هلك المتنطعون

الأديب الكبير الأستاذ: علي أحمد باكثير

"في بيت سلمان الفارسي الصحابي الجليل، حجرة صغيرة متواضعة ليس بها من الرياض غير القليل، ولكن يظهر عليها الترتيب والتنسيق، أريكة صغيرة واطئة تكاد تلامس الأرض"

ترى أميمة زوجة سلمان وهى تكنس الحجرة ولا تكاد تفرغ من ذلك حتى تسمع قرعاً على الباب

أميمة: من؟

صوت: أنا أم الدرداء.

أميمة: "تفتح الباب" أهلاً وسهلاً. مرحبا بك يا أم الدرداء.

أم الدرداء: أظنك كنت تكنسين. أتمي عملك يا أم عبدالله.

أميمة: قد فرغت من الكنس يا أم الدرداء. اجلسي أنت على الرحب والسعة "تجلسان على الأريكة"

أم الدرداء: كيف حالك يا أم عبدالله وكيف حال سلمان زوجك؟

أميمة: بنعمة الله وعافيته. وكيف حال أبي الدرداء لعله بخير.

أم الدرداء: تسألينني عن أبي الدرداء. هو كحاله يا أختاه. بخير.

أميمة: ما خطبك؟ أليس كما تحبين؟

أم الدرداء: بلى. كما أحب وكما يحب لنفسه

أميمة: كما يحب لنفسه وليس كما تحبين!

أم الدرداء: استغفر الله يا أختي لم أقل ذلك

أميمة: أردت ذلك ولم تقوليه

أم الدرداء: كلا لست أشكو من أبى الدرداء أي شيء

أميمة: بل في نفسك شيء تكتمينه عنى. أنت لست راضية عن زوجك

أم الدرداء: ويحك يا أم عبدالله من أين جاءك هذا الظن؟

أميمة: من لحن قولك يا خيرة

أم الدرداء: لتطب نفسك يا أميمة فإني راضية راضية

أميمة: فما بالك على هذا الهيئة؟

أم الدرداء: ماذا تنكرين من هيئتي؟

أميمة: شعرك أشعث غير مدهون ولا مرجل

أم الدرداء: كنت أرفو اليوم قميص أبى الدرداء فشغلني ذلك عن إصلاح شعري

أميمة: ما أحسبه عرف الدهن منذ أيام. إن لم يكن عندك دهن فسأعطيك شيئاً من عندي

أم الدرداء: بل عندي الدهن ولله الحمد. وعندي المشط كذلك. سأدهن شعري وأرجله لك حين أزورك يوماً آخر

أميمة: لى أنا أم لأبى الدرداء؟

أم الدرداء: لك أنت أولاً ثم لأبى الدرداء

أميمة: بل لأبى الدرداء أولاً ثم لي

أم الدرداء: لا مشاحة يا أميمة.. كما تشائين

أميمة: "لا تريد أن تستسلم للجواب الذي تخلصت به أم الدرداء" وهذا الثوب؟

أم الدرداء: ما باله؟

أميمة: لا يعجبني أن أراه عليك فما أنت بعانس ولا أيم

أم الدرداء: بالله يا أميمة دعيني من هذا. أنا جئت لأئتنس بك لا لتنقدي ثوبي وشعري

أميمة: يا خيرة يا بنت أبى حدود لا ينبغي لك أن تنسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما آخى بين المهاجرين والأنصار قد آخي بين زوجي وزوجك

أم الدرداء: هذا أمر لا ينسى أبدا

أميمة: فسلمان الفارسي وأبو الدرداء الخزرجى شيء واحد وأنا وأنت شيء واحد

أم الدرداء: هذا حق

أميمة: فما ينبغي لى أن ألبس ثوباً خيرا من ثوبك، ولا أن أصلح من شعري ما لا تصلحين من شعرك

أم الدرداء: لا عليك منى في هذا الشأن يا أميمة، فما عندي ميل إلى التزين والتجمل مثلك

أميمة: أما والله لقد كنت فيما مضى من أملح نساء الأنصار، وأجملهن شعرا، وأفضلهن زينة وتطرية

أم الدرداء: ذاك عهد مضى يا أم عبدالله وقد اختلف الحال اليوم

أميمة: فيم يا أم الدرداء؟

أم الدرداء: كان أبو الدرداء تاجراً من قبل، فأصبح اليوم وقد لزم العباد وترك التجارة

أميمة: ما كان أبو الدرداء بموفق في ذلك

أم الدرداء: إنه يزعم أنهما لا يجتمعان. العبادة والتجارة

أميمة: ماذا يمنع؟ هذا سلمان ما زال حتى اليوم ينسج الخوص، ويأكل من كسب يده، ويرى ذلك من أفضل العمل.

