حديث اللحظات الأخيرة

د. وليد قصاب

(مسرحية من فصل واحد)

المشهد:

"غرفة في بيت عربي قديم. الزوج رجل عجوز، يعاني من مرض عضال، وهو مسجى على السرير في بيته، إلى جانبه زوجته، تعطيه الدواء، وتحاول أن تخفف عنه..".

الزوجة: أنت اليوم أحسن حالاً.

الزوج: إنها لحظات الصحو الأخيرة.

الزوجة "تخفي تأثرها" لا تقل هذا.. إن الله هو الشافي والمعافي..

الزوج: لا إله إلا الله... كلُّ شيء هالك إلا وجهه..

الزوجة: لماذا يخلو حديثك دائما من الأمل؟

الزوج: الأمل في الله دائماً.

الزوجة "مغيِّرة مجرى الحديث، وكأنها تحادث نفسها": تأخروا..

"تقوم من جانب زوجها. تنظر من النافذة إلى الطريق، تبدو كأنها منتظرة أحداً".

الزوج "بصوت واهن": تنتظرينهم؟

الزوجة: اتصلتُ بهم، وقالوا: إنهم لن يتأخروا..

الزوج: ربما..

الزوجة: بل قالوا لي: أنهم آتون..

الزوج "وقد ازداد صوته وهناً": إنهم دائماً يقولون ذلك.

الزوجة: في هذه المرة أكدت عليهم.. وأكَّدوا أنهم آتون..

الزوج: أنت دائماً تؤكدين عليهم.. وهم في كل مرة يؤكدون أنهم آتون.. ولكنهم نادراً ما يأتون.. ظروفهم صعبة جداً..

الزوجة "وقد أفلت منها الكلام، حتى كأنها نسيت وجود زوجها": الوضع مختلف في هذه المرة.

الزوج "كالمخاطب نفسه": حقاً.. إنه مختلف.

الزوجة "مستدركة": قصدت أنهم سيأتون.

الزوج: صدقت.. الوضع مختلف هذه المرة.. ومع ذلك فقد لا تسعفهم الظروف على المجيء.

الزوجة: مشاغلهم كثيرة.. والمطالب أكثر..

الزوج: صدقت.. إنهم كذلك منذ زمن بعيد..

الزوجة "وهي ما تزال تنظر من النافذة": ولكنه... لا ينبغي أن يشغلهم شيء..

الزوج "مقاطعاً": هذه المرة خاصة؟..

الزوجة: ماذا تقصد؟ إني لم أعن شيئاً..

الزوج: وأنا كذلك.. ولكن هذه المرة - بالنسبة إليهم- مثل غيرها.. نحن دائمو الإزعاج لهم..

الزوجة "وهي ما تزال عند النافذة": ينبغي أن يأتوا..

الزوج: معذورون.. أصبحت مطالب الحياة جبلاً فوق الظهور..

الزوجة: ولكن الواجبات هي الأهم..

الزوج: الحياة طاحونة... والناس يدورون فيها كالرحى.

الزوجة: تربوا على معرفة الواجبات.. وألا يشغلهم عنها أمر مهما عظم..

الزوج: هذا الزمان رباهم على أشياء أخرى..

الزوجة: غير التي ربيناهم عليها؟

الزوج: تغيّر كل شيء.. تستجد في هذه الأيام مفاهيم لم تكن معروفة في زماننا.

الزوجة "كالحالمة": زماننا؟

الزوج: "يغمض عينيه كالحالم كذلك": هل تذكرين زماننا؟

الزوجة: "بصوت معبر": كان زمانا أخضر.. وهذا زمان أغبر..

الزوج: لكل زمان خضرته.. وعلى كل جيل أن يعيش زمانه.. إنها سنة الكون..

الزوجة: ولكن هنالك أمور لا تتغير.. لا يجوز أن يتأخروا.. لا عذر لهم..

الزوج "يفتح عينيه، وينظر إليها وهي ما تزال عند النافذة تنظر إلى الطريق": دعي الخلق لرب الخلق.. وتعالي نتبادل بعضاً من حديث زماننا.. فهو أزهى وأشهى..

"تنتابه نوبة حادة من السعال"

الزوجة: سلامتك "تترك مكانها عند النافذة، وتسرع نحوه، تجلس على طرف سريره، تربّت ظهره" آن أوان الدواء..

الزوج "بصوت واهن يقطعه السعال": دعي الأمر لرب الأمر.. لم يعد يجدي الدواء..

الزوجة: لا تقل هذا الكلام "تتناوَل علبة دواء من على طاولة قريبة، وتقوم لإحضار كوب من الماء".

الزوج "وهو يغالب نوبة السعال": آه.. كم أتعبتك يا امرأة.. آن أوان أن أريحك..

الزوجة "تضع في فمه حبة الدواء، وتقرب كأس الماء من فمه": بالشفاء والعافية..

الزوج: قولي: بالستر وحسن العاقبة..

الزوجة "وهي تغالب تأثرها": الأمل في الله كبير..

