الحية

الحية

مسرحية من خمس مشاهد

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

* قبو واسع تندلع ألسنة النيران من جوانبه كأنه ركن في جهنم. وترى على جدار صدر المسرح خريطة كبيرة للعالم في سنة 1897 وقد التفت حول أقطاره حيّة صفراء ضخمة وظهر رأسها متجهاً نحو فلسطين وهو ينوس ذات اليمين وذات الشمال كأنه يتحفز للوثوب على ذلك الهدف.

* يرفع الستار فنرى المكان غاصاً بالشياطين من ذكور وإناث في هيئات مختلفة. وقد تصدرهم إبليس وعن يمينه وشماله وزيراه الشيطان الأول والشيطان الثاني وعلى وجوه الجميع مظاهر الفرح والابتهاج.

الشيطان الأول: السكون! السكون! استمعوا إلى ما يقول مولانا العظيم!

(يهدأ الجميع ويصغون)

إبليس: يا معشر بني النار! يا جنودي المخلصين! انظروا إلى هذه الخريطة ماذا فيها ترون؟

الشياطين: الحية المقدسة!

أختنا في الكفاح!

ورفيقتنا في الجهاد!

إبليس: قد اقتضت حكمتي عرفاناً لفضلها الكبير أن أجعلها الرمز الخالد لشعبي المختار منذ خرج من فلسطين ليبشر برسالتي في مختلف أرجاء الأرض.

الجمع: عرفان جميل!

تكريم في محله!

تعيش الحية المقدسة!

إبليس: انظروا هل بقي من بلد في العالم لم تلف جسمها عليه؟

الجمع: لا.. قد لفت جسمها على كل بلد في العالم.

إبليس: فقد أصبح شعبي المختار مسيطراً على مقاليد السلطان في العالم كله. انظروا إلى رأسها أين يتجه؟

الجمع: إلى فلسطين!

إبليس: ذلك ميثاق لشعبي المختار حين تكمل الحية دورتها لأعيدنّه إلى فلسطين ولأبنين له فيها دولة الدول لتكون قاعدة الملكوت الذي سأبسطه في الأرض!

الجمع: (يهتفون) هلّلو يا! هللو يا!

إبليس: انظروا إلى هذه المدينة ما اسمها؟

الجمع: هذه مدينة بال في سويسرة.

إبليس: هناك يعقد صفوة أبنائي اليهود مؤتمرهم الأول ليتشاوروا ويتعاهدوا على العمل لبناء الملكوت!

الجمع: هللو يا! هللو يا!

إبليس: انظروا إليهم مجتمعين في مؤتمرهم كيف ترونهم؟

الجمع: في سحن مختلفة وأزياء مختلفة.

إبليس: جاءوا من مختلف أقطار العالم وسوف تمتزج سحنتهم وتتوحد أزياؤهم في فلسطين.

الجمع: وينطقون بلغات مختلفة.

إبليس: عما قريب تجمعهم لغة واحدة هي اللغة التي خاطبت بها أسلافهم منذ عشرين قرناً.

الجمع: تلك لغة قد ماتت فكيف تحيا من جديد؟

إبليس: سأعينهم على إحيائها لتكون إحدى معجزاتي في هذا العصر.

الجمع: ليس من الخير أن تفعل. إنها اللغة التي تكلم بها أعداؤك موسى وعيسى وداود وسليمان!

إبليس: ويلكم سيكون شفاء لغليلي أن أرى اللغة التي ناجى بها موسى ربه وحاول بها عيسى أن يبشر بملكوت السماء قد أصبحت لغة الحكم والسلطان في ملكوتي على الأرض.

الجمع: هللوا يا! هللوا يا!

إبليس: أبشروا أبشروا يا أعواني وجنودي.. إننا اليوم من نهاية الشوط على كثب، عما قليل سأبني ملكوتي على الأرض وأطاول به ملكوت السماء.

الجمع: هللو يا! هللوا يا!

إبليس: أو تدرون بعد ذلك ماذا يكون؟

الجمع: ماذا يكون؟

إبليس: (يعلو صوته في تحد ووقاحة) سأهزم رب العزة!!

الجمع: (يهتفون في نشوة) هللو يا! هللو يا!

إبليس: (ينشد في لحن غريب) هاكم نشيد الانتصار رددوا معي النشيد!

قولوا معي: نحن من الأحرار لا من العبيد!

الجمع: (في نفس اللحن) نحن من الأحرار لا من العبيد!

إبليس: اليوم عيد

لنا بني النار سعيد!

الجمع: اليوم عيد

لنا بنى النار سعيد

إبليس: اليوم يضحى الكون في طور جديد!

الجمع: اليوم يضحى الكون في طور جديد

إبليس: كما تريد

ليس كما يريد ظلام العبيد!

الجمع: كما تريد

ليس كما يريد ظلام العبيد!

إبليس: ونصرنا الأكيد

أصبح منا أمماً غير بعيد

الجمع: ونصرنا الأكيد

أصبح منا أمماً غير بعيد.

إبليس: وملكوتنا المجيد

أوشك يستهل كالوليد!

الجمع: وملكوتنا المجيد.

أوشك يستهل كالوليد!

إبليس: المجد للأحرار وليخز العبيد!

الجمع: المجد للأحرار وليخز العبيد!

إبليس: ويلكم أين بواطي الخمر!

الجمع: (في دهش) الخمر؟!

إبليس: ألا تشتهون أن تشربوها.

الجمع: (في توجس وتردد) بلى.. بلى..

إبليس: فلم لم تحضروها؟

الجمع: ممنوعون من شربها بأمرك.

إبليس: فيما مضى لئلا تلهيكم عن مهمتكم الكبرى. أما اليوم وانتصارنا على الأبواب فقد حل لكم الشراب.

الجمع: (يرتفع ضجيجهم وينطلقون في كل اتجاه ثم يعودون ببواطي الخمر يحملونها في نشوة ومرح وهم يهتفون).

يعيش إبليس العظيم!

يعيش مولانا الزعيم!

يعيش رائد الحرية!

يعيش قاهر رب العزة!

إبليس: (يرفع باطيته) نخب انتصار الأحرار! (يشرب)

الجمع: نخب انتصار الأحرار! (يشربون).

إبليس: نخب الشجرة! (يشرب)

الجمع: نخب الشجرة! (يشربون)

إبليس: نخب الحية المقدسة! (يشرب)

الجمع: نخب الحية المقدسة! (يشربون)

إبليس: نخب القاتل الأول قابيل (يشرب).

الجمع: نخب القاتل الأول قابيل (يشربون)

إبليس: نخب العجل الذهبي والذين عبدوه (يشرب)

الجمع: نخب العجل الذهبي والذين عبدوه (يشربون).

إبليس: نخب هيروديا وسالومي (يشرب)

الحميع: نخب هيروديا وسالومي (يشربون)

إبليس: نخب يهوذا الأسخريوطي الشهيد (يشرب)

الجمع: نخب يهوذا الأسخريوطي الشهيد (يشربون)

إبليس: وأخيراً نخب بني إسرائيل الشعب المختار (يفرغ بقية الباطية)

الجمع: نخب بني إسرائيل الشعب المختار (يفرغون ما بقي في بواطيهم)

إبليس: هيا امرحوا واطربوا واعزفوا وارقصوا وعربدوا وخلدوها ليلة ممجدة! العربدة! العربدة!

(تعزف موسيقى صاخبة)

(يأخذ كل شيطان شيطانة فيراقصها رقصاً شيطانياً مثيراً ويتوق إبليس إلى الرقص فلا يجد شيطانة تراقصه فيعمد إلى الحية يخرجها من الخريطة فيحملها في يده يراقصها في غمار الآخرين فيحمى الوطيس حتى تحل الشيطانات غدائرهن فهي تتمرمر وتتموج ويبدأ الشياطين في سحب قطع من ثيابهن وإلقائها عنهن ويتعالى الصخب والضجيج)

(ستار)

المشهد الثاني

* قاعة كبيرة في ناد خاص بمدينة بال في سويسرة في أواخر القرن التاسع عشر.

* المقاعد مصفوفة في شبه دائرة تتوسطها في الصدر منصة للخطابة.

* ستائر القاعة مرخاة بإحكام مما يوحي بالسرية التامة.

* يرفع الستار فنرى المنصة خالية وأعضاء المؤتمر جالسين على المقاعد وقد تباينت سحنهم وأزياؤهم باختلاف البلاد التي جاءوا منها وهم يتطلعون إلى الباب الجانبي الذي سيدخل منه رئيس المؤتمر.

(يدخل رئيس المؤتمر فيقف الجميع تحية له ويومئ الرئيس رداً على تحيتهم ثم يجلس على المنصة فيجلسون).

الرئيس: إخواني في الرب وفي المصير، مجّدوا اسم إلهكم إله إسرائيل في هذا اليوم المجيد، فقد آن له أن يبتسم بعد عبوس، وأن يضحك بعد بكاء، وأن يعلو اسمه على أسماء آلهة العالمين! مجدوه مجدوه لقد آن لملكوته أن ينبسط على الأرض وأن تتربع إسرائيل على كرسي ذلك الملكوت!

أصوات: تباركت يا إله إسرائيل! تعاليت يا إله إسرائيل! تقدس اسمك يا إله إسرائيل! المجد ليهوه! المجد لرب الجنود! رب الجنود المجد لك والنصر لك!

صوت: هل لي أن أتكلم يا سيدي الرئيس؟

الرئيس: تكلم.

الصوت: قد سبق أن اعترضنا على هذا التشبث بخرافات الأقدمين وأساطير الأولين. تذكروا أننا نعيش اليوم على عتبة القرن العشرين في عصر العلم والنور، لا في ظلمات القرون الأولى، فعلينا إن كنا جادين في تأسيس كيان دولة لنا تجمعنا بعد التفرق، وتلمنا بعد الشتات، أن نبني كفاحنا وعملنا على أساس علمي صحيح، لا على تلك الأسس الغيبية التي أكل الدهر عليها وشرب، ولم تعد تصلح أن يقوم عليها مجتمع متقدم يريد أن يعيش، فما بالكم بدولة تطمع أن تكون دولة الدول في يوم من الأيام؟

(همهمة سخط من أركان مختلفة في القاعة)

(يومئ الرئيس بيديه لالتزام السكوت فتقطع الهمهمة)

الرئيس: (لصاحب الصوت) فماذا تريد أن نصنع؟

الصوت: إن كان لابد لنا من اسم نقدسه فلنقدس اسم إسرائيل أو اسم الحية التي ترمز إليها، ولندرج في أكفان التاريخ وإلى الأبد اسم إله إسرائيل الذي مات ولم يعد له وجود!

أصوات: أجل أجل! هذا هو القول الصحيح!

أصوات: كلا كلا.. هذا كفر! هذا إلحاد! هذا تدنيس لاسم الرب! هذا تجديف لا نرضاه!

أصوات: إنه الحق! الحق يجب أن يقال! إننا في عصر العلم والنور!

صوت ثان: ويلكم! إنا ما اجتمعنا هنا لنعلن الكفر بإلهنا الذي حمانا من بطش الجبابرة، فلولا إسرائيل لما بقينا إلى اليوم، ولبادت أمتنا كما بادت أمم كثيرة!

