شيدي يا لندن

شيدي يا لندن

بقلم الأديب الكبير الأستاذ: علي أحمد باكثير

-1-

قصر ريفي بإحدى ضواحي لندن حيث يقضي المستر بيفن وزير الخارجية البريطانية إجازة لمدة أسبوع للراحة والاستجمام ومعه طبيبه الخاص وسكرتيرته –يظهر بيفن واقفاً يحرك قطعاً منجورة من الخشب على منضدة كبيرة وقد جلست سكرتيرته إلى مكتب في الحجرة وهي تتهيأ لكتابة ما يملى عليها.

بيفن: لا لزوم لإصلاح شعرك الآن. أسرعي قبل أن يدخل علينا الطبيب المزعج.

السكرتيرة: إن إصلاح شعري لا يعطلني عن عملي.. أمل يا سيدي وأنا أكتب.

بيفن: لكني لا أستطيع أن أملي شيئاً وأنا أراك مشغولة عني بشعرك.

السكرتيرة: أمرك يا سيدي.

بيفن: أتكتبي.

السكرتيرة: نعم..

بيفن: لا يمكن البدء بمصر لاستعصائهم وتشبثها بوحدة وادي النيل.

السكرتيرة: نعم..

بيفن: أواه من شرود الذهن.

السكرتيرة: هل أكتب هذه الجملة؟

بيفن: لا.. لا تكتبيها.. ماذا كتبت أولاً؟

السكرتيرة: لا يمكن البدء بمصر لاستعصائها وتشبثها بوحدة وادي النيل.

بيفن: اكتبي فلنهملها إلى حين.. ولنبدأ بالعراق... يدخل الطبيب الخاص فتحاول السكرتيرة اخفاء أوراقها.

الطبيب: ماذا يا مستر بيفن؟

بيفن: لاشيء.. لاشيء يا دكتور.. كنت أتلهى بتحريك هذه القطع على سبيل الرياضة.

يشير للسكرتيرة فتخرج

الطبيب: لكني سمعتك تملي على الآنسة لورا.. ألم آمرك بأن تتجنب العمل البتة وتخلد إلى الراحة؟

بيفن: أوه إلى متى انتظر؟ إني لم أفد من استجمامي ولا من علاجك شيئاً فلم يزل ذهني مصاباً بالشرود.

الطبيب: سيزول عنك هذا في خلال يومين إذا اتبعت نصحي بالانقطاع التام عن العمل.

بيفن: لم يبق من إجازتي إلا أربعة أيام فمتى أبدأ بالتفكير في المشروع الذي أخذت الإجازة من أجله؟

الطبيب: سيتم كل شيء على خير ما يرام.. خذ هذه البرشامة.

بيفن: (متأنفاً): لأي شيء هذه؟

الطبيب: للروماتزم..

بيفن: (يبلعها): أمرك يا دكتور رسل.

الطبيب: (يقدم له ملعقة دواء): وخذ هذه أيضاً.

بيفن: وما هذا؟ أليس لهذه الأدوية من آخر؟

الطبيب: هذا للكبد يا سيدي.

بيفن: (متبرماً): دائماً الروماتزم والكبد!

الطبيب: نعم يجب علاجهما يا سيدي.

بيفن: والدماغ.. ألا يجب علاجه؟ أليس علاجه أهم من علاج هذين؟

الطبيب: ليس بدماغك أي خلل يا سيدي.

بيفن: قلت لك مراراً إنني أشكو من شرود الذهن.. شرود الذهن... ألا تفهم.

الطبيب: بلى، ولكن هذا لا علاج له إلا الراحة التامة والإكثار من أكل المخ.

بيفن: لقد أكلت من المخ ما يقرب من زنتي حتى غشيت نفسي منه ولم أر له أي فائدة.

الطبيب: سنرى الفائدة بعد يومين بشرط أن تلزم الراحة التامة (يأخذ بيده ناحية السرير) هيا استرح الآن على سريرك حتى يجيء وقت الغداء.

