ثمرة اللطف واللين

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

مسرحية من مشهدين

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

ترفع الستارة يضاء المسرح بشكل جيد

يظهر بجانب المسرح رجل كهل جالس يقرأ في صحيفة وقد تدلت نظارة سميكة من فوق عينيه على رأس أنفه

يفتح باب الغرفة يدخل الابن محمود .

محمود : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يتقدم من الكهل ويتناول يده ويقبلها

الأب : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته الله يرضى عليك وينور فلبك بنور الإيمان يا بني

لقد تأخرت اليوم يا محمود أين كنت ؟

محمود : كنت مع زميلي حماد

الأب : حماد !؟ كيف حاله ؟ مر وقت ولم أره !

محمود : آه .. يا أبي يبدو أن حماد يسير في طريق الضياع !

الأب : الضياع ! أعوذ بالله وكيف ذاك ؟

محمود : تعرف يا أبي أن حماد نعم الصديق ونعم الصاحب دين وأخلاق وسيرة حسنة وسلوك جيد وأنا منسجم معه تماما وأعتبره أخا عزيزا

الأب : وهذا عهدي به وبك ماذا حصل ؟

محمود : في الأيام القليلة الماضية تسلط شاب هامل .. متفلت .. لا أخلاق ولا ضمير على حماد بحجة الرفقة والصداقة وانخدع به حماد وسايره بل لازمه وكما تعلم يا أبي " الصاحب ساحب "

الأب :لا حول ولا قوة إلا بالله ألم تنصحه ألم تنبهه ؟

محمود : بلى يا أبي ولكن حمادا أظهر عنادا غير مسبوق وأصر على صحبة هذا الشاب رغم أن أكثر المعارف يحذرون منه ويتجنبونه لسوء أخلاقه ويسمونه " فايروس " بدل فارس وهذا اسمه

الأب : فارس ! فايروس ! فعلا إذا كان الصاحب سيْ الخلق فهو شر من الفايروس

محمود :وقد تأخرت اليوم عند حماد لأبين له وأنصح وأحذر وهو على ما هو يقول : أنا حر أصادق من أشاء

ولا دخل لك بي ! صحيح لا دخل لي به يا أبي ؟

الأب : عهدي بزميلك حماد شاب خلوق وصاحب دين واستقامة ويندر يا بني أن يتوفر شخص على صديق مثله

محمود : هو كذلك يا أبي وما فعلت ما فعلت إلا من حرصي عليه ألا ينجرف مع هذا الهامل فايروس إلى مهاوي لاتحمد عقباها وأنا لا أحب لصديقي إلا ما أحبه لنفسي

الأب : أحسنت هذا هو الصديق الصدوق والخل الوفي إياك أن تتخلى عنه يا بني

محمود : لقد حصلت بيننا مشادة اليوم صرخت عليه ونهرته مؤنبا ولائما ورد علي بفظاظة أيضا وتركته على هذه الحال

الأب : لا .. لا.. يا محمود هذا خطأ يجب ألا تتركه عليك أن تحدثه بلطف ولين وتظهر له المحبة الزائدة لا أن تنّفره منك الصديق يا بني صنو الأخ بل هو في الحقيقة أخ

محمود : ولكني لم أتحمل أن أرى صديقي يوشك أن ينحرف ويضيع وقد علمتني يا أبتي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم : ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل )

الأب : نعم .. نعم يا بني ولكن المطلوب منك في هذه الحالة أن تعطف على صديقك وتبذل المزيد من الرفق واللين والتودد معه لانتشاله من براثن ذلك الفايروس فإن العطف على أخطاء الآخرين والتلطف معهم كفيل بإزالة تلك القشرة الفاسدة التي تغطي حماقاتهم وأخطاءهم وتكشف عن جوهر الإنسان فإذا به يعود سويا صافيا

 محمود : ولكن حماد غدا من النوع المعاند والمشاكس الذي لا يصغي إلى نصيحة

الأب : هذا يعني يا بني أنه أدرك خطأه ولكن كبرياءه تأبى عليه الاعتراف فلا بد من الصبر والحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة فهذا التصرف يعيد إليك صديقك بإذن الله لأن الكلمة الطيبة واللين والموعظة الحسنة هي التي تبدل العداوة محبة كما قال الله (... فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم )

محمود شكرا لك يا أبي لقد نورت قلبي وعقلي وأزلت عن عيني غشاوة الشيطان بنصحك وتوجيهك فجزاك الله خيرا

الأب : لاتنس يا بني أن هذا خلق نتخلق به ونعامل كل الناس على أساسه طالبين الأجر والمثوبة من الله مفهوم ؟

ولا بد لعملنا حينئذ أن يثمر خيرا ومحبة , ولسوف أحكي لك قصة تكون لك نبراسا ولكن بعد أن تحضر لي كأس ماء لأشرب

مجمود : حبا وكرامة يا أبي حبا وكرامة

ينهض ليحضر الماء تسدل الستارة مع موسيقا مناسبة

المشهد الثاني

ترفع الستارة المسرح مضاء الأب في مكانه موسيقا عذبة مرافقة

يدخل محمود وبيده كأس الماء يتقدم بلطف من أبيه

محمود : تفضل الماء يا أبي هنيئا

الأب : سلمت يداك يا بني يشرب الحمد لله رب العالمين

مجمود : يتناول الكأس الفارغ من أبيه ويقترب منه ويجلس ها ه إحك لي القصة كلي آذان صاغية