الرئيس: (يضرب المنضدة لتسكيتهم) يا إخواني لا تكونن مثل البيزنطيين إذ ظلوا يتجادلون في خلافاتهم المذهبية وعدوهم على الأبواب! إن هذا يوم له ما بعده في تاريخ شعبنا المختار، ولئن أخفق مؤتمرنا هذا فلن ينجح لنا مؤتمر بعده. إخواني تدبروا فيما أقول لكم.. إننا إذ نؤمن بإله إسرائيل ليختلف إيماننا به عن إيمان المسيحيين بإلههم أو المسلمين. فالإله عند هؤلاء وهؤلاء مصدر الخلق المشاع بين العالمين جميعاً والكائنات كافة. أما إلهنا فهو أبونا الذي يخصنا ولا يشركنا في حبه ولا في عطفه أحد سوانا، والذي يجمعنا اسمه كما يجمع الأسرة الواحدة اسم أبيها حتى بعد موته فإنها تجتمع على ذكراه.

الصوت الثاني: كلا يا سيدي الرئيس.. لا نقر الإشارة إلى أنه مات، إنه حيّ لا يموت.

الصوت الأول: ما مات ولا يموت لأنه لم يكن له وجود قط! (يرتفع اللغط من جديد)

الرئيس: يا إخواني فيم الخلاف على أمر هيّن كهذا غير ذي خطر؟ ألا إن مثلكم كمثل أسرة غاب أبوها حيناً فاعتقد بعض أعضائها أنه قد مات واعتقد آخرون أنه لم يمت، فهل يدعو ذلك إلى أن يتعادى الفريقان! أم هل يقطع ذلك انتسابهم جميعاً إلى ذلك الأب؟ يا إخواني سواء ثبت أن لهذا الكون خالقاً أو ليس له خالق فإن إسرائيل الذي يربطنا جميعاً ينبغي أن يكون بل هو كائن فعلاً وإلا لما كان في الإمكان أن تجتمعوا اليوم من شتى أقطار الأرض! إخواني إن بقي فيكم من ينكر هذا الرباط أو يشك في وجوده فليتكلم!

الصوت الأول: أما هذا الرباط فنحن جميعاً نؤمن به.

الرئيس: حسبنا هذه الحقيقة الكبرى وليفسرها كل فريق منا كما يشاء، لا جناح عليه في المذهب الذي يدين به،فهل اتفقنا على هذا؟

الجميع: نعم.. نعم!

الرئيس: لا أريد منذ الآن أن أسمع أي اختلاف في هذه الكلمة أو اعتراض على استعمالها،فهي رمز لا نستغني عنه في حديثنا عن ذكريات ماضينا أو آمال مستقبلنا.موافقون؟

الجميع:موافقون موافقون!

الرئيس: إخواني الأعزاء.منذ قرابة عشرين قرناَ هدم تيتوس الروماني هيكلنا الثاني في أورشليم، فكان ذلك بداية تفرقنا في أرجاء الأرض. ويروي لنا آباؤنا أن ذلك قد تم بتدبير إله إسرائيل ومشيئته ليجعل لنا من هذا التفرق وحدة،ومن هذا الضعف قوةً، ومن هذه المحنة نعمة. وقد أوصانا بوصايا ووعدنا بأننا إن عملنا بها فسيعيدنا إلى أرض الميعاد، بعد أن نكون قد سيطرنا على جميع الشعوب التي خالطناها وحللنا بينها. وقد عملنا بوصايا إلهنا بالحرف فلا غرو أن يتحقق لنا وعده بالحرف. ها هي ذي حيتنا الرمزية قد طوقت بجسمها جميع أقطار الأرض، وآن لرأسها أن ينتهي من طوافه الطويل إلى حيث بدأ. ويومئذ تقوم دولتنا في فلسطين من جديد،ثم تنمو وتتسع حتى تشمل أرض الميعاد بأسرها من النيل إلى الفرات، ومن ثم ينبسط سلطاننا على العالم أجمع.

أصوات: يومئذ تفرح إسرائيل! يومئذ تعلو إسرائيل على العالمين!ليتنا نعيش حتى نشهد هذا الحلم الكبير! ترى هل يأتي ذلك اليوم المجيد؟

الرئيس: إنه آت لا ريب فيه. قد عمل له آباؤنا وأسلافنا منذ قرون فكانوا دائماَِِ سائرين صوب الهدف، لا يصدهم عنه ظلم ولا اضطهاد،ولا تثني عزائمهم المصاعب والعقبات،فمدوا لنا الأساس وبقي علينا أن نبني الأركان.واليوم وقد أصبح العالم كأنه بلد واحد بفضل المخترعات الحديثة التي قربت كل بعيد وسهلت كل صعب، فعلينا أن نسير في هذا الدرب الطويل بخطى أوسع من خطى آبائنا وعزائم أقوى وأمضى فهل أنتم فاعلون؟

أصوات: نعم نعم! لنستسلهن الصعاب! لنخوضن الغمرات لنضاعفن الجهود! لنعملن ليل نهار! لنحققن الميثاق!

الرئيس: إخواني الأعزاء. لقد كنا نعمل قديماً في سراديب الظلام، وقد آن لنا اليوم أن نعمل في وضح النهار. يجب من اليوم أن نضع لكفاحنا الخالد خطة سافرة نعلنها للعالم ونقوم بتنفيذها على مرأى ومسمع من شعوب العالم.

صوت ثالث:يا سيدي الرئيس أليس العمل في الخفاء كدأبنا ودأب أسلافنا من قبل أسلم وأكفل بتحقيق هدفنا المنشود؟

الرئيس: بلى لو أمكن الاقتصار عليه ولكن ذلك لم يعد كافياًِ اليوم للسير الحثيث إلى الهدف.

الصوت الثالث: السير البطيء المأمون خير من السير الحثيث المحفوف بالمزالق والأخطار.

الرئيس: الخطر خطران: خطر يمكن اتقاؤه بمرور الزمن وخطر لا مناص من اجتيازه طال الزمن أو قصر. والخطر الذي بين أيدينا هو من النوع الثاني. لقد أضحت المهام الملقاة على عواتقنا في هذه المرحلة من تاريخ كفاحنا من الضخامة والعِظَمِ بحيث لا مناص للقيام بها على الوجه المطلوب من انكشاف سرها للناس. لا بد من خطة نعلنها للناس ونسعى لاقناعهم بها، وبذلك نأمن الخطر الذي نخشاه.

الصوت الثالث: هل نقنع الناس بأننا نسعى لملك العالم؟

الرئيس: هذا سؤال لا ينبغي أن يوجهه رجل من شهود هذا المؤتمر. إن هدفنا الأكبر إنما يتم على مراحل فكيف نعلن مرحلتها الأخيرة قبل المرحلة الأولى؟

بحسبنا اليوم أن نعلن لهم تأسيس هيئة تسعى بالوسائل السلمية إلى أن يكون لنا وطن قومي في فلسطين يثوب إليه اللاجئون من اليهود الفارون من الظلم والاضطهاد.

صوت رابع: لكن هذا الاضطهاد قد قل اليوم بعد ما أعلن تحرير اليهود في معظم الدول الأوروبية.

الرئيس: ذلك ما يدعونا إلى التعجيل بحركتنا هذه قبل أن يأتي يوم لا يبقى فيه يهودي واحد مضطهد في الأرض.

الصوت الرابع: أو تخشى يا سيدي الرئيس من زوال الاضطهاد عن اليهود؟

الرئيس: نعم. إن زال الاضطهاد فبأي حجة نطالب بذلك الوطن القومي في فلسطين؟ ثم كيف نجد عدداً كافياً من بني جنسنا يرغبون في الهجرة إلى ذلك الوطن؟

إن صيحة الاضطهاد دائماً ترد الشياه إلى الحظيرة.

صوت خامس: يا سيدي الرئيس.. لقد سكتُّ طويلاً فهل لي الآن أن أتكلم؟

الرئيس: هات قل ما عندك.

الصوت الخامس: أنا لا أوافق البتة على فكرة الوطن القومي في فلسطين.

أصوات: ما هذا؟ ماذا يقول هذا الرجل؟ اسكت! اجلس!

الرئيس: دعوه يتم حديثه.

الصوت الخامس: إن الوطن القومي سيوردنا متاعب نحن في غنى عنها، فهناك العرب أصحاب البلاد سيثورون في وجهنا وهم الشعب الوحيد الذي عاملنا معاملة كريمة يوم اضطرمت الدنيا كلها ناراً علينا.

الرئيس: (في سخرية) وتريد منا أن نحفظ لهم هذا الجميل؟

أصوات: نحفظ الجميل؟ لمن؟ لهؤلاء الجوييم؟

الرئيس: ماذا نقول إذن في الاصحاح العشرين من سفر التثنية الذي يقول: "وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك ميراثاً فلا تستبق منها نسمة واحدة بل أبدها على بكرة أبيها"؟

الصوت الخامس: هذا النص لا ينصب على العرب اليوم إذ المقصود به الشعوب التي كانت تقيم في أرض المعياد إذ ذاك.

الرئيس: عرب اليوم هم أحفاد تلك الشعوب ويصدق عليهم ما يصدق على أسلافهم.

الصوت الخامس: أفتريدون أن تبيدوا العرب جميعاً؟. هذا محال اليوم.

الرئيس: محال؟ لماذا؟ ألأنهم أمة كبيرة العدد؟. لا تخف فالاصحاح السابع من سفر التثنية يقول: "لا ترهب وجوههم فإن الرب إلهك معه إله عظيم رهيب وإن الرب إلهك سيطرد أولئك الشعوب من أمامك قليلاً قليلا. لا ينبغي أن تفنيهم سريعاً فتكثر عليك وحوش البرية، ولكن الرب إلهك سيدفعهم إليك وينزل بهم قارعة عظيمة حتى يفنوا، ويدفع ملوكهم إلى يدك فتمحو اسمهم من تحت السماء!"

أصوات: حُسّانه! حسانه! هللويا!

الصوت الخامس: ما زلت على رأي أن هذه النصوص خاصة بالعصر الذي نزلت فيه ولا تصدق البتة على العصر الحاضر.

أصوات: أسكتوا هذا اليهودي الزائف! لعل العرب أرسلوه ليدافع عنهم! اذهب فصحح يهوديتك أولاً ثم تكلم في مؤتمرنا.

(ضحك وسخرية)

الصوت الخامس: ويلكم لو كان فيكم خير لأنفسكم ولبني جنسكم لعرفتم أن هذا ليس مجالاً للهزل والسخرية. إننا اجتمعنا اليوم لنقرر مصير شعبنا المختار ونرسم مستقبله للقرون القادمة. أنا لا أدافع عن العرب ولا أدعوكم إلى حفظ جميلهم ولكني أدعوكم أن تنظروا إلى مصلحتنا أين تكون؟ اذكروا أن تفرقنا في أقطار الأرض دون أن يكون لنا وطن خاص هو الذي مكننا من السيطرة على شعوب العالم حتى أصبحت مقاليدها الاقتصادية في أيدينا وصار زعماؤها خدماً لنا وعبيداً فكيف تريدون منا أن نعرض هذه المزية الكبرى للضياع في سبيل وطن صغير لا قيمة له؟

الرئيس: إن هذه المزية التي ذكرتها ليست هي الغاية القصوى لتفرقنا في العالم وإنما هي مرحلة من مراحل غايتنا الكبرى.

الصوت الخامس: وما غايتنا الكبرى؟ أليست هي ملك العالم؟

الرئيس: بلى.

الصوت الخامس: فقد تحقق لنا هذا أو كاد. ألسنا نسيطر اليوم على مقاليد الاقتصاد والسياسة في جميع حكومات العالم؟ وستقوى هذه السيطرة يوماً بعد يوم ويتضاعف نفوذنا وسلطاننا حتى نصبح حقاً ملوك العام.