أم الدرداء: يا أم عبدالله ألا تعلمين أن زوجك شيء آخر؟ إنه رجل لا يشغله شيء عن شيء

أميمة: لا ينبغي لك يا أم الدرداء أن تحذي حذو زوجك فتنسى ما ينبغي للمرأة المتزوجة من زينة.

أم الدرداء: لمن ينبغي على المرأة المتزوجة أن تتزين؟ أليس لزوجها؟

أميمة: بلى

أم الدرداء: فزوجي أصبح لا يعنيه اليوم من زينتي شيء. لقد صار سواء عنده اليوم: أتزين أو لا أتزين، وأن أتكحل أو لا أتكحل، وأن أصلح شعري أو لا أصلحه، فلمن تريدين أن أتزين؟ للشيطان؟

أميمة: معاذ الله يا أم الدرداء كيف تقولين هذا؟

أم الدرداء: ماذا اصنع لك؟ أبيت ألا أن تحاوريني حتى أعلنت لك

أميمة: نعم ما فعلت يا خيرة. قد كان ينبغي عليك أن تصارحيني بهذا الذي تجدين في نفسك من أول الأمر

أم الدرداء: ما خير ذلك يا أختي ألا أن ألقى همي على همك

أميمة: لعلى أستطيع أن أصنع لك شيئاً

أم الدرداء: ماذا بوسعك أن تصنعي لي؟ تهدين لي ثوباً آخر من ثيابك؟

أميمة: إذا شئت يا أم الدرداء فإن عندي ما تحبين

أم الدرداء: كلا يا أم عبدالله. احتفظي بثوبك خيرا لك. أتدرين ماذا صنع زوجي بذلك الثوب الذي أهديته إلى؟

أميمة: ماذا صنع به؟

أم الدرداء: ما أن رآه ذات يوم حتى أمرني أن أخلعه: وأتصدق به على إحدى فقيرات أهله

أميمة: غفر الله لأبى الدرداء. والله لأكملن سلمان في شأنه لينصحه

أم الدرداء: كلا. إياك أن تفعلي يا أم عبدالله

أميمة: أى بأس في ذلك؟

أم الدرداء: هذا سر بيني وبين زوجي، لا ينبغي أن يعلم أنى بحت به لأحد

أميمة: لن يعلم زوجك شيئاً. إن سلمان كما تعلمين لكيس لبق

أم الدرداء: كلا يا أختي. إني بعد لاستحى من بعلك أكثر مما استحى من بعلي

أميمة: سلمان أخ لزوجك فهو بمنزلة أخيك

أم الدرداء: حتى أخي ابن أبي وأمي استحى منه في مثل هذا الشأن

أميمة: فأعلمي إذن أن سلمان قد عرف هذا السر الذي تكتمين

أم الدرداء: ويلك ممن عرفه؟

أميمة: منك أنت

أم الدرداء: ماذا تقولين؟

أميمة: إنه زاركم ذات يوم فأنكر هيئتك فسألك فقلت له: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا؟

أم الدرداء: يا هنتاه. حقا قلت له ذلك، ولكنى ما قصدت هذا المعنى، وإنما قلت ما قلت اعتذاراً له، كراهية أن يكلف نفسه فيهدى لنا ثوباً من عنده

أميمة: مهما يكن من قصدك فقد فطن سلمان لحقيقة ما بك وأنه لكيس فطين، إني والله لربما أكتم عنه الشيء فيكشفه لي كأنما يقرأ من كتاب

أم الدرداء: واحياءاه ! واخجلتاه!

أميمة: هوني عليك فإن هو إلا أخ أمين.

