الهلال الخصيب

بقلم الأديب الكبير الأستاذ: علي أحمد باكثير

المنظر: مكتب وزير الخارجية البريطانية حيث يرى المستر إيدن وعنده الجنرال روبرتسون والمستر شنويل.

روبرتسون: ما زلت مصراً على أن جنودنا في منطقة القنال يجب أن يكونوا مدار اهتمامنا الأول. فحالتهم سيئة للغاية.

شنويل: لا تبالغ يا جنرال روبرتسون.

روبرتسون: كلا ليس فيما قلت أي مبالغة. إنهم حقاً في حالة تدعو إلى الرثاء إنهم يهربون من القنال. هذه هي الحقيقة ولن ينفعنا شيئاً أن ندّعي أن المصريين هم الذين يقومون باختطافهم.

شنويل: ماذا يشكو هؤلاء والدولة تصرف لهم ما يزيد على حاجتهم من الأطعمة والخمور والسجائر من كل نوع.

روبرتسون: قد صار معظم غذائهم من الأطعمة المحفوظة في العلب.

شنويل: يجب أن تذكر يا جنرال روبرتسون أن الناس في إسرائيل لا يجدون ما يأكلونه بتاتا. وأن الأزمة الاقتصادية

روبرتسون: أن لم أقل شيئاً من ذلك يا مستر شنويل ولكني أعتقد أن بريطانيا ينبغي أن تهتم بالحالة السيئة التي عليها جنودنا في القنال أكثر من اهتمامها بالأزمة في إسرائيل.

شنويل: بل الأزمة في إسرائيل أهم لأنها تهدد كيانها بالانهيار.

روبرتسون: ربما يكون هذا القول صحيحاً لو كان اجتماعنا هذا لعلاج الحالة في إسرائيل.

شنويل: فاعلم إذن أن ذلك هو الغرض الأول من اجتماعنا هذا.

روبرتسون: ماذا تقول يا مستر شنويل؟.

شنويل: ما بالك صامتاً يا مستر إيدن؟ ألا تسرح للجنرال الحقيقة؟

إيدن: ماذا أقول له؟

شنويل: قل له إني أنا الذي اقترحت على المستر تشرشل فكرة عقد هذا الاجتماع.

روبرتسون: هذا صاحب الاقتراح نفسه قد أعلن أنه في غنى عني.

شنويل: كلا أنا الذي اقترحت على المستر تشرشل أن يستدعيك فكيف استغنى عنك.

روبرتسون: علام إذن تناقض كلامي؟.

شنويل: أنت الذي تناقض كلامي.

إيدن: رويدكما.. علام هذا الشجار؟ ليس بينكما في الواقع أي خلاف جوهري ينبغي على بريطانيا أن تهتم بالأمرين معاً: بحالة جنودنا في القنال وبالأزمة الخانقة في إسرائيل.

روبرتسون: ولكن أيهما أهم؟.

إيدن: كلاهما مهم.

شنويل: أنا مصّر على أن الأزمة في

إيدن: أوه.. يجب أن أضع حدا أن إسرائيل تصدر إليهم أحسن ما عندها من المنتجات! لهذا الجدال الفارغ. لقد قلت لكما أن كلا الأمرين مهم فلنقف عند هذا الحد ولننتقل إلى ما هو أهم من هذين الأمرين معاً.

شنويل: ما هو؟

إيدن: كيف السبيل إلى بقاء جنودنا في القنال أولاً. وإلى حل الأزمة في إسرائيل ثانياً.

شنويل: عفواً يا مستر إيدن: حل الأزمة في إسرائيل أولاً!

إيدن: حسناً.. حل الأزمة في إسرائيل أولاً وبقاء جنودنا في القنال ثانياً.

شنويل: الآن قلت الصواب.

روبرتسون: لكن كيف...

إيدن: من فضلك يا جنرال روبرتسون لا ترجع بنا إلى الجدل ثانية.

شنويل: لا حل للأزمة في إسرائيل عندي إلا بعقد الصلح بينها وبين الدول العربية.

إيدن: ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟

شنويل: نرغم العرب على ذلك أن أمكن.

إيدن: هل ذلك في الإمكان يا جنرال روبرتسون؟.

روبرتسون: كلا قد أصبح ذلك مستحيلاً بعد قيام العهد الجديد في مصر وقيام العهد الجديد في سوريا.

شنويل: يجب العمل على إسقاط هاتين الحكومتين!