الصوت: كلا كلا. لا نكتفي بهذا! نريد أن يكون لنا وطن خاص مثل سائر الأمم.

الصوت الخامس: أمن أجل هذا الوطن الخاص تنزلون عن العالم كله وطناً لكم؟.

أصوات: نريد العودة إلى فلسطين! نريد أن نحقق الميثاق!

الصوت الخامس: ويلكم إن الذي يسيطر على العالم كله يسيطر ضمناً على فلسطين. وهذا معنى الميثاق الذي جهلتموه.

أصوات: كلا كلا. نريد أن نكون أمة كسائر الأمم!

الصوت الخامس: من قال إننا لسنا أمة؟ إننا أمة اليوم وقبل اليوم ومنذ كنا، بل نحن نفوق الأمم كلها في تكتلنا وترابطنا ووحدة الهدف، ولا يعوزنا إلا أمر لا قيمة له: هو أن نقيم مجتمعين في قطعة من الأرض تدعى في اصطلاح غيرنا "الوطن".

أصوات: كلا كلا.. لا أمة بلا وطن.

الصوت الخامس: ومن قال لكم إننا بلا وطن؟ إن لنا وطناً لا تراه الناس ولكنه قائم في قلوبنا ومشاعرنا، نتمتع بمزاياه كما تتمتع أية أمة أخرى بمزايا وطنها، مع انفرادنا بمزايا أخرى لا تتمتع بها أية أمم الأرض في أي عصر من عصور التاريخ. إن وطننا مطلق مترامي الحدود في العالم كله وليس محدوداً ببقعة خاصة من الأرض كأوطان غيرنا من الأمم بحيث نستطيع أن نقول إن العالم كله وطن لنا.

أصوات: كلا كلا لا نريد الوطن الوهمي الذي تشير إليه! نريد أورشليم.. لابد لنا من أورشليم

الصوت الخامس: ويحكم إن هذا الوطن الذي تدعونه وهمياً قد بقي وسيبقى مصوناً من غزو الغازين، واحتلال المحتلين، وفي مأمن من جوائح الأوبئة والمجاعات وضربات الطبيعة من زلازل وبراكين وفيضانات، وهذا هو سر بقائنا إلى اليوم من حيث هلكت الأمم القديمة التي عاصرتنا، وأمم كثيرة جاءت بعدنا كانت جميعاً أكثر منا عدداً وأعظم سلطاناً، فكيف تريدون اليوم أن تحصرونا في وطن محسوس محدود فيجوز علينا ما جاز على غيرنا من الدثور والاضمحلال؟

أصوات: كلا كلا.. نريد أن يكون لنا وطن كما للشعوب أوطان!

الصوت الخامس: على وزن قول آبائكم لما عبدوا العجل الذهبي: نريد أن يكون لنا إله كما للناس آلهة! وقد كان لهم إله حقاً يومذاك.. إله لا تدركه الأبصار فغفلوا عنه، وعبدوا عجلاً صغيراً يرونه بأعينهم فكذلك اليوم تفعلون، غفلتم عن الوطن الكبير الذي جعله لكم إله إسرائيل مصداقاً لميثاقه وآثرتم عليه وطناً صغيراً تتحدون المصاعب والأخطار لإنشائه في فلسطين.

الرئيس: حقاً إنك لبليغ المنطق، ناصع الحجة، قوي العارضة، ولكن غاب عنك وربما غاب أيضاً عن كثير من إخواني المؤتمرين أن آباءنا لم يتخلوا عن إلههم الكبير الذي لا تدركه الأبصار لما عبدوا العجل الصغير الذي تراه العيون ويسمع له خوار، كلا إن آباءنا أحكم وأحجى من ذلك، ولكنهم جمعوا بين الإله الكبير والإله الصغير، بين إله يرعاهم من السماء وإله يرعونه في الأرض، بين إله محسوس كآلهة الناس إذ ذاك وإله خفي ينفردون به دون الناس.

أصوات: بديع بديع! بوركت أيها الرئيس! بوركت يا أمير اليهود في المنفى! أنت خليفة موسى! أنت مسيحنا المنتظر.

الرئيس: شكراً شكراً لا تقاطعوني بهتافكم. إله إسرائيل وحده يعلم من يكون مسيحنا المنتظر، ما أنا إلا رجل منكم يحاول أن يعبر عما يجول في نفس كل امرئ منكم بل في نفس كل يهودي سلمت فطرته من تأثير الجوييم فلم تستهوها أفكارهم ومبادئهم التي يسمونها مثلاً عليا وهي تهوي بمعتنقيها إلى الحضيض فتعوقهم عن السير في ركب الخليقة وموكب الزمن.

أصوات: حسانه! حسانه!

الرئيس: لعل من اليسير عليكم الساعة بعدما أدركتم حكمة أسلافنا في عبادة الإلهين الصغير والكبير والظاهر والخفي والمحدود والمطلق أن تدركوا أننا سنجري على هذه السنة في كفاحنا اليوم فنؤسس لنا هذا الوطن الكبير في العالم كله، اطمئنوا أيها الإخوة الأعزاء فلن يرحل اليهود جميعاً إلى فلسطين في خطوتنا الأولى، ولا إلى أرض الميعاد في خطوتنا الثانية. كلا لا ينبغي أن يفعلوا ذلك، بل ستبقى جاليات كبيرة منهم حيث كانت في مراكزها بين شعوب الأرض لتكون ركائز لوطننا المحدود تجند لخدمته كل ما تملك تلك الشعوب من قوى مادية وأدبية، وهكذا سيسير الوطنان المحدود وغير المحدود جنباً إلى جنب صوب الغاية الكبرى، صوب غاية الغايات حتى يتحقق الميثاق الإلهي بقيام دولة الدول، ويومئذ يلتقي الوطنان ويتحدان، يوم يصبح العالم كله وطناً واحداً يتبوأه شعبنا المختار حيث يشاء من مشرقه ومغربه وتكون أورشليم كرسي هذه الدولة العالمية الكبرى يقيم فيها ملك الملوك من آل داود الذي تسجد له جميع شعوب الأرض!

أصوات: حسانه! حسانه! هللويا!

الرئيس: هل بقي بينكم الآن من يعترض على حركة إنشاء الوطن القومي؟

الجميع: لا.. لا أحد.. لا أحد.

الرئيس: لقد رأينا أن نطلق على هذه الحركة اسم صهيون فما ترون؟

أصوات: اسم جميل! اسم إسرائيل أصلح وأجمل! أجل اسم إسرائيل أصلح!

الرئيس: لكنه اسم عنصري إذا اتخذناه لحركتنا فسيحول دون انضمام غير اليهود إليها فتفقد بذلك أنصاراً كثيرين.

أصوات: هل تريدون إشراك الجوييم في هذه الحركة؟ كلا لا نريد أحداً من الجوييم! نريدها لنا خالصة!

الرئيس: أي بأس في أن نشركهم في العمل ونستأثر نحن بالثمرة؟ هذه سنة أسلافنا من قديم. ألا تذكرون آية التلمود: "كما أن ربة البيت تعيش من خيرات زوجها هكذا أبناء إسرائيل يجب أن يعيشوا من خيرات أمم الأرض دون أن يحتملوا عناء العمل".

أصوات: عجباً لكأننا لم نسمع هذه الآية من قبل قط! ونحن نتلوها ليلاً ونهاراً! حقاً إنك لملهم.

الرئيس: بهذا الاسم (صهيون) سيكون في وسعنا ألا نثير ارتياب الشعوب التي نقيم بينها أو ننبهها إلى حقيقة غرضنا، فسيظل مكتوماً عنها أننا منفصلون عنها وأن ولاءنا وإخلاصنا لبني جنسنا وحدهم.

أصوات: حسانه! حسانه!

الرئيس: بهذا الاسم سيتاح لكثير من زعماء الشعوب وأفرادها الانضمام إلى حركتنا فهي حركة إنسانية عامة كسائر الهيئات الإنسانية العامة التي أنشأها أسلافنا من قبل.. كالماسونية مثلاً التي انتشرت محافلها في جميع أقطار العالم واشترك فيها جميع الشعوب على اختلاف أديانها وألوانها وألسنتها باسم الإخاء البشري والتسامح الديني فأمكننا من خلالها بفضل ماسونياتنا الخاصة المندرجة في تلك الماسونيات العامة أن نحقق الكثير من أهدافنا المقدسة.

صوت: لكن لا يعقل يا سيدي الرئيس أن تلقي هذه الحركة من تأييد الجوييم ما لقيت الحركة الماسونية.

الرئيس: هذا حق. ولكن يكفينا أن يؤيدها عدد غير قليل من الجوييم بما نضرب على الوتر الحساس في قلوبهم من عواطف الرحمة والشفقة على آلاف من المنكوبين اضطهدوا وشردوا لغير ما ذنب جنوه إلا أنهم ينتمون إلى دين سماوي يعترف معظم سكان العالم بأنبيائه ورسله وكتبه، ثم لا تنسوا أننا لن نقتصر على هذا السبيل وحده في اجتذاب المناصرين لحركتنا من الجوييم فسنشتري لها ضمائر وكثير من زعمائهم ورؤسائهم إما بالإغداق عليهم من أموالنا السرية أو بالتهديد بحرمانهم من المصالح التي نملك حرمانهم، وأي شعب في الدنيا لم تصبح جل مصالحه اليوم في أيدينا؟

الجميع: حسانه! حسانه!

صوت: لكن كيف السبيل إلى إنشاء الوطن القومي في فلسطين؟

أصوات: أجل كيف السبيل إلى ذلك؟

الرئيس: أول خطوة في هذا السبيل هي الحصول على اعتراف لنا بحق إنشاء هذا الوطن.

الصوت: أذكر يا سيدي الرئيس أن بعض جمعياتنا قد حاولت الحصول على ذلك من الدولة العثمانية فلم تنجح.

الرئيس: سنعاود الاتصال بالدولة العثمانية فإن لم تنجح هذه المرة فسنحصل على هذا اعتراف من دولة أخرى.

الصوت: ما قيمة الاعتراف من غير الدولة التي لها وحدها حق التصرف في فلسطين؟

الرئيس: سوف تكون الدولة الأخرى هي صاحبة التصرف في فلسطين!

أصوات: كيف؟ كيف يا سيدي الرئيس؟

الرئيس: لا مناص لنا حينئذ من تغيير خريطة العالم! لنثيرنّها حرباً طاحنة تسيل فيها دماء الجوييم أنهاراً.. حرباً عبقرية تليق بهذا العصر العبقري الذي تقدمت فيه وسائل التدمير والتخريب مما لم يخطر على بال أسلافنا من قبل.

أصوات: حُسانه! هللويا!

صوت: وكيف يا سيدي نثير هذه الحرب؟

(يتعالى الضحك من سائر المؤتمرين).

الصوت: ويلكم ماذا يضحككم؟

أصوات: كيف لا نضحك من يهودي يسأل هذا السؤال؟ الحرب يا هذا صناعتنا منذ كنا وكانت! هل كان عبثاً أن سمى إلهنا نفس رب الجنود؟

الصوت: هذا الصلف الذي طالما أوردنا المهالك. لكأنما تستطيعون بدعاويكم الفارغة أن تزوروا وثائق التاريخ!

الرئيس: لو درست تاريخ قومك جيداً لعرفت أنهم طالما زوروا وثائق التاريخ. لقد زورنا تاريخ ماضينا على العالم وسنزور تاريخ مستقبلنا كذلك.