***

"في بيت أبى الدرداء. حجرة تشبه الحجرة السابقة إلا أنها أكثر تواضعاً منها"

أبو الدرداء: "يستقبل سلمان الفارسي" مرحبا بك يا أبا عبدالله يا سباق فارس!

سلمان: "فرحا" سابق فارس! بأبي هو وأمي إذا لقيني بذلك!

أبو الدرداء: صلى الله عليه وسلم

سلمان: لقد حضرت أنا وأهلي يا أبا الدرداء

أبو الدرداء: ومرحبا بأهلك يا أبا الدرداء

سلمان: سنتغدى ونتعشى عندكم

أبو الدرداء: على الرحب والسعة يا أخي. أين هي امرأتك؟

سلمان: قد سبقتني إليكم. داخل الدار عند أهلك

أبو الدرداء: عجبا والله ما علمت

سلمان: وأنى لك أن تعلم وأنت مشغول يومك كله عن أهله؟ وعسى أن تكون مشغولاً عنهم ليلك كله كذلك!

أبو الدرداء: ويل بنت أبى حدرد. كان عليها أن تخبرني "ينادى" أم الدرداء يا أم الدرداء

أم الدرداء "صوتها" لبيك يا أبا الدرداء

أبو الدرداء: هذا سلمان أخي عندي

أم الدرداء: مرحبا به وأهلا. وهذه امرأة أخيك سلمان عندي

أبو الدرداء: مرحبا بها وأهلا. اصنعي لهما شيئاً يا خيرة. فإنهما سيتغديان عندنا

أم الدرداء: وسيتعشيان أيضاً

أبو الدرداء: أجل أجل.. هيئي لهما ما عندك

أم الدرداء: قد هيأت كل شيء

أبو الدرداء: أحسنت يا خيرة. أحسن الله إليك

أبو الدرداء: هلم يا أبا عبدالله فها قد أحضرت أم الدرداء الغداء

سلمان: "ينظر إلى الصفحة أمامه على الخوان" ما شاء الله. لقد عنيت بنا أم الدرداء فهيأت لنا هذا الطعام الطيب

أبو الدرداء: كل يا أخي هنيئًا مريئا

سلمان، وأنت ألا تجلس فتأكل

أبو الدرداء: اعذرني يا سلمان فإني صائم

سلمان: صائم؟!. أجئ أنا من بيتي لأكل عندك فتصوم؟!

أبو الدرداء: قد نويت الصوم يا أخي قبل أن تحضر

سلمان: فأفطر الآن إذ حضرت

أبو الدرداء: ألا تدعني يا سلمان أتم صومي؟ وسأجلس معك أحادثك على الطعام

سلمان: أيصح هذا في شرعتكم يا معشر العرب؟

أبو الدرداء: بئس ما تقول يا أخي. إن الله قد أكرمنا بالإسلام فأغنانا عن شرعة العرب

سلمان: وبئس ما تفعل أنت يا عويمر. فإن الإسلام لا يرضى ذلك. وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. والله ما أنا بآكل حتى تأكل.

أبو الدرداء: فسآكل معك إذن يا سلمان. باسم الله

سلمان: باسم الله "يأكل الاثنان من الصفحة"

"أم الدرداء تتزين وتساعدها في ذلك زوجة سلمان"

أم الدرداء: أنظري يا أختي. لقد جاء زوجك من صلاة العشاء ولا يجيء أبو الدرداء

أميمة: لعله آت في الأثر

أم الدرداء: والله ما هذا بحسن. يكون عنده الضيف فلا يسبق الضيف إلى البيت

أميمة: أتركي ذلك لسلمان فإنه كفيل بتأديبه

أم الدرداء: صدقت لقد أدبه اليوم فأحسن تأديبه

أميمة: هيا أكملي الآن زينتك

أم الدرداء: قد أكملتها.. ماذا تريدن بعد؟

أميمة : هذا الطبيب لم تسميه بعد . ضمخي به رأسك وما بين كتفيك

سلمان: "يدخل عليه أبو الدرداء من الخارج" معذرة يا أبا الدرداء أن سبقتك إلى بيتك

أبو الدرداء: بل اعذرني أنا يا أبا عبدالله إذ تأخرت عنك في المسجد. البيت بيتك على كل حال

