الحمد للَّه

وتظل أمارات الخوف مرتسمة على وجهيهما، فيقول بصوت هادئ:

- ما عندكم ينفد، وما عند اللَّه باق.

واعلم لو أن الأمة اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك.

واعلم أن لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك.

يظهر أثر الارتياح على وجهيهما، ويبتسمان ولكن..

المشهد الرابع

تدخل امرأة متلفعة بثياب بيضاء على رأسها خمار يغطيه كله، ولا يظهر منها إلا استدارة وجهها وكفيها، جلبابها طويل حتى كاد أن يصل إلى كعبيها أكمامه طويلة، حتى ما بعد الرسغ، لها وجه جاف، كأنه لم يعرف الابتسام يوماً، ينتبه الشرطيان، فيتنحيان عن الزنزانة، ويجلسان قريباً من النظارة، بينما تتقدم المرأة نحو السجين، وتمد له بورقات بيض – يراقبها الشرطيان تماماً- ثم تأخذ منه ورقات أيضاً، ينظر السجين نحو الشرطيين بابتسام، ويشير إليهما أن تعالا، يتوجه الشرطيان نحوهما، فتتأخر المرأة قليلاً:

السجين:

- إنها أختي، أتتني بأوراق بيض، وأخذت ما كتبتُ في أيام السجن الأخيرة .. هل سيجرون عليها تفتيشاً دقيقاً؟

الأول:

- لا تخف، سأخرجها أنا .. ولكن اقرأ لنا بعض ما كتبت باللَّه عليك، علنا نشعر ببعض الراحة.

السجين يقرأ، بينما تتأخر المرأة لتجلس على الكرسي البعيد الذي كان معداً للتعذيب:

- إن تحديد طبيعة المجتمع المسلم يجيب إجابة حاسمة عن هذا السؤال: ما الأصل الذي ترجع إليه الحياة البشرية، وتقوم عليه! أهو دين اللَّه ومنهجه للحياة؟ أم هو الواقع البشري أياً كان؟

- إن الإسلام يجيب على هذا السؤال إجابة حاسمة، لا يتلعثم فيها، ولا يتردد لحظة .. إن الأصل الذي يجب أن ترجع إليه الحياة البشرية بجملتها هو دين اللَّه ومنهجه للحياة.. إن شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمداً رسول اللَّه التي هي ركن الإسلام الأول، لا تقوم ولا تؤدى إلى أن يكون هذا هو الأصل([14]).

يتوقف السجين عن القراءة، وينظر نحو الشرطيين، ثم يقلب ورقة أو أوراقاً ليقرأ مرة أخرى بعد أن ينظر نحو المرأة:

- إنها قضية عقيدة، ومعركة عقيدة، وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم، فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج: 8]، ويخلصوا له وحده الطاعة والخضوع.

- قد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة، راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية، كي يموهوا على المؤمنين حقيقة المعركة، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة، فمن واجب المؤمنين ألا يخدعوا، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيت، وأن الذي يغير راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها، النصر في أية صورة من الصور، سواء جاء في صورة الانطلاق الروحي، كما وقع في حادث الأخدود، أو في صورة الهيمنة الناشئة من الانطلاق الروحي، كما حدث للجيل الأول من المسلمين([15]).

يتوقف السجين عن القراءة، وينظر نحو أخته، ثم نحو الشرطيين اللذين استولى عليهما جو القراءة ويخاطبهما:

- أما انتهت الزيارة .. أرجو ألا نثير انتباهاً.

الأول: بعد أن ينظر إلى ساعته:

- نعم .. نعم ... هذا وقت انتهائها – مخاطباً المرأة - :

- هيا يا أختي لتخرجي معي دون تفتيش.

تتقدم المرأة نحو السجين، وتأخذ منه الورقات، وتتجه نحو الباب وراء الشرطي الأول.

الثاني:

- سيقررون اليوم الحكم النهائي، إما البقاء في السجن أو...

يصمت، وينظر نحو السجين بعيون كسيرة دامعة - .

﷒          السجين مبتسماً:

- لا تحزن يا أخي، كلنا يتجه إلى هذا المصير، واعلم أن أيامك عمرك، فكل يوم يمر إنما يمر بعضك ، ولن أموت إلا إذا جاء أجلي، ووالله لموت في عز خير من حياة في ذل:

فإما  إلى النصر فوق الأنام   وإما إلى اللَّه في الخالدين([16])

الشرطي:

- ولكن ألا تعلم كم هي خسارتنا، أنا لا أحزن لأنني سأموت، ولكن أحزن لموتك أنت، فأنا لا أساوي شيئاً، فإلى الآن لم أفد المسلمين بشيء، أما أنت ..

أنت يا أخي ، بقلمك استطعت أن تبث الحياة في نفوس المسلمين، استطعت أن تبلّغ الأمانة بعد أن حملت الرسالة، أنت إن مت يُصّب المسلمون بكارثة كبيرة، وخسارة فادحة، وينالهم لموتك سوء كبير، تصور لو مات ملايين من غوغاء المسلمين لما خسرنا شيئاً، ولكن إن مت أنت خسرنا كل شيء.