موسيقا هادئة عذبة ترافق الأب وهو يحكي

الأب : هل سمعت يا محمود بالإمام مالك بن دينار ؟ أنا واثق أنك تعلم شيئا عنه

محمود : نعم .. نعم إنه تلميذ الإمام التابعي الشهير الحسن البصري وخليفته من بعده

الأب : أحسنت يا مجمود كلامك صحيح أريدك أن تتمعن في هذه القصة لتعلم كيف ينظر أهل الله وعباد الله الصالحين

إلى أهل الخطايا والذنوب وكيف يعاملونهم بصدق وإخلاص نية

محمود : نعم يا أبي كلي آذان صاغية تفضل

الأب : كان هذا الإمام العظيم عائدا إلى بيته بعد صلاة العشاء وكان يردد يصوت منخفض :

سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر

محمود : هكذا لا يزال لسان المؤمن رطبا بذكر الله

الأب : أحسنت وهو على هذه الحال سمع صوتا متلعثما ينطلق من قلب العتمة " الله الله الله .. "

طرقات طبلة خفيفة مرافقة للمشهد...

يتقدم الإمام إلى مصدر الصوت عجبا ما هذا رجل مسكين يتخبط في حفرة ماء قذرة يسرع لمساعدته ولكنه يشم شيئا خبيثا ما هذه الرائحة الخبيثة يقترب قليلا كانت تفوح رائحة الخمر من فم هذا المسكين وهو لا يزال يردد :

الله ... الله ... الله

محمود : رجل سكران في حفرة قذرة

ويردد لفظ الجلالة : الله الله الله شيء عجيب ومثير

الأب : نعم يا بني الرجل يتخبظ في الحفرة القذرة وهو مخمور والإمام ينظر إليه ويكاد قلبه يتفطر عليه , يقول : ماذا أفعل لأساعد هذا المسكين ؟

محمود : وما عساه يفعل يا أبي ؟

يقول الإمام : لأذهب إلى البيت البيت قريب ثم يسرع إلى بيته ويعود حاملا بيده ابريق ماء

محمود : إبريق ماء !! ماذا سيفعل هل سيغسله بهذا الإبريق ؟

الأب : لا تتعجل الأمر يا محمود يتقدم الإمام من الرجل ويقول : اصمت كفاك ..كفاك ثم يبدأ بغسل فمه بالماء وهو يتمتم : (حرام أن يخرج لفظ الجلالة من بين هاتين الشفتين المخمورتين ) ماذا كان يقول يا محمود ؟

محمود : حرام أن يخرج لفظ الجلالة من بين هاتين الشفتين المخمورتين . لقد بدأت الإثارة !!

الأب : وبعد أن أنهى الإمام غسل فمه ماذا فعل ؟ ماذا كنت تفعل أنت يا محمودإذا صادفك مثل هذا المشهد ؟

محمود : كنت أشبعته سبا وشتما ودعوت عليه بالويل والثبور ونعته بنعوت شنيعة شتى

الأب : ولكن الإمام مالك لم يفعل شيئا من هذه الأفعال بل رفع يديه إلى السماء ودعا له قائلا :

( اللهم اهده اللهم طهره , اللهم اهده اللهم طهره ) ثم انتشله من الحفرة وذهب إلى بيته لينام

محمود : فعلا عالم رباني جزاه الله خيرا هل انتهت القصة ؟

الأب : يمكنك أن تقول الآن بدأت

محمود : الآن بدأت ؟ وكيف ؟ لقد ازداد شوقي لمعرفة المزيد !

الأب : محمووود لا تكن عجولا عليك أن تتحلى بالصبر الصبر الصبر يا بني

محمود : ولكن القصة مثيرة ومشوقة ونادرة أيضا

الأب : لم يغفل الإمام عن ورده ودعائه قبل النوم ثم استغرق في سبات عميق وهو في حلاوة النوم وعز الاستغراق

انتبه فجأة لصوت هاتف من بعيد _ طرقات طبلة مرافقة ومعبرة عن المشهد _

يا مالك طهرت فمه لأجلنا فطهرنا قلبه لأجلك ---- يا مالك طهرت فمه لأجلنا فطهرنا قلبه لأجلك

محمود: الله أكبر ألله أكبر الله أكبر ثم ماذا ؟

الأب : نهض الإمام من النوم مدهوشا وهو يردد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويتلو " قل أعوذ برب الفلق _ قل أعوذ برب الناس _ فلما هدأت نفسه عاد إلى النوم من جديد

محمود : وماذا بعد ؟ هل استمر في نومه ؟

الأب : وما أن استغرق في نومه حتى عاد الهاتف من جديد !

( يا مالك طهرت فمه من أجلنا فطهرنا قلبه من أجلك )

نهض مالك وهو يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتلا بضع آيات من القرآن وعاد إلى نومه , وبعد برهة وهو مستغرق في نومه عاد الهاتف من جديد يناديه للمرة الثالثة حينئذ قام وتوضأ ولبس ثيابه وانطلق للمسجد لصلاة ا لفجر وهو لا يزال مـخوذا بهذا النداء ...

محمود : إنه أمر كالخيال شيء لا يصدق هل حدث بعد ذلك شيء يا ابي ؟

الأب : نعم يا محمود فما أن انتهى الإمام من صلاة الفجر وتوابعها وهم بمغادرة المسجد حتى سمع صوت بكاء ونحيب

ينطلق من جانب المسجد اقترب الإمام من صاحب الصوت وسأله : ما بك يا أخي لم تبكي !؟

فأجابه الصوت : يا مالك لم تسأل ؟ يا مالك إن الذي هداني أخبرك بحالي يا مالك إن الذي هداني أخبرك بحالي !!!

محمود : سبحان الله ... سبحان الله ... سبحان الله الله أكبر ... الله أكبر ... وما زال يرددها ويبكي

صوت موسيقا معبرة تسدل الستارة بهدوء وتخف الأضواء.