أصوات: ماذا تقول أيها الرئيس؟ هذا سب لتاريخنا لا نرضاه منك! أو قد جعلت تاريخنا زوراً في زور؟

الرئيس: معذرة يا إخواني فإني آخر من ينتقص تاريخ شعبنا المختار، لطالما قلت لأصفيائي إن ما يعوزنا معشر الخلف هو أن نتدبر تاريخ السلف بعيوننا وعقولنا، لا بعيون الجوييم ولا بعقولهم، حتى نفهم الأمور على وجهها الصحيح. إن التزوير الذي أشرت إليه ليس بعيب بل هو فضل. أتدرون ما الزور وما الحقيقة؟

الصوت: الزور ما ليس بحقيقة والحقيقة ما ليست بزور.

الرئيس: هكذا هما عند الجوييم، أما عندنا فالزور ما قام في أذهان الناس أنه زور ولو كان حقيقة، والحقيقة ما قام في أذهان الناس أنه حقيقة ولو كان زوراً.

أصوات: بديع! بديع!

الصوت: زوروا التاريخ ما شئتم فلن تستطيعوا أن تنكروا أننا لسنا أمة حرب وقتال بل أمة ذل ومسكنة.

الرئيس: إننا لا ننكر ذلك فقد كان ذلنا ومسكنتنا لحكمة كما كان تفرقنا في أرجاء الأرض لحكمة.

أصوات: إذن فكيف يستقيم قولكم إن الحرب صناعتنا منذ كنا وكانت؟

الرئيس: يا أخي لو استوضحت معنى هذه العبارة من أول الأمر ولم ترخ عنانك لشهوة الجدل العقيم! حقاً ما كنا نحمل السلاح ولا نشهد المعارك ولكنا كنا دائماً موقديها من وراء الستار ننفخ في جمرها حتى يتلظى، ونمد الفريقين فيها بالوقود. أفهمت الآن؟

الصوت: نعم ولكن..

أصوات: كفى جدلاً واعتراضاً! اسكت! اجلس!

الصوت: ويلكم دعوني أقل ما عندي.

أصوات: لا نريد أن نسمع ما عندك! احتفظ به لنفسك!

الرئيس: دعوه يقل ما عنده.

الصوت: ماذا يضمن لكم إذا أشعلتم تلك الحرب الطاحنة أن تبلغوا بها الغرض الذي تبتغون؟ ألا تخشون أن يخرج أمرها من أيديكم؟

الرئيس: خير ما أجيبك به أن أدعو هؤلاء الإخوان المؤتمرين لينهض كل واحد منهم فيعلن عن وظيفته ومنصبه. (يشير إلى الصف الأول) انهضوا واحداً بعد واحد!

(ينهضون واحداً بعد واحد)

الأول: أنا وزير المالية في فرنسا!

الثاني: أنا وزير العدل في ألمانيا!

الثالث: أنا نائب رئيس مجلس اللوردات في بريطانيا!

الرابع: أنا المستشار الإمبراطوري في النمسا!

الخامس: أنا رئيس مجلس القضاء الأعلى في الولايات المتحدة.

السادس: أنا رئيس الوزارة في المجر.

السابع: أنا وزير المواصلات في إيطاليا.

الرئيس: حسبكم! في هذا كفاية! كيف يخرج أمر الحرب من أيدينا ومنا هؤلاء الأساطين في مختلف دول العالم؟ هذه ثمرة من ثمار السياسة التي جرى عليها أسلافنا من قديم، وعلينا أن نضاعف جهودنا في هذا السبيل بتنظيم أدق وتدبير أحكم حتى لا يبقى منصب من المناصب الهامة في أية دولة من دول العالم إلا وعلى رأسه رجل منا!

الصوت: وإذا لم يتحقق غرضنا من تلك الحرب؟

الرئيس: فسوف نتبعها بحرب ثانية فثالثة فرابعة حتى يتحقق!

أصوات: بديع! بديع!

صوت: ومصالحنا التجارية يا سيدي الرئيس؟

الرئيس: ما بالها؟

الصوت: ألا تخافون عليها من تلك الحروب؟ (ينفجر الجميع ضاحكين)

الرئيس: مهلاً يا قوم! لا تسخروا ممن يريد أن يعلم، فإن شراً من الجهل التمادي فيه، وإن خيراً من العلم المخزون العلم المكتسب.

(يكفون عن الضحك)

الصوت: شكراً لك يا سيدي الرئيس.

الرئيس: ألا تعرف يا أخي تلك الكلمة الخالدة التي قالها أحد حكمائنا: الحرب حرث لنا والسلم هي الحصاد!

الصوت: بلى أعرفها يا سيدي الرئيس ولذلك تساءلت.

الرئيس: ماذا تعني؟

الصوت: إذا توالت الحروب لم تستطع أن نحصد ما نحرث!

أصوات: بديع! بديع! هذا سؤال وجيه! من رجل حكيم! صحيح ماذا يفيد الحرث من غير الحصاد؟

الرئيس: رويدكم! إني لم أقصد حروباً متوالية لا يفصل بينها سلم. اطمئنوا على مصالحكم فإنا لن نعيد الحرث أبداً قبل أن نتم الحصاد.

صوت: إذن فسننتظر طويلاً قبل أن يتحقق غرضنا المنشود!

الرئيس: ماذا يضيرنا أن ننتظر ربع قرن أو نصف قرن؟

أصوات: نصف قرن؟ هذا كثير يا سيدي الرئيس! لا صبر لنا على هذا الانتظار الطويل!

الرئيس: ويحكم! أتستكثرون نصف قرن بعدما انتظرنا عشريناً من القرون؟ (يخرج ساعته فينظر فيها) إن قياس الزمن عندنا ليس كقياسه عند غيرنا من الشعوب. ألسنا نحن شعب الخلود؟

الجميع: بلى! نحن شعب الخلود!

الرئيس: فلنختتم جلستنا الآن بنشيد شعب الخلود! (ينهض فينهضون جميعاً)

الجميع: (ينشدون وهم وقوف) نحن اليهود!

شعب الخلود!

آلهنا رب الجنود

إلى الحمى سوف نعود

طبقاً لميثاق الجدود

رغم القيود والسدود

الأرض ميراث لنا

وكل شيء في الوجود

(ستار)

المشهد الثالث

(نفس المنظر كما في الفصل الأول إلا أن الحية الرمزية في الخريطة قد استقر رأسها في فلسطين وصار للرأس وجه يهودي بأنفه المعقوف وعينيه النهمتين.

يرفع الستار فترى إبليس واقفاً يتأمل الخريطة في نشوة واغتباط ويومئ بيده يمنة ويسرة في أركان الخريطة كأنه يرسم في ذهنه خططاً جديدة للعمل. وكلما انتهت يده إلى موقع مصر عبس واكتأب وتنهد.

ونرى شيطانيه واقفين من خلفه ينظران إليه ويتبادلان الإشارة فيما بينهما كأنهما يريدان أن يكلماه في أمر ولكن كليهما يتهيب أن يبدأ الحديث فهو يرجو من صاحبه أن يبدأه.)

إبليس: (يرفع يده عن موقع الجمهورية العربية المتحدة وهو يتنهد ويتمتم).

هنا العقبة! هذا الشعب العربي المقيت ينبعث من جديد ليسد علينا الطريق! (يلتفت إلى شيطانيه) ويلكما ما بالكما واجمين لا ترجعان قولا؟ أفلستما أنتما أيضاً؟ أعليَّ أن أتخذ وزيرين مكانكما من بني إسرائيل؟.

الشيطان الأول: معذرة يا مولانا ماذا تريد منا أن نفعل؟.

إبليس: (يقلد لهجته ساخراً) معذرة يا مولانا ماذا تريد منا أن نفعل؟. ألا تشاركني في همي وتفكيري؟. ألا تريان إلى هذا الشعب المقيت ينبعث بعد موت ويلتئم بعد تمزق؟.

الأول: لا تبتئس يا مولانا. غداً يضمحل هذا الشعب حين ينبسط ملكوتك في الأرض.

إبليس: ويلك أنى ينبسط إذا بقي هذا الشوك في أرض الميعاد؟ إنه ينمو ويشتجر!

الثاني: لقد كان إلى عهد قريب شوكاً يابساً يمكن قطعه وإلقاؤه في النار فانظر ماذا جعله يخضر من جديد!.

إبليس: ماذا جعله يخضر؟

الثاني: أخشى أن تغضب إن أجبتك.

إبليس: بل أجب ويلك ماذا جعله يخضر؟

الثاني: الدولة التي أقمتها لشعبك المختار وسط هذا الشوك.

إبليس: كلا بل كل هذا من مصر!.

الثاني: مصر ذاتها كانت شوكاً يابساً فما الذي أعاد إليها الحياة؟

إبليس: ذاك الكتاب البغيض الذي جاء به محمد.

الثاني: هذا الكتاب قد ظل زمناً كالبركان الخامد حتى أقمت هذه الدولة في أرضه فانبعث وثار!

إبليس: ويلك كأنك تحاسبني!.

الثاني: أنت دعوتنا للرأي فإن كان يؤذيك سماع الحق سكتنا.

الأول: أجل يا مولاي لقد عيّرتنا بالإفلاس وهددتنا باتخاذ وزيرين مكاننا من بني إسرائيل.

إبليس: (بعد صمت قصير) تريدان أن تقولا إنني أخطأت في إقامة هذه الدولة؟

الثاني: نعم..

إبليس: فهلا نبهتني ويلك من قبل؟

الثاني: ما عدت تستشيرنا منذ مؤتمر بال.

إبليس: لا تجود بمشورتك إلا إذا استشرت؟

الثاني: ما كان هذا دأبنا معك ولكنك تغيرت علينا منذ ذلك المؤتمر فصرت تحتقر رأينا فقررنا أن نلزم الصمت.

إبليس: وماذا كنت تشير عليّ أن أصنع بهذا البركان؟

الثاني: تبقيه خامداً مكانه.

إبليس: ويلك لابد للخامد أن يثور ذات يوم.

الثاني: يوم يثور من تلقاء نفسه يكون لنا معه شأن.

إبليس: أنبقى مهددين به في كل حين؟

الثاني: ذلك خير من أن نثيره ليلتهمنا اليوم.

إبليس: هذا منطق الجبان، ولست بجبان، لأثيرنه حتى يقذف حممه كلها ثم لأخمدنه إلى الأبد!

الثاني: لا تنس أنه ذلك الكتاب الخالد الذي أنذرك به عيسى الناصري يوم رُفع.

إبليس: عيسى الناصري! لأثبتن غداً كذب دعواه.

الثاني: إنه رسول رب العزة فهو لا يكذب.

إبليس: يكذب أو لا يكذب، لأبطلنّ غداً ما زعم.

الأول: (يومئ للثاني بالسكوت) أنت يا مولاي صاحب الرأي الأعلى على كل حال.. ونحن ما جئنا اليوم لنناقشك الحساب أو نغضبك ولكنا جئنا لأمر آخر.

إبليس: لأي أمر؟

الأول: جنودك المخلصون يا مولاي.

إبليس: ما بالهم؟

الأول: إنهم مظلومون يا مولاي.

إبليس: وأنا الذي ظلمتهم.. أليس هذا ما تقصد؟

الأول: ....؟

الثاني: قل له نعم، لم لا تصارحه؟

الأول: انتدبونا يا مولاي لنكلمك.

إبليس: اشغلاني بهذه التوافه، هذا كل ما بقي لي عندكما من تأييد وعون.