بيفن: (يضطجع على السرير) قل لهم لا يحضروا لي مخاً اليوم فقد سئمته نفسي.

الطبيب: بل لابد يا سيدي من المخ؟

بيفن: لا أستطيع أن أفهم كيف يستفيد مخي من مخ الحيوان.

الطبيب: لم لا؟ لا فرق بينهما في الواقع.

بيفن: ما تقول؟ أهذا أوان المزاح يا دكتور؟

الطبيب: كلا يا سيدي.. لست بمازح.. ألا تذكر قول أرسطو في تعريف الإنسان أنه حيوان ناطق.

بيفن: (ممتعضاً): دعني من هذه الفلسفة من فضلك. إني أريد طبيباً يعالجني، لا فيلسوفاً يزيد رأسي صداعاً وبلبلة! إن الإمبراطورية بحاجة إلى ما تبقى من دماغي لعلاج مشاكلها... أفهمت؟..

الطبيب: بالطبع يا سيدي.. بالطبع (يهم أن يجمع القطع التي على المنضدة ليرفعها).

بيفن: دع هذه كما هي... ماذا يضيرك من بقائها؟ ليست موضوعة على رأسك!

الطبيب: أردت أن أرفعها من أجلك لا من أجلي.

بيفن: فأبقها في مكانها وخلاك ذم.

الطبيب: سأبعدها حتى لا تراها...

بيفن: لم تمنعني من النظر إليها؟ إن المرض في مخي لا في عيني.

الطبيب: سيشتغل بها مخك فيتعب.

بيفن: أوه! ما أحسبني أستطيع أن أصنع شيئاً وأنت هنا معي!.

-2-

بعد يومين من المشهد السابق

الطبيب: كيف تجد نفسك اليوم يا مستر بيفن؟

بيفن: على قسط كبير من صفاء الذهن.. شكراً لك يا دكتور رسل.. إن الإمبراطورية كلها مدينة لك بهذا الفضل.. لكن إياك أن تمنعني من العمل فما بقي من إجازتي سوى يومين..

الطبيب: افعل ما بدا لك اليوم على شرط أن تأوي إلى فراشك الليلة مبكراً، وأن تستمر في أكل المخ.

بيفن: لم أعد بحاجة إلى من يوصيني بأكل المخ بعد ما رأيت فائدته العظيمة.. لقد صدق أرسطو في قوله أن الإنسان حيوان!

الطبيب: حيوان ناطق يا سيدي..

بيفن: ناطق أو غير ناطق. لقد ثبت عندي الآن بالتجربة الشخصية ألا فرق بينهما على الإطلاق، حقاً أن المخ لدواء عجيب.

الطبيب: لا تنس يا سيدي أن الفضل الأكبر يعود للراحة التامة.

بيفن (يضحك): ما أطيب قلبك يا دكتور رسل.. أتحسبني لزمت الراحة كما نصحت؟

الطبيب: طبعاً.

بيفن: كلا، فقد ظل ذهني يشتغل طوال هذه الأيام بالتفكير في المشروع؛ وبهذه القطع التي تراها على المنضدة. فاستفد من هذه التجربة في فنك... إن الفضل يرجع كله لأكل المخ.

-3-

المستر بيفن واقفاً وحده أمام المنضدة يقلب طرفه في قطع الخشب التي عليها. ثم يدق الجرس فتدخل السكرتيرة:-

بيفن: هل أنت مستعدة الآن للعمل؟..

السكرتيرة: نعم يا سيدي.

بيفن: أقد فرغت من إصلاح شعرك؟.. لا أريد أن تتشاغلي به في وقت العمل.

السكرتيرة: سمعاً يا سيدي لن أتشاغل به..

بيفن: هلمي إذن... "تدنو السكرتيرة من المنضدة" أترين هذه القطع؟..

السكرتيرة: نعم..

بيفن "يشير إلى واحدة منها": ما هذه؟..