السجين:

- هوّن عليك يا أخي، فلن يحدث إلا ما قدر اللَّه، وللَّه في خلقه شؤون، وهو الحكيم الخبير، ولا يريد إلا ما فيه الخير والحكمة، فلا تيأس من روح اللَّه، فإنه لا ييأس من روح اللَّه إلا القوم الكافرون.

المشهد الخامس

يدخل الشرطي الأول، يسمع كلام السجين .. ويحدث فترة صمت، ثم يرفع السجين رأسه مخاطباً الشرطيين:

السجين:

- إنني أشعر باقتراب منيتي، و بقرب ملاقاتي لوجه ربي، فإن الحنين للقاء اللَّه قد ملك كل أقطاري، والشوق لنظرة من رسول اللَّه تتلهف لها نفسي، ويدغدغ لها دماغي، فلا بد أنا ميت، إن لم يكن الليلة فغداً أو بعد غد، فهل توصلون هذه القصيدة إلى إخوتي؟

الأول:

- نعم، فنحن ننفذ ما تريد، و إن شئت أن نحاول إخراجك من هنا هرباً لفعلنا، فربما كان باستطاعتنا ذلك، قل لنا ونحن ننفذ.

السجين:

- بارك اللَّه فيكما، لا لن أهرب، فلن يصيبنا إلا ما كتب اللَّه لنا، ولكن أرجو أن توصلوا هذه القصيدة إلى إخوتي، وإني لم أتمها حتى الآن، و لكنها قد تتم قبل الموت .. أرجو أن يكون موتي خيراً، وبركة للمسلمين.

الشرطيان وقد طفرت الدموع من عينيهما:

- اقرأ لنا ما كتبت

السجين:

- سأقرأ لكما بعض أبياتها.

يخرج من جيبه أوراقا ويقرأ

أخي قد سرت من يديك الدماء=أبت أن تشل بقيد الإماء

بصوت قوي شديد:              

الفصل الرابع

المشهد الأول

يرفع الستار عن مقصلة وبجانبها شرطيان غير اللذين سبقاً.

الأول:

- لقد صدر الحكم عليه بالإعدام منذ الأسبوع الماضي، ولا أدري لماذا لم ينفذ الحكم حتى الآن؟

الثاني:

- نعم، وأظن أنهم سينفذون الحكم اليوم، وبعد قليل، وإلا لما أرسلونا إلى هنا.

الأول:

- ترى لماذا لم ينفذوا الحكم فوراً.

الثاني:

- أما سمعت بضجة العالم الإسلامي .. السودان .. إندونيسيا .. باكستان .. مالي .. مراكش .. أفغانستان .. وغيرها.. وغيرها .. كلها طلبت من سيدنا أن يوقف الحكم، أو على الأقل تأجيل تنفيذه، وأن يبقى في السجن.

الأول:

- وما دخْل هذه البلاد بخائن عندنا، ما دخْلها بأمورنا الداخلية حتى تطلب ذلك؟ وكيف تتوسط لخائن كهذا؟

الثاني:

- لقد استطاع هذا السجين بقلمه أن يستميل المسلمين إليه، فقد تأثروا بكتاباته،  وقالوا إنه لم يعد مصرياً، لقد أصبح مُلك العالم الإسلامي أجمع .. إنه لم يعد مُلكاً لبلده التي خانها، ولم يحفظ عهدها، بل أصبح يتكلم باسم العالم الإسلامي .. يا له من حاذق ذكي، يخدع عالم المسلمين، ولذلك سحب سيدنا كل كتبه من المكتبات، وحتى البيوت.

الأول:

- هل سيعدم مع أخيه أم وحده؟

الثاني:

- ليت ذلك يكون. ولكن أخاه لن يعدم ، بل سيعدم مع بعض رفاقه، وهكذا يبقى أخوه في السجن، مع أن الأفضل أن يُعدم الآخر، فليس أقل ضرراً منه، بل على العكس، إنه يملك لساناً حاداً وسليطاً، لو وضع على صخر لفلقه، لسان مرٌّ وقاذع ، لسان صريح  وصارم، لا يخاف، ولا يعرف الجبن والخور، ولذلك أرى أن يقتل معه، ولكن قد يكون هناك أمر من إبقائه في السجن، قد تهون المصيبة أمام المسلمين، وقد تنطلي الخديعة، فيظنون أن قتل الأول كان لسبب معين يعطي سيدنا الحق أمامهم بقتله، وليس كما يدعون لإسلامه وإيمانه، وإلا لقتل الاثنين معاً.

الأول:

- صدقت

يصمت، وكأنه يسمع أقداماً

- اسمع لقد أتوا.

المشهد الثاني

يدخل ضابطان من البوليس. يقف الشرطيان باستعداد ويؤديان التحية.