الأول: إن كان يغضبك أن نكلمك...

الثاني: أنت رسول وعليك البلاغ، إن شئت توليت أنا الكلام.

إبليس: بل اسكت أنت وليتكلم هو.

الأول: إن جنودك المخلصين يجدون في أنفسهم أنك أهملتهم وانقطعت عن لقائهم ورعايتهم فهم ساخطون متذمرون.

إبليس: ماذا أصنع لهم؟ لم يبق لهم عندي أي عمل.

الأول: لا ينبغي أن تتكل كل الاتكال على هؤلاء اليهود فإنهم بعد لَمِنْ بني آدم عدوك، ولا تأمن أن ينقلبوا يوماً ما عليك.

إبليس: كلا إنهم لم يعودوا اليوم من بني آدم، ألا تراهم يتقدون حقداً على البشر ويشمتون بما يصيبهم من نكبات؟ ألا تدري ماذا يعتقدون في غيرهم من البشر؟

الأول: بلى.. يعتقدون أن غيرهم من البشر حيوان ليستغلوه ويسخروه.

الثاني: وأن رب العزة قد خلق هذا الحيوان على صورة الإنسان تأنيساً لهم.

إبليس: إذن فكيف تزعمان بعد أنهم من بني آدم؟

الأول: أنت يا مولاي الذي أوحيت إليهم بتلك العقيدة.

إبليس: وأي بأس في ذلك؟

الثاني: لا يبعد أن يدركوا يوماً فساد هذه العقيدة وأن عليهم أن يتآخوا مع بني جنسهم من البشر.

إبليس: كلا إن ذلك لن يكون أبداً.. لقد انسلخوا من البشرية وصاروا شعبي وأبنائي.

الأول: والشياطين يا مولاي أليسوا أيضاً شعبك وأبناءك؟

إبليس: بلى..

الأول: فقد أصبحوا غرباء عنك وشعروا أنهم لم يعد لهم مكان في قلبك فكأنك تخليت عنهم وأنكرت صلتهم بك.

إبليس: كلا ما تخليت عنهم ولا أنكرت صلتهم بي فهم مني وأنا منهم، ولئن آثرت اليهود عليهم فلأن اليهود أصبحوا أبرع وأقدر على القيام برسالتي منهم، فهل أنا في هذا ظالم؟ إنما الظلم أن أسوي بين النابه والخامل وبين القادر والعاجز.

الثاني: لقد طلبوا مقابلتك من زمن بعيد فما أجبتهم إلى طلبهم حتى اليوم.

إبليس: ماذا يريدون مني؟ إني عنهم في شغل.

الأول: يريدون أن يشكوا حالهم إليك لعلك ترق لهم فتنصفهم.

إبليس: شكوى العجزة من عجزهم! ما عندي وقت لسماع مثل هذه الشكوى.

الأول: قابلهم يا مولاي ولو مرة واحدة في السنة.

إبليس: ماذا أقول لهم وماذا يقولون لي؟ لم يعد لديهم ما يعرضونه عليّ من عمل ولم يعد عندي ما أكلفهم به ففيم المقابلة؟

الأول: إنهم ليشكون أيضاً من عدم تكليفك إياهم بالأعمال.

إبليس: أجيباني بالحق والإنصاف: هل تريانهم يقدرون أن يقوموا برسالتي مثل ما يقوم بها اليهود؟

الأول: لا نستطيع أن ننكر أن اليهود قد أصبحوا أبرع وأقدر ولكن تستطيع يا مولاي أن تسند إلى هؤلاء بعض الأعمال الهيّنة.

إبليس: في هذا العصر العبقري أصبحت الأعمال كلها تحتاج إلى المهارة والبراعة.

الأول: إذن فقابلهم هذه المرة فقط وأشرح لهم عذرك هذا لعلهم يقتنعون ويرضون. أما أن تتركهم هكذا بغير شرح ولا مجاملة فهذا كثير على نفوسهم. وإنهم بعدُ لجنودك الأوفياء الذين كافحوا معك طوال الدهور ولم يتخلوا عن طاعتك ومحبتك منذ خرجوا معك على رب العزة.

إبليس: لا بأس. ائذنا لهم بالمثول عندي على ألا يطيلوا المكث.

الأول: شكراً يا مولاي، سننطلق لتزف إليهم هذه البشرى! (يهمان بالخروج)

إبليس: على رسلكما، قولا لهم أن يختاروا جماعة منهم تمثلهم فإني لا أريد أن يجيئني غوغاؤهم فيوجعوا رأسي! (يخرج الشيطانان)

إبليس: (يتأمل في الخريطة من جديد ويتمتم) فانٍ في الفانين ولكن كنا به سيبقى إلى أبد الآبدين.

(يعود الشيطانان ومعهما جماعة من الشياطين من ذكور وإناث فيركعون لإبليس وهو متشاغل عنهم بعد بالخريطة).

إبليس: (يتلفت نحوهم فيجدهم راكعين) ويلكم ماذا حملكم على الركوع؟ إني لم أعوّدكم على هذه المذلة!

الجماعة: ركعنا اليوم يا مولانا استعطافاً وتوسلاً لعلك أن تعود معنا إلى سابق عطفك ورضاك

إبليس: هذا يقصيكم مني أكثر، أنتم لا تصلحون لشيء، لقد ذلت نفوسكم فأصبحتم غير جديرين بصحبتي أنا الذي أبى واستكبر لما أمر بالسجود!

الجماعة: أنت يا مولانا السبب في مذلتنا وهواننا.

إبليس: كذبتم، أنا ما أمرتكم أن تذلوا.

الجماعة: أي إذلال يا مولانا أكبر من أن تهملنا ستين عاماً؟

إبليس: ستين عاماً؟

الجماعة: منذ انعقد ذلك المؤتمر المشؤم في مدينة بال.

إبليس: ألم أقل لكم إنكم لا تصلحون لشيء؟ كيف تسمون ذلك المؤتمر مشؤماً وهو نقطة الانطلاق لبسط ملكوتي في الأرض؟ لولاه لما قامت الحربان العالميتان ولما قامت دولة إسرائيل في فلسطين؟

الجماعة: كل ما يقصينا عنك فهو عندنا مشؤم.

إبليس: هذا برهان جديد على أنكم ما عدتم تهتمون بقضيتي ولا برسالتي فسيان عندكم أن يقترب قيام ملكوتي أو لا يقترب، وأن تقوم الحروب التي تحصد الملايين من بني آدم أو لا تقوم، وأن ينتشر الفساد فيهم أو لا ينتشر. أصبح كل ما يهمكم هو حظ أنفسكم، أصبحتم أنانيين تافهين عاجزين لا تصلحون لشيء!

الجماعة: ما عدت تكلفنا بعمل ففقدنا براعتنا وذكاءنا ونشاطنا وصرنا خاملين.

إبليس: بل عكستم الآية. ما انقطعت عن إسناد الأعمال إليكم إلا حين رأيتكم عاجزين خاملين ووجدت غيركم أنشط وأبرع وأقدر!

الجماعة: أتحت لليهود الفرصة فبرعوا، ومنعتها عنا فحل بنا العجز والخمول.

إبليس: الجدال واللجاج! هذا كل ما بقي لكم من مقدرة. انظروا إلى أبنائي اليهود فإنهم لا يجادلونني بل ينفذون أوامري قبل أن أصدرها إليهم، ويلكم هل كان في وسعكم أن تثيروا الحرب العالمية الأولى أو الحرب الثانية؟ هل أستطيع أن أكل إليكم إقامة مجزرة ثالثة!

الجماعة: لو أرشدتنا لربما استطعنا.

إبليس: ولكنهم استطاعوا دون أن أرشدهم إنهم يعرفون مشيئتي فهم ينفذونها من تلقاء أنفسهم، أفلا يحق لي أن أوثرهم عليكم؟ أفأنسى رسالتي في تحدي رب العزة من أجل خاطركم أنتم العجزة الخملة الحسدة؟!

الجماعة: لو كنا نعلم أن مصيرنا منك الإهمال والإذلال لما أعناك على إبراهيم وموسى وعيسى، وإذن لما استطعت أن تختطف بني إسرائيل من أيديهم فتجعلهم شعبك المختار.

إبليس: ها. ندمتم على المجهود الذي بذلتموه؟

الجماعة: نعم.

إبليس: هذا برهان آخر! ما كفاكم أنكم عاجزون حتى أضفتم إلى العجز قلة الإخلاص للرسالة وقلة والاهتمام.. فارقوني إذن فلا حاجة بي إليكم.

الجماعة: الآن تتخلى عنا بعد ما ربطنا مصيرنا بمصيرك؟

إبليس: أنتم الذين تخليتم عن الرسالة!

الجماعة: كلا ما تخلينا عنها وما زلنا لها مخلصين.

إبليس: لو صح ما تقولون لسركم أن تروها تتقدم على أيدي غيركم وتسجل انتصاراتها الباهرة فهكذا يكون الإخلاص!

الجماعة: هل كان يسرك أنت لو تخلى هؤلاء اليهود عنك وخدموا الرسالة دون أن يعترفوا بك؟

إبليس: كلا لن يفعلوا ذلك.

الجماعة: لو فعلوا أكان يسرّك؟

إبليس: نعم.

الجماعة: هذا غير معقول!

إبليس: (يستشيط غضباً) تباً لكم! كيف تجرؤون على جدالي بهذه اللهجة؟ أو قد غركم حلمي وطول احتمالي؟

الجماعة: ماذا تستطيع أن تفعل بنا بعد؟

إبليس: أنتم مطرودون من خدمتي، اغربوا من وجهي! اذهبوا عني.. فارقوني إلى الأبد! (يقفون واجمين لا يدرون ماذا يفعلون). ماذا تنتظرون بعد؟ قد استغنيت عنكم.. أما تفهمون؟

الثاني: هذه إهانة لا نقبلها منك!

إبليس: وما شأنك أنت؟

الثاني: إنهم قومي وقد أهنتهم فكأنك أهنتني!

إبليس: ها.. أنت إذن كنت المحرّض!

الثاني: ليسوا بحاجة مني إلى تحريض.

إبليس: فماذا تريد؟

الثاني: اعتذر لهم واسحب كلمتك وإلا فلأذهبن معهم عنك!

إبليس: اذهب! اذهب معهم يا وغد! أنت أيضاً تأكل قلبك الغيرة من شعبي المختار!

الثاني: نحن بني النار لن ندعك تركب على ظهورنا أبناءك القردة!

إبليس: أيها الحمير العُرج! إني لأربأ بأبنائي سادة العالم أن يمتطوا ظهوركم! اغرب من وجهي!

الثاني: هيا بنا يا قوم! لا نحن أقل منه ولا هو أعظم من رب العزة! (يخرج فيخرجون وراءه)

إبليس: (للشيطان الأول) وأنت أتريد أن تذهب معهم؟

الأول: لا يا مولاي إني باق في خدمتك ولن أفارقك أبداً.

إبليس: وتعترف بالفضل لأبنائي سادة العالم؟

الأول: أعترف يا مولاي.

(ستار)

المشهد الرابع

* يرفع الستار عن الشيطان الأول واقفاً وحده يتأمل في الخريطة.

* يدخل الشيطان الثاني متسللاً حتى يدنو من الشيطان الأول.

الثاني: (بصوت خافض) أين مولانا؟

الأول: (يجفل مرتاعاً ويلتفت خلفه) أنت؟ ماذا جاء بك؟

الثاني: أين مولانا؟

الأول: لم تسأل عنه؟ ماذا تريد؟

الثاني: أريد أن أتحدث إليك دون أن يسمعني.