السكرتيرة: هذه قطعة خشب!

بيفن "منفعلاً": أوه.. لا تكوني غبية.. ألا تقرأين الكتابة عليها؟.. هذه مصر...

السكرتيرة: أجل يا سيدي.. هذه مصر...

بيفن "يشير إلى القطع واحدة فواحدة": وهذه العراق.. وهذه شرق الأردن، وهاتان سوريا ولبنان... وهذه المملكة العربية السعودية وهكذا.. كل دول الشرق موجودة هنا.. أفهمت؟

السكرتيرة: نعم يا سيدي فهمت...

بيفن: إن الآن سأحاورها في المشروع الذي سأضعه للدفاع المشترك بيننا وبين هذه الدول، فدوني كلامي وكلامها..

السكرتيرة "مستغربة": أدونها!.. كيف أدون كلامها هي لا تنطق؟..

بيفن: سأنطقها أنا بالقول، ألم تقرأي أو تشاهدي رواية تمثيلية؟...

السكرتيرة: بلى.. قرأت كثيراُ تمثيليات برنادشو.

بيفن: فهل تظنين أني لا أقدر أن أصنع مثل ما يصنع ذلك العجوز الأب..؟ هذه القطع هي أشخاص الرواية، وموضوعها مشروع الدفاع المشترك بيننا وبين هذه البلاد... أفهمت؟..

السكرتيرة: نعم يا سيدي.

بيفن: فاقعدي الآن إلى مكتبك ودوني الحوار الذي أمليه عليك.

السكرتيرة: سمعاً يا سيدي تعود إلى مكتبها وتستعد لتكتب.

بيفن (يملي وهي تكتب): أنت يا عاصمة حارثة المجدين. درة.... ألا

تنزلين؟....................

مصر: ألست تؤمنين بأن المصلحة تجمع بيننا حين يجد الجد؟ لم لا تتركينني أنظر لمصلحتي بعيني أنا لا بعينك؟

بريطانيا: إنني أخشى ألا تدركي مصلحتك.

مصر: أنت إذن قليلة الثقة بنفسك وبما تدعين الإيمان به من المصلحة الجامعة.

بريطانيا: إن الخطر الروسي سيبتلعنا جميعاً.

مصر: لا أخشى وأنا في بطن الحوت أن يلتقمه حوت أعظم منه!

بريطانيا: دعيني من هذه الأمثال، واعلمي أن مشروعي الجديد لا يخصك وحدك بل يشمل الدول العربية كلها، فاحذري أن يكون لغيرك فضل السبق فترغمك الأيام على القبول، بعد ما تطير زعامة العرب من يدك!

مصر: إن العرب هم الذي أسندوا إلي هذه الزعامة لمصلحة الجميع على السواء، وهم يعلمون أنني إذا فرطت في حقوقي فقد فرطت في حقوقهم، وحينئذ فقط لا يخشى أن تطير الزعامة من يدي!

بريطانيا: بريطانيا ستعلمين غداً أن غير واحدة من الدول العربية ستقبل مشروعي الجديد، فتبقين وحدك في الميدان.

مصر: قد يتاح لك أن تخدعي إحدى حكومات هذه الشعوب فتقبل مشروعك الناعم القاتل، ولكن ثقي أن شعبها سيعصف بها، ويذرو مشروعك في مهب الرياح وارجوا ألا تشهد بلادي مثل هذه الحكومة المخدوعة!

بيفن: يثور غاضبا ويعمد إلى القطعة التي عليها اسم "مصر" فيضربها بجمع يده، ثم يرمي بها على الأرض..

ويلك أيتها العنيدة الحمقاء! أنا الذي أنطقك بهذه الحجج.. اللوم علينا نحن البريطانيين. علمنا الشعوب مبادئ الحرية فصارت وبالاً علينا!