الضابط الأول:

- هل أعددت كل شيء .. بعد قليل سيحدث الإعدام.

الأول:

- نعم سيدي .. ولكن هل سيعدم الجميع هنا؟

الضابط:

- لا .. فقط سنعدم كبيرهم هنا .. أما الباقي فلهم أماكن أخرى.

الثاني:

- ماذا حدث للشرطيين؟

الضابط:

- أدخلناهما السجن بعدما تأكدنا أنه أغواهما، إني لأعجب من هذا الإنسان، فما دخل عليه حارس إلا وصار من شيعته! أهو ساحر!  واللَّه إن أمره لعجيب؟

_ يسكت قليلا و يتابع_:

- أظنهم على الباب.

المشهد الثالث

يدخل عدد من الضباط، وشرطيان يمسكان بالسجين نفسه.

السجين، نفس الابتسامة على فمه لا تفارقه.

الضابط الأول:

- لابد أنه قد أصيب بالجنون .. فقد سمع نبأ الحكم عليه بالإعدام، فازداد ابتساماً وفرحاً، وكأنه يظن نفسه ذاهباً للقاء حبيب، وسينفذ الحكم، ويظل يضحك، لا بد أنه اختل ..

ينظر السجين إليهم، وينفرج فمه عن ابتسامة عذبة ..

- تقدم .. قدِّموه إلى المقصلة .

يتقدم الشرطيان، ويبدآن بتقديمه نحو المقصلة

- هل تريد شيئاً أيها السجين؟

السجين:

- نعم أريد أن أدعو ربي.

الضابط:

- فليدعُ ربه إن كان هناك رب ينقذه من المقصلة.

ثم ينظر نحو السجين ويتابع:

- إن استطاع أن ينقذك من أيدينا فلينقذك يا خائن.

يبدأ السجين بالدعاء، والجميع ينظرون إليه، وإذ بعبراته تتساقط أثناء دعائه، ونظراته تعلق بالسماء، ويداه مرتفعتان باتجاهها، ووجهه يزداد إشراقاً ونوراً ... وعندما ينتهي من الدعاء يمسح عينيه بطرف كمه، وتعود له ابتسامته بعذوبتها، وجمالها، ويتقدم مسرعاً نحو المقصلة، بينما يكون البقية في ذهول، وبعضهم دمعت عيناه.

أحد الضباط نحو السجين:

- هل تريد أن تقول شيئاً قبل أن تموت؟

السجين:

- نعم

_ يتجه نحو قاعة المسرح_:

- يا أيها الناس، اشهدوا لي أمام اللَّه يوم الحشر والعرض والحساب .. اشهدوا لي بأنني أبلغتكم رسالات ربي .. اشهدوا بأني أديت الأمانة المنوطة بعنقي .. يا أيها الناس، من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، إن اللَّه غني عن العالمين .. سأموت راضياً مطمئناً لأنني قمت بما أمرني ربي وأمرني رسوله، و أديت أمانتي، فاشهدوا بهذا لي .. واللَّه يا أيها الناس، لو لم ينتظرني هذا المصير لشككت في إيماني.

في هذا الوقت بالذات يسمع من خلف المسرح صوت جماعي حزين شجي ينشد الأبيات التالية، وأثناء الإنشاد يتقدم السجين من المقصلة ليوضع الحبل في عنقه، ويرخى الستار على صوت الإنشاد:

أخي إن ذرفت علي الدموع=وبللت قبري بها في خشوع

رمضان سنة 1390 هـ

الهوامش

(1) آيات من أوائل سورة ق (الآيات 2-5)

([2]) من كتاب المستقبل لهذا الدين للإمام الشهيد ص 104.

([3]) سورة الطور، الآيات م (1- 17).

([4]) سورة الحج الآيتان: 1- 2.

([5]) راجع كتاب دراسات اسلامية (المسلمون يتعصبون) للإمام الشهيد للاطلاع على أفانين تعذيب المسلمين من قبل الشيوعيين.

([6]) سورة النساء، من الآية: 59.

([7]) سورة البروج، الآيات من 8- 20.

([8]) من كتاب دراسات إسلامية للإمام الشهيد سيد قطب.

([9]) من كتاب دراسات إسلامية للإمام الشهيد سيد قطب.

([10]) من كتاب دراسات إسلامية للإمام الشهيد سيد قطب.

([11]) من كتاب دراسات إسلامية للإمام الشهيد سيد قطب.

([12]) من كتاب دراسات إسلامية للإمام الشهيد سيد قطب.

([13]) من كتاب معالم في الطريق للشهيد سيد قطب

([14]) معالم في الطريق للإمام الشهيد.

([15]) معالم في الطريق للإمام الشهيد.

([16]) من قصيدة قالها الشهيد قبل استشهاده بوقت وجيز.

([17] ) من قصيدة للإمام الشهيد سيد قطب

([18] ) قصيدة للإمام سيد قطب

وسوم: العدد 826