الأول: إنه في الكنيست يشهد جلسة هناك. خبرني ماذا بك؟

الثاني: (يكاد يغلبه البكاء)...؟

الأول: ما خطبك؟ ماذا دهاك؟

الثاني: إني نادم على ما فعلت.

الأول: اختلفت معهم؟ تخلوا عنك؟

الثاني: بل هم أيضاً عادوا معي نادمين.

الأول: ما خطبكم؟ ماذا جرى؟

الثاني: أصبحنا شرداء طرداء في هذا الكون لا ندري ماذا نعمل ولا أين نذهب، كلما اقتربنا من كوكب سدت أبوابه في وجوهنا، فقررنا أن نجتاز مدار الكواكب ونجوس خلال الفضاء المطلق لعلنا نجد مكاناً نأوي إليه ولكنا ما كدنا نفعل حتى دارت رؤوسنا من هول ما شهدناه، فقد خيّل إلينا أن الفضاء يدور بنا في سرعة مخيفة حتى ما عدنا نبصر شيئاً فكأننا عُمى يسيرون في ظلام دامس. ثم طغى علينا إحساس غريب بأن أجسامنا تريد أن تنفصل ذراتها بعضها عن بعض لتتناثر في الفضاء.

الأول: يا للهول فماذا صنعتم؟

الثاني: تماسكنا وتلاصقنا حتى صرنا كتلة واحدة فكررنا كذلك على أعقابنا إلى أن خرجنا من الفضاء المطلق ودخلنا في مدار الكواكب مرة أخرى فتنفسنا الصعداء وأخذنا يهنئ بعضنا بالنجاة وإذا كثير منا قد فقدوا فلم يعد لهم أثر.

الأول: أين ذهبوا؟

الثاني: لا ندري.. ابتلعهم الفضاء.

الأول: يا للكارثة! ثم ماذا؟

الثاني: طفقنا نتشاور فأجمعنا أمرنا على أن نعود إلى زعيمنا تائبين وليفعل بنا ما يشاء.

الأول: خيراً صنعتم فإني أيضاً قد شعرت بالوحشة لما مضيتم عنا.

الثاني: أملنا فيك أن تشفع لنا إليه.

الأول: على شرط ألا تتعرضوا لشعبه المختار مرة أخرى.

الثاني: نعاهدك أننا لن نتعرض لهم مرة أخرى.

الأول: لا من قريب ولا من بعيد.

الثاني: لا من قريب ولا من بعيد.

الأول: إنهم يقومون برسالتنا خيراً منا فماذا علينا لو تركناهم واسترحنا نحن؟

الثاني: صدقت. سنخلد نحن إلى الراحة وسنرى ما يفعل قروده هؤلاء!

الأول: ويلك ما زلت تبطن الثورة في نفسك.

الثاني: معذرة إنما هي زلة لسان.

الأول: احفظوا ألسنتكم جيداً إن شئتم أن يرضى عنكم.

الثاني: سادة العالم.. سندعوهم سادة العالم كما يدعوهم هو!

الأول: (ينظر إلى ناحية الباب) وي! إنه قد أقبل!

الثاني: (مرتاعاً) لا أريد أن يراني قبل أن تشفع لنا إليه.

الأول: انتظرني في الخارج. (ينسل الثاني خارجاً)

(يدخل إبليس عابس الوجه ملتاث الخطى يترنح من إعياء ويأس)

إبليس: أدركني! أدركني!

الأول: (يخف إليه فيأخذ بيده حتى يجلسه على كرسيه وهو يلهث ويتأوه) ما خطبك يا مولاي؟ ماذا أصابك؟

إبليس: هذا أسوأ يوم مر بي منذ خرجت على رب العزة.

الأول: ماذا جرى؟

إبليس: أنكروني وكفروا بي!

الأول: من؟

إبليس: أبنائي.

الأول: اليهود؟

إبليس: نعم.

الأول: تخلوا عن رسالتك يا مولاي؟

إبليس: يا ليت. لو تخلوا عن رسالتي لكان أهون.

الأول: ماذا فعلوا؟

إبليس: سرقوا رسالتي مني ثم أنكروني.. اعتبروني وهماً من الأوهام.. اعتبروني خرافة!

الأول: لعلهم قصدوا رب العزة بإنكارهم.

إبليس: كلا لقد كفروا برب العزة من قديم ولكنهم كفروا بي أيضاً اليوم.

الأول: هوّن عليك يا مولاي فلن يضيرك إنكارهم ما داموا يقومون برسالتك.

إبليس: ويلك ليضحكن رب العزة وملائكته ملء أفواههم من خيبة مسعاي.. لقد اصطفيت هؤلاء اليهود، واتخذتهم شعبي المختار، وقضيت القرون أنفخ فيهم من روحي، وأفيض عليهم من ذكائي وعبقريتي، وأجمع في أيديهم الذهب ليسودوا به على العالمين، حتى إذا أقمت لهم دولتهم في فلسطين وأوشكت أن أبسط بهم ملكوتي على الأرض لأطاول به ملكوت السماء تخلوا عني وأنكروا وجودي. أنا الذي أكدت وجودي كما لم يؤكد وجوده مخلوق قبلي ولا بعدي حين تحديت رب العزة وأعلنت عصيانه في وجهه، يجيء هذا الشعب الذي اصطفيته ليقوم برسالتي ويكون عوني في إقامة ملكوتي وحمل الناس على عبادتي وتقديسي، فيلغي وجودي ويلغي التاريخ المجيد الذي سجلته لنفسي في كتاب الزمن!

الأول: هذا ما كان جنودك المخلصون يتوجسون منه أن يقع.

إبليس: أجل يا ليتني استمعت لشكواهم فقد كانوا على حق. يا ليتني ما طردتهم من عندي! إذن لكانوا معي في محنتي اليوم.. واشقوتاه.. إني وحيد. وحيد.. وحيد.

الأول: كلا يا مولاي ما أنت بوحيد.

إبليس: لأنك أنت معي؟ ويحك أأنازع رب العزة سلطانه ولا سلطان لي إلا على مخلوق واحد؟.. أي هزؤ هذا وأية سخرية!

الأول: كلا لست وحدي معك.. كل جنودك من بني النار معك.

إبليس: ماذا تقول؟

الأول: أتقبلهم يا مولاي إن عادوا إليك؟

إبليس: من غير شك.

الأول: أبشر إذن فقد عادوا إليك نادمين.

إبليس: أين هم؟

الأول: سأدعوهم إليك.. (يخرج)

إبليس: (ينهض من مقعده) وابشراي.. إنهم سينقذونني من هذه الوحدة القاتلة! لكن ماذا أنا صانع بهم؟ هل أستطيع أن أستعيد بهم سلطاني على هؤلاء اليهود أو أسترد رسالتي من أيديهم؟ هذا محال.. لقد غلبونا على كل شيء وأنا السبب.. أجل.. كنت أنا السبب.. يا ويلتا ماذا أصنع؟ ماذا أصنع؟

(يعود الشيطان الأول ومعه الشيطان الثاني وخلفهما جماهير الشياطين حتى يمتلئ بهم المكان)

إبليس: (يعانق الشيطان الثاني) أهلاً بك.. مرحباً بكم جميعاً يا أبنائي الأعزاء.. لقد ندمت على ما كان مني في حقكم وأيقنت ألا غنى لي عنكم أبداً.

الثاني: شكراً لك يا مولاي.. لقد ندمنا نحن أيضاً على ما كان منا، وأيقنا أننا لا نستطيع أن نعيش بغير قيادتك وزعامتك.

إبليس: (للشيطان الأول) هل أبلغتهم ما فعل بي هؤلاء اليهود؟

الأول: نعم يا مولاي فحزنوا جميعاً واستاءوا.

إبليس: اللوم كله عليّ.. أنا بالغت في تدليلهم فبطروا نعمتي وجحدوا فضلي.

أصوات: لا تبتئس يا مولانا فنحن معك! لنجتهدن منذ اليوم! لنثقفن أنفسنا في كل فرع من فروع المعرفة. لنأخذن بأساليب هذا العصر ولن يهدأ لنا بال حتى نتفوق مرة أخرى على هؤلاء اليهود! لن ندعك تعتمد على غيرنا أبداً.

إبليس: يا أبنائي الأعزاء ليس في مستطاعكم أن تتفوقوا على هؤلاء ولو قضيتم عشرين ألف سنة. (همهمة استياء وخيبة أمل) لا يسوءنكم قولي فما أردت أن ألومكم! أو أغضّ من قدركم.

أصوات: ألا تولينا شيئاً من ثقتك؟ ألا تتيح لنا فرصة للنجاح؟

إبليس: يا أبنائي إني أعرف بهؤلاء منكم وأعرف بكم من أنفسكم.

الثاني: أنت إذن لا ترانا أهلاً لأن نكون جنودك؟

إبليس: بلى يا أبنائي أنتم جنودي وستبقون جنودي إلى الأبد ولكني أدعوكم إلى سبيل آخر: ماذا لو دعوتكم أن تتوبوا إلى رب العزة؟

الجمع: نتوب إلى رب العزة؟! (ينظر بعضهم إلى بعض متعجبين)

إبليس:هل تطيعون لو دعوتكم؟

الثاني: وأنت يا مولانا تتوب معنا؟

إبليس: أنا على رأسكم.

الجميع: إذن نطيعك وليكن ما يكون!

الأول: والرسالة يا مولاي ماذا يكون مصيرها؟

إبليس: الرسالة لم تعد رسالتنا، قد أصبحت رسالة هؤلاء اليهود. علام نتحمل وزرها وقد اغتصبوها منا واستأثروا بها من دوننا ولم يتركوا لنا حتى التعلل بمجدها الكاذب؟ فلنلقها عن ظهورنا إلى ظهورهم ليذوقوا وبال أمرهم يوم الدين، ولنعد نحن تائبين إلى خالقنا رب العزة ورب العرش العظيم.

الثاني: لكن هل يقبل توبتنا رب العزة؟

إبليس: إن يقبل ففضلاً منه وإن لم يقبل فعدلاً منه، وما علينا إلا أن نقرع بابه.

الجميع: قدنا إلى أي سبيل تشاء فنحن معك.

إبليس: هيا إذن توجهوا معي إلى رب العزة بقلوبكم خاشعة منيبة وأمنوا على دعائي:

(يرفع يديه إلى السماء فيفعلون مثله في خشوع وابتهال) اللهم إني أعلم أن الكبرياء هي التي أخرجتني من طاعتك وأنك كنت خليقاً أن تقبل توبتي لو أنني تبت من معصيتك، ولكني تماديت في كبريائي حتى تحديتك فاستوجبت الطرد من رحمتك. اللهم إنك أمرتني بالسجود لآدم لا لتكرمه وتذلني، فقد خلقتني من نار وخلقته من طين، ولكن لتبلو مدى إخلاصي في عبادتك، واعترافي بربوبيتك، فترفعني فوق سائر ملائكتك درجات، إذ كنت قد خصصتني من دونهم جميعاً بشرف الحرية وكرامة الاختيار، غير أن كبريائي أنستني يومئذ أنك ما أمرتني بالسجود لآدم إلا لأنك لم تجد ارفع قدراً مني ولا أخس قدراً منه، فالسجود له إنما هو سجود مضاعف لجلالتك. اللهم إن سقطت أمس فيما بلوتني فَبُؤْتُ بغضبك ولعنتك قابلني اليوم مرة أخرى لعلي أفوز فيها برضاك ورحمتك فإنك أنت المبديء المعيد. مرني اليوم بالسجود لأهون بعوضة أو أحقر حشرة من صنع يدك، فستجدني أمرّغ جبهتي في التراب خاشعاً متضرعاً ألف ألف عام! اللهم هأنذا أذل كبريائي لكبريائك، وأخلع رداء غروري لرداء عظمتك، تائباً إليك توبة لم يتبها إليك أحد قبلي ولن يتوبها أحد بعدي، إذ لم يعصك معصيتي أحد ولن يعصيك معصيتي أحد، إلا أن تشاء مما يقصر عنه علمي وأحاط به علمك، فاقبل اللهم توبتي فإنك أنت التواب الرحيم! آمين.