السكرتيرة (تنظر إليه مرتاعة من مظاهر هياجه وحركاته التشنجية): هل أكتب هذا الكلام يا سيدي

بيفن: كلا يا غبية، لا تكتبي هذا.. هذا كلامي أنا.. هذا كلام المؤلف خارج التمثيلية أليس لي الحق في الكلام عن نفسي؟ أتحسبين برنادشو لا يتكلم في حياته إلا على ألسنة أشخاص مسرحياته؟ أتريدين أن تمسحيني من الوجود وأنا حي بعد؟!..

السكرتيرة "مرتجفة": معذرة يا سيدي.. إنني إنما أستفهمك، ولم أعترض عليك في شيء.

بيفن: غبية! ألا تميزين بين كلامي وكلام أشخاص الرواية.

السكرتيرة: أبحث عن سكرتيرة غيري... لا أستطيع أن أحتمل هذه المعاملة (تنهمر عيناها بالدمع) هذا لا يطاق!

بيفن (يظهر وفي وجهه التأثر): سامحيني يا لورا فإني ما قصدت إيلامك.. (يدنو منها فيربت على كتفها) لا غنى لي عنك يا عزيزتي لورا.. فاغتفري لي هذه الغضبة الحمقاء فما أثارها إلا ما تشدقت به مصر؟

السكرتيرة (تكفكف دمعها): أنت الذي أنطقتها بهذا الحديث فما ذنبي أنا؟

بيفن: أجل لا ذنب لك يا لورا.. ولكن المؤلف الناجح قد ينسى فساعة الخلق الفني أن الكلام الذي نطق بها أشخاصه من تأليفه هو.. وأنت بالطبع يا لورا لا تكرهين لي مثل النجاح!

السكرتيرة (يتبلج وجهها عن بعض الرضا): حسنا.. أتمم إملاءك.

بيفن: الآن بعد ما أطارت مصر صوابي وأفسدت مزاجي؟ لا يا لورا لا أستطيع الآن أن أملي شيئاً.. قومي يا عزيزتي اغسلي وجهك واستريحي.. قولي لي قبل أن أنسى: أين وضعت الكتاب الأزرق؟

السكرتيرة: أتريده الآن يا سيدي؟

بيفن: نعم أود أن أقلب النظر فيه ريثما نستأنف العمل بعد الظهر.

السكرتيرة (تخرج الكتاب الأزرق من أحد الأدراج): ها هو ذا يا سيدي.

بيفن: شكراً.. اذهبي الآن واستريحي.

-4-

الساعة الرابعة بعد الظهر السكرتيرة جالسة إلى مكتبها تدون، والمستر بيفن يملي عليها وهو واقف أمام المنضدة كالمشهد السابق:-

بريطانيا: اسمعن يا دول العرب.. هذه تركيا القوية المستقلة ستقول رأيها في مشروع الدفاع المشترك؟ ألا ترينه ضرورياً لسلامة الشرق الأوسط كله.

تركيا: بلى، وهو حيوي لنا جميعاً وإلا وقعنا في قبضة الدكتاتورية الحمراء التي لا تبقي ولا تذر.

بريطانيا: وأنت يا إيران؟

إيران: لم أقطع بعد برأي في هذه المسألة.

بريطانيا: ألم تتخلصي من قوام السلطنة لتردده في قبول مثل هذا المشروع الذي ضمن سلامتك؟.. لا تترددي مثل وزيرك المخذول.. قولي.. ألست تخافين على سلامتك من الدب الروسي؟

إيران: بلى.. ولكن...

بريطانيا: ولكن ماذا؟.. هذا المشروع وحده هو الذي يعصمك من هذا الخطر! وأنتما يا دولتي المشرق ماذا تريان؟

سوريا: لا أريد أن أخدعك أو أخدع نفسي. لن أنظر في مثل هذا الاتفاق معك حتى تجيبي مصر إلى مطالبها: الجلاء، ووحدة وادي النيل. وتصلحي موقفك مع قضية فلسطين، وقضية ليبيا.

لبنان: وأنا أيضاً مع هذا الرأي.