إيدن: عجباً لك يا مستر شنويل. فلم تعلم المحاولات المختلفة التي قمنا بها في هذا السبيل فباءت جميعاً بالفشل؟.

شنويل: بلى أعلم بالمحاولات التي قمتم بها لإسقاط حكومة الثورة في مصر ولكنكم لم تقدموا بمثلها لإسقاط الحكومة الحالية في سوريا.

إيدن: ذلك لأن مصر عندنا هي العقبة الكبرى في سبيلنا فإذا ذللناها هان علينا بعدها كل شيء.

شنويل: هذا حق ولكن من الحكمة أحياناً أن نجاوز ما لا نستطيع إلى ما نستطيع.

إيدن: ماذا تعني؟.

شنويل: يجب أن نعمل على إسقاط حكومة الشيشكلي اولاً.

إيدن: ماذا ترى يا جنرال روبرتسون.

روبرتسون: أرى أن المستر شنويل على حق. يجب أن نعمل منذ الآن على عزل مصر عزلاً تاماً عن سائر الدول العربية وبذلك يتسنى لنا قهرها وإرغامها على ما نريد.

إيدن: وما صلة ذلك بإسقاط حكومة الشيشكلي؟.

روبرتسون: إذا تخلصنا من حكومة الشيشكلي فربما يتسنى لنا أن نحقق مشروعنا القديم. مشروع الهلال الخصيب الذي يوحد العراق والأردن وسوريا ولبنان تحت تاج واحد يخضع لسيطرتنا.

شنويل: وبعقد الصلح مع إسرائيل!

روبرتسون: لا تقاطعني يا مستر شنويل!

شنويل: معذرة.. ما أردت مقاطعتك بل تأييدك فيما تقول. أليس من المحتمل حينئذ أن تعقد تلك الدولة الموحدة الصلح مع إسرائيل؟

روبرتسون: ليس ذلك محتملاً فحسب بل هو أمر مؤكد.

شنويل: "يهتف فرحاً" برافو يا جنرال روبرتسون! إنك لتذكرني الآن بالملك داود في جمعه بين المحكمة والمهارة في الحرب. أكمل حديثك أكمل.

إيدن: والمملكة العربية السعودية يا جنرال روبرتسون؟.

روبرتسون: هذه أمرها بسيط. سنعمل على إحياء العداء القديم بين البيتين الهاشمي والسعودي وسندفع بذلك دولة الهلال الخصيب إلى تهديد المملكة العربية السعودية وحينئذ تضطر هذه إلى الاحتماء بالولايات المتحدة فترغمها الولايات المتحدة على الدخول في مشروع الدفاع المشترك فيتم لنا بذلك عزل مصر عزلاً تاماً ولن تستطيع حينئذ الصمود وحدها.

شنويل: فتعقد الصلح هي أيضاً مع إسرائيل؟

روبرتسون: وتدخل أيضاً في مشروع الدفاع المشترك.

إيدن: وتقبل بقاء جنودنا في منطقة القنال.

شنويل: حقاً لقد رسمنا اليوم خطة رائعة. لقد أنجزنا اليوم أعظم عمل!

إيدن: لا تعجل يا مستر شنويل. لقد اتفقنا الآن على وجوب إسقاط حكومة الشيشكلي. ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟

شنويل: هذا أمر هين.

إيدن: هين؟!

شنويل: إني قد فكرت طويلا  في ذلك واهتديت إلى الطريقة المثلى.

إيدن: ما هي؟

شنويل: سيكون الفضل في ذلك لإسرائيل.

إيدن: كيف؟

شنويل: لما زرت إسرائيل أخيراً لفت نظري وجود جماعة كبيرة من الدروز هناك.

إيدن: وماذا نصنع بهؤلاء؟

روبرتسون: يخيل إلى أنني أدركت ما يرمي إليه المستر شنويل.

شنويل: لا تعجل يا مستر إيدن.

إيدن: أنا أعرف هؤلاء جيداً. من العبث أن نحاول استمالتهم إلى خيانة القومية العربية فذلك أمر مستحيل.

شنويل: دعني أتم حديثي.

إيدن: تفضل.

شنويل: أن لا أجهل أن الدروز متعصبون لقوميتهم العربية ولكن في وسعنا أن نبلغ غرضنا عن طريق الدس والوقيعة.

إيدن: كيف؟

شنويل: سنوعز إلى بعض الدروز الذين في إسرائيل أن يهربوا بعض الأسلحة الحديثة إلى إخوانهم في الجبل بسوريا.