الجميع: آمين.. آمين..

(يسمع صوت علوي كأنه آت من كل جهة)

الصوت: إبليس:! إبليس:!

إبليس:  جبريل! أهذا صوتك يا جبريل؟

الصوت: نعم.

إبليس:  ما أسعد أن يتلاقى صوتانا بعد هذا الفراق الطويل؟

الصوت: قد سمع الله دعاءك يا إبليس!

إبليس:  (يهتف فرحاً) الحمد لله رب العالمين.

الجميع: (يهتفون) الحمد لله رب العالمين!

الصوت: فغفر لك ما أبيت السجود لآدم.

إبليس:  حمداً لك اللهم.

الجميع: حمداً لك اللهم!

الصوت: وتجاوز لك عما تحديته عز وجل!

إبليس:  حمداً لك اللهم!

الجميع: حمداً لك اللهم!

الصوت: وعفا عما دون ذلك مما جنيت.

إبليس:  حمداً لك اللهم يا عفو يا رحيم.

الجميع: حمداً له اللهم يا عفو يا رحيم.

الصوت: ولكنه لم يقبل توبتك حتى يتوب معك قوم كانوا من الموحّدين فرددتهم أسفل سافلين.

 إبليس: مولاي ما أنا بإله فتكلفني مالا يقدر عليه سواك ولكني برئت منهم اليوم فليسوا مني ولست منهم في شيء.

الصوت: الله جل جلاله أحكم وأعدل من أن يقبل توبة إبليس واحد إذا ترك من خلفه ستة عشر مليون إبليس يفسدون في كل ركن من أركان الأرض!

إبليس: اللهم هؤلاء شياطيني سأجعلهم جميعاً يتوبون معي إليك.

الصوت: هيهات إن إبليساً واحداً ليعدل عنده كل هؤلاء الشياطين.

إبليس: إنه إذن لا يحب لي ولا لشياطيني أن نتوب.

الصوت: بل التوبة مقبولة منك إن تاب معك اليهود!

إبليس: لو أراد توبتي حقاً لما علق قبولها بأمر مستحيل.

الصوت: أما شياطينك فمقبولة منهم متى شاؤوا.

الجميع: إذن فإنا تائبون! إنّا تائبون!

إبليس: (يصيح) ويلكم هذه دسيسة! أين يذهب بعقولكم؟ لو شاء حقاً أن يتوب عليكم لتاب علي، ولكنه إنما يريد أن يستدرجكم ليمكر بكم فهو أعظم الماكرين.

الجميع: صدقت يا مولانا إنه أعظم الماكرين.

الصوت: ما زلت يا إبليس على كفرك وعنادك. إن الكبرياء التي دفعتك أمس إلى الخروج على الكبير المتعال هي التي دفعتك اليوم إلى استغفاره لتواري به خزيك لما شب أبناؤك عن الطوق فأنكروك وجحدوك.

إبليس: (في شموخ واعتزاز) لأعودن إليهم ولأصالحنهم فلعمري لأن أقبل الضيم ممن أمنُّ عليهم أهون عندي من أن أقبل الضيم ممن يمن عليّ! ألا فقل له يا جبريل إني إنما عرضت التوبة لأبلوه حتى أثبت لشياطيني ولملائكته أنه لا يعفو ولا يرحم ولا ينسى الانتقام! وهأنذا قد بلغت من ذلك ما أريد. قل له إني تحديته أمس وأنا إبليس واحد فكيف أرجع عن تحديه اليوم ومعي ستة عشر مليون إبليس! قل له إن انتصاري على الأبواب وملكوتي يوشك أن ينبسط على الأرض! قل له إني قد دنست الأرض المقدسة ولأدنسنّ من بعدها العالم ثم لأغزون السماوات ولأنازلنه في الكون المطلق!..

جبريل! جبريل! ما لك لا تجيب؟ أوقد خشيت أن تحمل إليه قولي هذا؟ فانظر إذن إلى عظمة من تفوه به لا بأس.. إن لم تنقل إليه قولي فإنه هو يسمع!!

الجميع: (يهتفون له معجبين) بديع! بديع! انتصرت على جبريل! هزمته هزيمة ساحقة! أفحمته ببيانك فاندحر! النصر لك والمجد والعظمة لك.

إبليس: (مزهواً) هل فيكم بعد من يريد أن يتوب؟

الجميع: لا أحد! لا أحد! نحن معك إلى الأبد! إلى الأبد!

(ستار)

 المشهد الخامس

* يرفع الستار عن إبليس وحده يذرع المكان جيئة وذهاباً وهو مستغرق في تفكير عميق.

إبليس: (يتمتم) ستة عشر مليون إبليس! قد صرت أنا فرداً من هؤلاء، واخيبتاه وواعاراه! أبعد هذا التحدي الطويل لرب العزة، وهذا الجهد العنيف في منازلته، ينتهي بي الحال إلى هذا التضاؤل فأصبح فرداً من ستة عشر مليون مخلوق في الأرض؟ أين إذن امتيازي على الخليقة كلها؟ هذه لا ريب مكيدة جديدة من رب العزة ليذلني ويمرغ كبريائي في التراب! كلا كلا لن أرضخ لهذا ولن أستكين. لأحبطن كيده ولأبطلن تدبيره! (يضع رأسه بين كفيه ويضغط بهما عليه في قوة) أيها الذهن المتوقد في رأسي ألا ترسل قبساً يضيء لي هذه المشكلة المظلمة؟ إلى متى أقدح فيك فلا تنقدح؟ هل علي أن أكسر هذه الجمجمة لأستخرج من تلافيفك الحل الذي أريد؟ (يتداعى على كرسيه في يأس فيطرق حتى يكاد رأسه يلامس ركبتيه وقد دفنه بين ذراعيه) أواه كيف السبيل؟ لابد من حل. لكل مشكلة حل. إنه موجود في ذهني لا ريب، ولكن كيف أستخرجه؟ (يرفع رأسه فجأة) وي! إنه لمع! لكني لا أرى شيئاً. لا بأس.. انتظر قليلاً.. سيلمع مرة ثانية.. (يفتح عينيه حتى يرتفع حاجباه ويصر بأسنانه وهو يغمغم) سيلمع مرة ثانية.. سيلمع (يقفز من الأرض) وجدتها! وجدتها (يتمايل في نشوة غامرة) التهجين.. التهجين! مزج هؤلاء بهؤلاء. حل رائع! سيرفع الشياطين قليلاً إلى مستوى اليهود ويخفض اليهود قليلاً عن مستواي فأبقى أنا وحدي بلا نظير! (يتلفت يمنة ويسرة كأنه يخشى أن يسمعه أحد ثم يرفع رأسه إلى السماء) أنت تسمع؟ لا أبالي! ينبغي أن تسمع أنت لتعلم أن كيدي أنا أيضاً متين! (ينكث على ظهر كرسيه كمن يضرب جرساً لاستدعاء أحد).

إبليس: (يجلس) ادنوا مني فسأفضي إليكما بقرار خطير.

الشيطانان: خير يا مولانا.

إبليس: كنت أوصيتكما بالتفكير في مشكلة إخوانكما الشياطين فهل اهتديتما إلى حل؟

الأول: لا يا مولاي لم يفتح عليّ بحل.

إبليس: (الثاني) وأنت؟

الثاني: لست أراها في حاجة إلى حل، فقد قبلوا جميعاً حين عادوا إليك نادمين أن تصنع بهم ما تشاء، إن رأيت أن تسند إليهم عملاً فهم راضون، وإن رأيت أن تتركهم بلا عمل فهم راضون.

إبليس: ويلك ما جئتنا بجديد ولكن كيف يجوز لنا أن نستغل ضعفهم وانكسارهم فنتركهم بلا عمل ونحن نعلم أن ذلك يؤذيهم ويحز في نفوسهم.

الأول: ما أبرّك يا مولاي بجنودك وأتباعك!

إبليس: إنهم لأهل لذلك. لن أنسى أبداً يوم أغراهم جبريل ليتوبوا إلى رب العزة نكاية بي فأبوا جميعاً وآثروا البقاء معي إلى النهاية.

الثاني: صدقت يا مولاي. إن عجزنا أن نجد لمشكلتهم حلاً فإنه لن يعجزك.

إبليس: اعترفتما بالإفلاس؟

الشيطانان: اعترفنا.

إبليس: عليّ بهم الساعة لأفضي إليهم بما عندي!

الثاني: ألا تكاشفنا به أولاً؟

إبليس: لو كان عندكما رأي يفيد لفعلت، حسبي منكما أن تؤيداني في كل ما أقول وخلاكما ذم. انطلقا فادعُوَا الرؤساء والرئيسات. (يخرج الشيطانان ثم يعودان ومعهما الرؤساء والرئيسات حتى يمتلئ بهم المكان).

إبليس: يا معشر بني النار إني سائلكم فأجيبوني هل يرضيكم أن تبقوا هكذا بلا عمل؟

الجمع: لا يا مولانا.. نريد أن نعمل.

إبليس: لو استطعت أن أستغني بكم اليوم عن اليهود لانتزعت رسالتي من أيديهم فأعدتها إليكم، ولكنكم تعلمون أننا لم نعد نستطيع الاستغناء عنهم بعدما صاروا أبرع منكم وأمهر، لذلك قررت أن تشتركوا معهم في العمل فهل تقبلون؟

الجمع: نقبل يا مولانا.. نقبل!

إبليس: لقد فكرت طويلاً فلم أجد إلا سبيلاً واحداً هو أن تمتزجوا بهم وتندمجوا فيهم فتقتبسوا من براعتهم وتشتركوا فيما يعملون.

الجمع: لكن كيف يا مولانا نندمج فيهم!

إبليس: الذكور منكم يتسربون في رجالهم فتكون لكم زوجاتهم.

الذكور: تكون لنا زوجاتهم؟

إبليس: نعم.

الذكور: ويحملن منا؟

إبليس: يحملن ويلدن.

الإناث: ونحن يا مولانا؟

إبليس: تتسربن في نسائهم فيكون لكن أزواجهن.

الإناث: ونحمل منهم؟

إبليس: تحملن وتلدن.

صوت: ولمن يكون الأولاد؟ لنا أم لهم؟

إبليس: سيكونون جيلاً هجيناً منكم ومنهم فلا يقدر اليهود بعد ذلك أن يستأثروا بالرسالة من دونكم أو يتربعوا وحدهم على عرش ملكوتي إذا انبسط. موافقون؟

الجمع: موافقون! موافقون!

صوت: هل لي أن أسأل أيضاً يا مولاي؟

إبليس: سل ما تشاء.

الصوت: هؤلاء اليهود يموتون ونحن لا نموت.

إبليس: ستموتون أنتم كما يموتون.

الجمع: نموت؟ كلا لا نقبل إذن لا نريد أن نموت! نريد أن نبقى خالدين!