بريطانيا: ما أكثر شروطكما، وأقل الرجاء فيكما.. وأنت يا شرق الأردن، ويا كرسي عميد الأسرة الهاشمية المجيدة. ألا تحبين لشقيقاتك العربية أن تنضوي إلى المعسكر الديمقراطي الغالب؟

شرق الأردن: إن شقيقاتي جميعاً يملن إلى الديمقراطية، غير أنهن يأبين أن يرتبطن بقيد ينال من حقهن في الاستقلال التام وحرية الاختيار... فلو..

بريطانيا: حتى أنت يا روبرتس!

شرق الأردن: إن على كل حال تابعة لا متبوعة، وهذه شقيقتي العراق فخذي رأيها أولاً، فإني لا أخرج عليه.

بريطانيا: لا ريب عندي أن العراق ستقبل مشروعي بارتياح فبيننا معاهدة أفضل لها وأكرم، وهذا المشروع سيحقق كل ما تصبو إليه, أليس كذلك يا بلاد الرافدين ويا موطن الشعب المتوثب الباسل؟

العراق: أما إنني أريد تعديل المعاهدة فهذا صحيح وأما أن المشروع يحقق ما أصبو إليه فهذا موضع نظر..

بريطانيا: ماذا تعنين؟

العراق: أميل دائماً أن أجري في سياستي على رعاية المصلحة العامة للبلاد العربية جميعاً لا مصلحتي وحدي.

بريطانيا: هذا ما يقوي أملي في قبولك للمشروع لأن المعاهدة الجديدة التي سنعقدها على أساس هذا المشروع ستكون نموذجاً عالياً تعقد على غرارها معاهدات أخرى مع شقيقاتك العربية.

العراق: هذه الحقيقة نفسها توجب على المبالغة في الحذر والاحتياط لأن ضرر المعاهدة الجديدة – إن كانت ضارة – لن يقتصر علي وحدي بل سيشمل سائر شقيقاتي.

بريطانيا: لا معنى لهذا التخوف والارتياب فإني كما تعلمين أنشد صداقة العرب علماً مني بأن ما ينفعهم ينفعني وما يضرهم يضرني.

العراق: هذا القول لا ينسجم مع موقفك مع شقيقتي الكبرى مصر.

بريطانيا: ماذا أصنع؟ هي التي تصلبت وعاندت. عرضت عليها استعدادنا للجلاء عن أراضيها فأبت إلا أن نترك لها السودان لتستعمره.

العراق: أئذا طالبتك بالإخلاء إقليم القنال أتستطيعين أن تردي طلبها بحجة أنها تريد أن تستعمر ذلك الإقليم؟

بريطانيا: لكن إقليم القنال من أراضيها وليس السودان كذلك.

العراق: وليس السودان جزءاً من أراضيك على أية حال، فما يجعلك تقبلين الإجلاء عن إقليم القنال وتتشبثين بالبقاء في السودان؟

بريطانيا: رعاية مصلحة السودان.

العراق: مصلحة السودان في وحدة الوادي كما هي مصلحة مصر.

بريطانيا: أإلى هذا الحد استطاعت مصر أن تبث أراءها فيك؟

العراق: اعلمي إن كنت لا تعلمين أننا جميعاً نشعر بشعور واحد.

بريطانيا: إن كنتم تعتنقون منطق مصر فأنتم وشأنكم ولكن لا أعمل إلا بمنطقي.

العراق: يراعي  في شؤون بلد منطق أهله لا غيرهم. هذا مبدأ من مبادئ الديمقراطية لا يجوز أن تجهليه.

بريطانيا: على كل حال لا تزال مسألة مصر مدرجة في مجلس الأمن، ولعل في اتفاقي معك ما يساعد على حلها بما يرضي المصريين.

العراق: والقرحة الدامية التي تركتها في قلب بلاد العرب؟

بريطانيا: تعنين فلسطين..