الزوج: لا إله إلا الله.. كل نفس ذائقة الموت. "يغمض عينيه"

الزوجة "واجمة": ما الذي ذكرك بالموت الآن؟

الزوج "مغمض العينين": إنه من كبريات الحقائق اليقينية..

الزوجة: استرح قليلاً.. لقد أتعبك الكلام.. "بصوت خافت لا يكاد يسمع": سأتصل بهم مرة أخرى..

"تتجه إلى الهاتف الموجود على طاولة في زاوية الغرفة. تتصل يسمع رنين الهاتف، ولا أحد يرد. تقول كالمحادثة نفسها":

لعلهم قد غادروا البيت وهم في الطريق إلينا..

الزوج "يفتح عينيه": دعكِ منهم.. اليوم يوم الجمعة..

الزوجة: ماذا تعني؟

الزوج: سيخرجون مع الأولاد في النزهة المعتادة..

الزوجة: هنالك ما هو أهم..

الزوج: قلت لك: تغيرت أولويات الناس في هذا الزمان..

الزوجة: إنهم..

الزوج "مقاطعاً": إنهم مثل الناس..

الزوجة "قلقة": ولكنهم سيأتون.. لا أحد في البيت.. الهاتف لا يرد.. أحسب أنهم في الطريق إلينا..

الزوج: ولماذا تحسبين؟ لماذا تشغلين بالك بهم؟..

تعالي إلى جانبي نتجاذب حديث اللحظات الأخيرة..

الزوجة "بتأثر عميق": أرجوك.. لا تقل هذا..

الزوج: سيحزنك فراقي؟

الزوجة "تغالب دموعها": لن أستطِيع الحياة من دونك..

الزوج: ولكنْ آن أوان ذلك.. لكل شيء نهاية..

الزوجة "تغطي وجهها بكفيها لتخفي دموعها التي بدأت تنساب": أرجوك.. استرح واهدأ.. أنت متعب جداً..

الزوج "وهو يمد يده ليأخذ يدها": كنت زوجة رائعة.. تحملت مني ما لا يحتمل..

الزوجة: بل أنت الذي كنت رائعاً.. كنت زوجاً مثالياً..

الزوج: خمسون سنة ونحن زوجان.. أليس كذلك؟

الزوجة: إحدى وخمسون..

الزوج: مرت كحلم النائم..

الزوجة: ما كان أروعه من حلم!..

الزوج: عشنا متحابين..

الزوجة: جداً..

الزوج: أتذكرين كيف التقينا وتعارفنا؟

الزوجة: لم أنس ذلك قط.. منقوش في ذاكرتي نقش النحت على الحجر..

الزوج: كنت امرأة صبوراً.. كم قصرت معك أيتها الحبيبة! لم أستطع يوماً أن أوفر لك كل ما تريدين.. كانت العين بصيرة واليد قصيرة.. أنت تسامحين، أليس كذلك؟!

الزوجة "وقد بللت دموعها وجهها": بل أنت الذي أرجو أن تسامح.. ما كنت زوجة على مستوى أحلامك.. أغضبتك كثيراً، ولكنك كنت دائماً تتحملني..

الزوج: لا تخلو حياة من مشكلات.. ولكن مشكلاتنا كانت تنقشع كسحابة صيف..

الزوجة: كنت دائماً كبيراً.. أحسَست دائماً أني منك كالسفح من الجبل..

الزوج: بل كنتِ زهرة البيت وريحانته..

"يسمع طرق على الباب، تسرع الزوجة لفتح الباب".

الزوجة "بابتهاج وسرور": جاؤوا.. أخيراً جاؤوا..

"تفتح الزوجة الباب. يدور عنده حوار خافت".

الزوج "بصوت واهن مختنق": جيراننا.. أليس كذلك؟

الزوجة "بخيبة": الجيران.. يقولون: إن الكهرباء مقطوعة عندهم.. ويسألون إن كانت كذلك عندنا؟

الزوج: ستنقطع بعد قليل..

الزوجة "شاردة": ماذا قلت؟

الزوج: لا شيء..

الزوجة "تعود إلى النافذة وتنظر إلى الطريق. وكالمخاطبة نفسها": ظننت أنهم هم..

الزوج "وقد عادت إليه نوبة سعال حادة": قلت لك: إنه يوم جمعة..

"يحتبس نفسه، ويختنق صوته".

الزوجة "حائرة": إنه متعب جداً.. كأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة.. ما الذي أخرهم؟ لا بد أن يأتوا.. سأتصل على جوال أحدهم..

"تغيب الزوجة قليلاً في إحدى الغرف. والضوء مسلط على الزوج الذي بدا هادئاً تماماً".

الزوجة "يسمع صوتها من الداخل، وهي تتحدث في الجوال": لا بد أن تأتوا بسرعة.. أرجوكم..

"تعود إلى الغرفة التي فيها الزوج" إنهم آتون..

الزوج: لا يرد..

الزوجة "تقترب من سرير الزوج": ألم أقل لك إنهم آتون؟..

الزوج: لا يرد..

الزوجة "تنحني فوقه، وقد مال على جنبه الأيمن بلا حراك": يا إلهي.. "تحتضنه وتنخرط في البكاء"

- ستار -