إيدن: وهل تقبل إسرائيل ذلك؟

شنويل: لم لا؟ الأسلحة ستكون منا.

إيدن: ثم ماذا؟

روبرتسون: هل لي يا مستر شنويل أن أتولى بقية الشرح؟

شنويل: كلا.. هذه فكرتي وأنا أولى بشرحها من غيري.

روبرتسون: حسناً.. أكمل.

شنويل: سيكون تهريب الأسلحة من إسرائيل يسيراً بالطبع. إذ لن يمنع هؤلاء المهربين أحد ولن يتهمهم أحد بل سيعتبر ذلك خدمة منهم لإخوانهم العرب ضد إسرائيل.

إيدن: جميل جميل ثم ماذا؟

شنويل: ثم يشيع هؤلاء المهربون بين إخوانهم الدروز هناك أن الشيشكلي يريد بهم سوءاً وأن عليهم أن يستعدوا للطوارئ.

إيدن: لن يصدق الدروز هذا الزعم.

شنويل: لا تعجل يا مستر إيدن. سنلقى بعد ذلك إلى قلم المخابرات السورية بأن جب ل الدروز مقدم على الثورة وأن لديهم أسلحة حديثة هربت إليه من الخارج وأن كثيراً من زعماء الأحزاب المنحلة متواطئون مع هؤلاء الدروز على قلب الحكومة فيبادر الشيشكلي حينئذ إلى اتخاذ إجراءاته الصارمة وعلى الخصوص في جبل الدروز.

إيدن: فيقع التحرش والصدام. برافو يا مستر شنويل!

روبرتسون: وحينئذ ستثور ثائرة الدروز في لبنان وإسرائيل لنصرة إخوانهم السوريين!

شنويل: قد فكرت في هذه النقطة أيضاً يا جنرال روبرتسون. إياك أن تظن أنا فاتتني.

روبرتسون: العجيب أن هذه الفكرة بحذافيرها هي التي دارت في رأسي.

 شنويل: هي في الأصل فكرتي على كل حال. فلا تحاول أن تنسب فضلها إلى نفسك..

إيدن: أوه.. سيان أن تكون فكرتك أو فكرته. المهم أننا اتفقنا عليها وكفى.

شنويل: كلا يا مستر إيدن يجب أن

شنويل: وافقني بن جوريون عليها إذ كنت أزور إسرائيل قبل أن يعتزل هو الوزارة.

"ينهض روبرتسون لينصرف"

إيدن: إلى أين يا جنرال روبرتسون؟

روبرتسون: قد انتهت مهمتي فأذن لي أنصرف.

شنويل: انتظر لحظة يا جنرال روبرتسون. "يخرج من حقيبته ثلاث صور فوتوغرافية فيعطي لكل واحد منهما صورة".

روبرتسون: عجباً هذه صورة الشيشكلي!

إيدن: أجل.. ماذا تريد منا أن نصنع بها يا مستر شنويل؟

شنويل: قد انتهى دور هذا الرجل فهلموا بنا نمزق صورته!

يمزق الثلاثة الصور التي في أيديهم.

أيدن: فكرة رمزية بديعة حقاً!

شنويل: سأريكما الآن شيئاً أبدع من ذلك. "يخرج من حقيبته رسماً كبيراً" انظرا.. هذه صورة رمزية رسمتها أنا بنفسي. تأملاها جيداً. هل تعرفان ماذا ترمز إليه؟

إيدن: هذه صورة العلم التركي ذي الهلال والنجمة!

شنويل: كلا يا مستر إيدن.. تأمل جيداً!

روبرتسون: النجمة هنا مختلفة عن نجمة العلم التركي. هذه نجمة سداسية كنجمة داود.

شنويل: برافو يا جنرال روبرتسون! هذه نجمة داود حقاً... شعار دولة إسرائيل!

إيدن: وما هذا الهلال الذي حولها؟

شنويل: انظر إلى لونه!

إيدن: لونه أخضر طبعاً.

شنويل: نعم أخضر لكن علام يرمز؟

إيدن: إلى من يرمز؟

شنويل: فكر قليلاً يا جنرال روبرتسون لعلك تهتدي إلى الرمز.

روبرتسون: لا وقت عندي للتفكير. أريد الآن أن أتصرف!

إيدن: اشرحه لنا أنت يا مستر شنويل.

شنويل: عجباً لكما.. هذا واضح كالشمس.. هذا هو الهلال الخصيب!

"ستار"

               

مجلة الدعوة في 12 جمادى الآخرة 1373