العراق: نعم.. كيف تطمعين في الصداقة المزعومة وهذه القرحة باقية يتنزى ألماً لها قلب كل عربي وكل مسلم في الشرق والغرب، ومع كل قلب لسان يلعن الدولة التي أحدثتها صباح مساء؟

بريطانيا: ماذا في وسعي أن أصنع الآن بعد أن حكمت هيئة الأمم المتحدة بالتقسيم وخرج الأمر في تقرير مصيرها من يدي؟

العراق: ما يزال أمامك أن تكوني مخلصة على الأقل في دعواك الحياد. أما أن يخف جنودك كل يوم لنجدة اليهود وإعاقة العرب عن المضي في جهادهم فهذا لا يثير لك في قلوب العرب إلا العداء المر.

بريطانيا: صدقيني أنني أتمنى انتصار العرب من صميم قلبي، ولكن ارتباطي بميثاق الهيئة يجعلني عاجزة عن مساعدتهم إلا من طريق غير مباشر. وهذا المشروع لا غير يمكن أن يفتح الطريق أمامي لهذه المساعدة. فإن العرب في فلسطين لا ينقصهم إلا السلاح وسأدرج في نصوص معاهدتنا الجديدة التعهد مني بتسليحك تسليحاً تاماً بحيث تكونين أقوى دولة عربية في الشرق الأوسط. وفي ذلك ما ييسر لك تسريب السلاح إلى فلسطين إن شئت.

العراق: هذه مادة مغرية حقاً ولكن في المواد الأخرى ما يجعل الانتفاع بهذه المادة عسيراً لأنك لت تعدمي تفسيراً تكبلين به يدي عن مساعدة فلسطين. واعذريني إن قلت لك أنني أقرأ هذه النية الآن في عينيك؟

بريطانيا: يظن أنك وتتهمني بالتعصب والعناد مثل مصر.

العراق: تذكري أنني أنا ومصر من معدن واحد.

بريطانيا: ولكني واثقة أن رجال حكومتك لا يتشددون معي مثل هذا التشدد.

العراق: أنا لا أنطق بألسنة رجال يعتلون اليوم كراسي الحكم وينزلون عنها غداً وإنما أعبر عن ضمير الشعب العراقي فإن كنت تنشدين الصداقة الثابتة فاخطبي ود هذا الشعب فهو وحده الباقي ورجال الحكم زائلون!

بريطانيا: مالي وللشعب الجاهل الغبي؟ لا أعرف إلا رجال حكومته فهم أعرف منه بما يصلحه.

العراق: قد يكونون كما ذكرت ولكن لا تنسى أن شعبي مؤمن بالدستور وفي وسعه أن يسقط كل دكتاتور يحاول أن يفرض عليه شيئاً لا يقره ولو كان في ذلك الشيء مصلحته!

بيفن: (يثور ثورة عصبية ويصيح) اسكتي أيتها البليدة الثرثارة! لقد أنطقتك بأكثر مما تستحقين. (يتناول القطعة المكتوب عليها اسم العراق فيقذف بها على الأرض) سأفرضها عليك... سيفرضها رجال حكومتك باللين أو بالقوة... من أين لشعبك الغبي أن يفهم معنى الحكم الدستوري؟ (يتقدم خطوات إلى حيث القطعة الملقاة على الأرض فيدوسها بقدمه) لا يصلح شعبك إلا دكتاتور يدوسه كما أدوسك الآن! (ينظر إلى السكرتيرة) ماذا تصنعين أنت؟

السكرتيرة: أكتب ما تملي علي.

بيفن: (مزمجراً) هذا كلامي أنا... لا تكتبيه!

السكرتيرة: لكنه كلام بليغ.

بيفن: بليغ أو غير بليغ.. ليس هذا من صلب الرواية يا غـ...

السكرتيرة: (صائحة) إياك أن تشتمني هذه المرة.. سأمحو هذا الجمل إن شئت.

بيفن: كلا لا تمحيها.. دعيها.. دعيها فقد شفيت بها غيظي!

(ستار)