سلمان: غفر الله لأم الدرداء. لقد أكثرت لنا في العشاء حتى أسرع إلى النعاس

أبو الدرداء: إن كنت تريد النوم فأدخل إلى أهلك. فقد أعددنا لكما الحجرة الداخلية

سلمان: وأنت يا أخي ألا تأوي إلى أهلك؟

أبو الدرداء: ليس الآن. سأبقى هنا قليلاً لأقوم بعض الليل

سلمان: ويلك كيف يطيب لي ولأهلي النوم في بيتك وأنت قائم تتهجد وامرأتك ساهرة تنتظر؟

أبو الدرداء: عجبا لك اليوم يا سلمان ما خطبك؟

سلمان: إن كنت تكره أن نبيت عندك فدعنا ننصرف إلى بيتنا

أبو الدرداء: معاذ الله يا أخي. ادخل إلى أهلك وسأدخل إلى أهلي

سلمان: بل أدخل أنت أولاً وسأدخل بعدك

أبو الدرداء: سمعا يا أبا عبدالله

سلمان: وإياك أن تقوم حتى أكون أنا الذي أوقظك من آخر الليل فنقوم معا ونصلى معا

أبو الدرداء: ( في غيظ مكتوم ) سمعاً يا سلمان

"بعد بضعة أيام في نفس المكان"

أبو الدرداء: ما هذا الذي فعلت يا سلمان؟ كيف تقيم في بيتي وتحضر طعاماً من بيتك؟

سلمان: قد صارت لنا ثلاثة أيام في بيتك فلا ينبغي أن نبقى في ضيافتك

أبو الدرداء: كلا يا سلمان أما أن تقيما في ضيافتنا أو تنصرفا إلى بيتكما

سلمان: فهلم أنت وأهلك فأقيما في بيتنا بضعة أيام

أبو الدرداء: ويحك ما يدعونا إلى ذلك؟

سلمان: لنتعاون على البر والتقوى. نذهب إلى المسجد معا، ونعود إلى أهلنا معا، ونقوم آخر الليل معا

أبو الدرداء: "محتدا" يا سلمان قد صبرت لك طويلا. وقد آن لي أن أصارحك أنك لم تعنى على البر. بل شغلتني عنه. ما عدت أستطيع أن أصوم ولا أقوم منذ أقمتما عندنا أنت وأهلك

سلمان: وقد آن لي أن أيضاً أن أصارحك. إن كنت تبغي التقرب إلى الله بما تفعل فإن الله تعالى لا يتقرب إليك بإضاعة الحقوق التي عليك

أبو الدرداء: أي حقوق أضعت؟

سلمان: إن لربك عليك حقا, وإن لبدنك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا. فأعط كل ذى حق حقه.

أبو الدرداء: هذا حق. وما أراني إلا معطيا كل ذي حق حقه

سلمان: بل أضعت حق بدنك وحق أهلك

أبو الدرداء: أفلهذا أقمت عندي هذه الأيام؟

سلمان: أجل لأحملك على البر، وأسير بك في الجادة

أبو الدرداء: هذا رأيك يا سلمان وأنا أرى خلاف رأيك

سلمان: هلم إذن نحتكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لنرى أينا أهدى سبيلا

أبو الدرداء: أنصفت يا سلمان فهلم.

"في بيت سلمان.. أم الدرداء تزور أميمة وهى في هندام حسن"

أميمة: أهلا أهلا بك يا أم الدرداء. أراك اليوم على خير حال

أم الدرداء: جزاك الله صالحة يا أختاه، وجزى سلمان خيرًا. لقد صار أبو الدرداء خلقا آخر

أميمة: حديث النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أصلحه

أم الدرداء: أجل.. أصبح زوجي لا يكف عن ترديده في كل حين

أميمة: هلك المتنطعون.

أم الدرداء: لا تختصري الحديث يا أم عبدالله. لقد قال صلى الله عليه وسلم لأبى الدرداء لما احتكم هو وسلمان إليه: لقد صدق سلمان. سلمان أفقه منك يا أبا الدرداء. هلك المتنطعون. هلك المتنطعون".