إبليس: ويلكم ليس في المستطاع الجمع بين التوالد والخلود.

الجمع: ما الذي يمنع؟

إبليس: وجهوا هذا السؤال إلى غيريّ وجهوه إلى ذاك الذي وضع هذه السنّة في الخليقة!

الجمع: غيّرها يا مولانا بدّل هذه السنة.

إبليس: لا تطلبوا ذلك مني اليوم.. اطلبوه مني يوم يتم انتصاري عليه.

الإناث: قد قبلنا يا مولانا. نشتهي أن نلد ولا بأس أن نموت.

الذكور: لكنا لا نريد أن نموت.

إبليس: ويلكم لا تكونن النساء أهدى سبيلاً منكم. أتدرون ما هذا الموت الذي تخشون منه؟ إنما هو نوم طويل يستريح صاحبه من عناء الحياة وضجيجها ثم يبعث حياً من جديد.. يا ليته كان ضرباً من العدم! إذن لعجز رب العزة أن يحاسب أحداً أو يعاقبه. لقد قضى على كل ذي روح بالخلود، لا فرق بين من يموت في هذه الحياة ومن لا يموت. إلا أن الأول يؤذن له أن يستريح والثاني لا يؤذن له أن يستريح. الأول ذو حياة واحدة لا تتجدد، والثاني تتجدد حياته في ذريته جيلاً بعد جيل. الأول لا يشعر بقيمة الزمن فيخلد إلى التسويف والتأجيل، والثاني يشعر بقصر الحياة فيبادر إلى استخلاص ما يمكن استخلاصه منها بالعمل الدائب قبل أن يوافيه الأجل المحتوم، الأول تبقى تجاربه في رأسه حتى تصدأ على مر الدهور. والثاني تنتقل تجاربه من جيل إلى جيل فتتجدد وتنصقل، وهذا الفرق هو الذي جعل اليهود يتفوقون عليكم حتى في هذه الرسالة التي كانت رسالتكم في الأصل!

الثاني: ائذن لي يا مولاي أندمج من اليوم؟ لأبحثن لي عن ساق كساق المجدليّة أموت بعدها قرير العين! (يضحك إبليس).

الأول: أو تذكر تلك الساق بعد؟

الثاني: كيف أنساها يا صاح؟ تباً لخلود يحول بيني وبين هذه المُتع!

الأول: صدقت، ما قيمة هذا الخلود الممل إذا قيس بالعيش البهيج المختصر؟ ائذن لي أنا أيضاً يا مولاي.

إبليس: كلا.. أنتما وزيراي يجب أن تبقيا معي فإني أخشى إن أفردت وحدي أن تغريني نفسي فأندمج أنا أيضاً! (يضحك الجميع)

أصوات: اندمج يا مولانا اندمج معنا!

إبليس: ويلكم منذا يرعى الرسالة بعدي؟ منذا يدفع عنها مكايد رب العزة؟ بحسبي يا أبنائي الأعزاء أن أراكم تتمتعون وتتوالدون وتتجددون فأشعر كأنني أتمتع فيكم وأتوالد وأتجدد!

الشيطانان: ونحن؟

إبليس: أنتما مقضي عليكما بالبقاء معي في هذا الخلود الممل حتى يتم انتصارنا على رب العزة فتذوقا معي لذة الانتصار.

الثاني: ساق كساق المجدلية ألذ وأمتع.

إبليس: صه لا ينبغي أن تكون أنانياً، فعلى كل منا أن يؤدي واجبه بكل ما يملك من قوة وصبر!

الثاني: عجبي من هؤلاء كيف يؤثرون الخلود بعد ويخشون الموت.

الجمع: كلا صرنا لا نريد الخلود ولا نخشى الموت.

إبليس: رضيتم الآن بالاندماج؟

الجمع: نعم..

إبليس: جميعاً؟

الجمع: جميعاً..

إبليس: بوركتم. الآن اطمأن قلبي وقوي أملي في النصر.

الثاني: ماذا تنتظرون؟ لو كنت مكانكم لكنت أول من ينطلق لأتخير أجمل زوجة فأندمج في زوجها!

الأول: أجل.. طوبى للسابقين، السابقون هم الفائزون.

شيطانة: وطوبى للسابقات، السابقات هن الفائزات.

الجمع: (يهتفون) إلى الاندماج! إلى الاندماج.

(تضطرب صفوفهم محاولين الخروج والانطلاق)

إبليس: (يصيح بهم) على رسلكم! على رسلكن! انتظروا قليلاً.. انتظرن قليلاً.

(يتوقف الجمع ويسكن من جديد)

أولادي الأعزاء يجب أن أزودكم بنصيحة قبل أن تفارقوني، اعلموا أولاً أنني قد سحبت ثقتي من اليهود ووضعتها فيكم فأنتم سندي وعليكم اعتمادي.

الجمع: شكرانك شكرانك..

إبليس: إنهم متفوقون عليكم في فنون الشر والإثم والغواية فاحرصوا على تلقيها عنهم واقتباسها منهم حتى تستردوا شيئاً من مكانتكم واعتباركم.. أتسمعون؟

الجمع: نعم نعم..

إبليس: ولكن اليهود قوم تياهون يستخفهم العجب والغرور فينسيهم أحياناً ما يجب عليهم أن يلتزموه. وقد رأيتكم كيف ركبهم الغرور أخيراً فأنكروا وجودي واعتبروني وهماً من الأوهام.

الجمع: أوغاد! أنذال! ناكرون للجميل! كفارون للنعم!

إبليس: لا بأس. ليس يعنيني كثيراً أن يعرفوا فضلي أو يجحدوه ما داموا قائمين برسالتي في العالم على الوجه الأكمل. ولكني أخشى على ذلك السر الخطير أن يكتشفوه؟

الجمع: ما هو يا مولانا؟ ما هو ذلك السر؟

إبليس: هو أني قد سلختهم من الإنسانية فلا تربطهم بالإنسان غير صلة العداوة والبغضاء إلى أن يقوم ملكوتي الذي يسمونه ملكوتهم فينتقموا من جميع البشر ويسخروهم تسخير الأنعام. أو ما تعرفون ذلك؟

الجمع: بلى نعرف ذلك.

إبليس: وقد أوصيت أسلافهم فبالغوا في كتمان هذا السر حتى إنهم كانوا ينقمون عليه الحجب والأستار بما ينادون به في كل عصر من الشعارات الإنسانية المختلفة ليصرفوا عيون الناس عن حقيقة ما يخفون. ولكني أخشى اليوم من هؤلاء أن يستخفهم الغرور فتجري ألسنتهم بما يفتح عين الإنسان على هذا السر قبل أن يتم قيام الملكوت. أوه! لقد أدركت خطئي إذ اعتمدت عليهم وحدهم. ما كان ينبغي لي وأنا أحارب رب العزة أن أضع بيضي كله في سلة واحدة!

الثاني: ما يمنعك اليوم يا مولاي أن تصحح هذا الخطأ فتوزع بيضك في سلال مختلفة؟

إبليس: هيهات. قد فات الأوان ولم يبق إلى التراجع من سبيل. البيض كله اليوم في سلة واحدة وعليكم أنتم يا جنودي أن تحرسوا البيض وتحرسوا السلة!

الجمع: كيف يا مولانا؟ أرشدنا ماذا نفعل؟

إبليس: إذا أنتم اندمجتم فيهم فليكن همكم الأكبر أن تتدسسوا إلى سرائرهم فتوحوا إليهم بالتزام التواضع ونبذ الغرور.

أصوات: أجل لنفعلن ذلك! لنوحين إليهم بأن يعترفوا بربوبيتك ويثوبوا إلى عبادتك!

إبليس: هذا لا يعنيني فهم يعبدون الذهب وهو مظهري في الأرض. ولكن الذي يعنيني هو أن يحرصوا على سري الأكبر ألا ينكشف للناس.

صوت: ماذا يحدث يا مولانا لو انكشف؟

إبليس: ألا تدرون ماذا يحدث؟ سلوا الجراثيم التي كانت تفتك بالإنسان منذ كان دون أن يشعر بوجودها: ماذا دهاها لما انكشف سرُّها للإنسان؟ ألم يشنَّ عليها حرب الإبادة دون هوادة؟

الجمع: بلى.

إبليس: فكذلك سيكون المصير إن انكشف هذا السر الخطير.

أصوات: دعهم يلاقوا هذا المصير! دعهم يبادوا لتستريح منهم!

إبليس: ويلكم أنسيتم أن مصيرنا مرتبط بمصيرهم؟ إن باد هؤلاء فستحلُّ بنا الهزيمة.

الجمع: تحلّ بنا الهزيمة؟!

إبليس: وسيعلو الخير على الشر.

الجمع: يعلو الخير على الشر؟!

إبليس: وستبطل الحروب.

الجمع: تبطل الحروب؟

إبليس: ويسود السلام في الأرض!

الجمع: يسود السلام؟

إبليس: وأنتحر!

الجمع: ماذا تقول؟ تنتحر؟

إبليس: ماذا يبقى أمامي يومئذ غير الانتحار؟

الجمع: معاذك يا مولانا معاذك! حاشاك! حاشاك!

أصوات: لنحرسنّ البيض والسلة

        : ولن تحل بنا الهزيمة!

        : لن تبطل الحروب!

        : لن يسود السلام!

        : ولن يعلو الخير على الشر!

        : أنت المنصور إلى الأبد!

        : لك المجد ولك النصر!

إبليس: بوركتم! بوركتم! انطلقوا الآن إلى حيث تندمجون! انطلقوا وموعدكم معي يوم يقوم الملكوت!

(ينطلق الجمع خارجين في قوة وعزم).

إبليس: (ينظر إلى شيطانيه في نشوة وجذل) حقاً إنهم لجنود مخلصون! لن أهزم أبداً ومعي هؤلاء وبنو إسرائيل؟

(يهبط فجأة نور سماوي فيتركز عمودياً على وسط المسرح. ويرتاع إبليس وشيطاناه فيبتعدون عن عمود النور. ثم يسمع صوت من عل).

الصوت: يا بنات أورشليم!

الشيطان الأول: وي! يشبه صوت عيسى!

الصوت: يا بنات أورشليم! لا تبكين عليّ.. وعلى أنفسكن وأولادكن فابكين! أيام يقولون طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي التي لم ترضع! أيام ينادون الجبال أن تسقط عليهم، والآكام أن تكون لهم غطاء!

الشيطان الثاني: أجل هذا صوت عيسى!

(يسمع صوت ثان)

الصوت الثاني: }وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله. ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين{!

الشيطان الأول: وهذا كأنه صوت محمد!

الشيطاني الثاني: بل هو صوت محمد!

إبليس: (ثائراً في غيظ) كلا كلا لقد هلك عيسى ومات محمد!

(يسمع صوت ثالث)

الصوت الثالث: رويدك يا إبليس! الكلمة لم تمت!

إبليس: اسمع يا جبريل! لن تهزمني الكلمة.. أنا فوق الكلمة!

الصوت الثالث: استمع إليها إذن!

إبليس: كلا لن أستمع! قد محوت الكلمة!

الصوت الأول: الأرض والسموات تزول وكلماتي لا تزول!

الصوت الثاني: }إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون{!

الصوت الأول: طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناء الله يدعون!

الصوت الثاني: }يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين{!

(يستولي الهلع والخوف على إبليس وشيطانيه فيسدون آذانهم بأصابعهم ويغمضون عيونهم)

قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام!

"ستار الختام"