ثماني عشرة جلدة

ثماني عشرة جلدة *

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

- 1 -

في منزل الجنرال باركر (القائد العام) في القدس- يتحدث الجنرال باركر إلى زائره الميجر برت

باركر(ينفث دخان سيجارة) هه ياصديقي، إنني الآن كما ترى: أسمع وكأني لا أسمع، وأرى وكأنني لا أرى هذه هي الأوامر.

برت: لقد أحسنت صنعاً بمجاراتك للأحوال يا جنرال باركر، فأنت بهذا تخدم الإمبراطورية من جهة، وتسدى بعض الخير إلى هذا الشعب البائس المضطهد من جهة أخرى0

باركر: (يقهقه ساخراًُ): لا تقل هذا يا برت. فالحق أنني إنما آثرت السلامة وراحة البال. أما خدمة الإمبراطورية فلها في رأيي- لو كان لي رأى يسمع- أسلوب آخر.

برت: ما من أحد يشك في إخلاصك للإمبراطوريةٍ، بيد أنك أغلب الظن قد تسرعت واندفعت بوحي العاطفة حين أمرت الجنود البريطانين على أثر نسف الفندق الملك داود بمقاطعة مقاهي اليهود ومنتدياتهم. ولعلك لو ترويت قليلاً لما أقدمت على إصدار ذلك الأمر.

باركر: كلا فما أصدرته إلا بعد أن أنعمت النظر ودرست النفسية اليهودية جيداً فما وجدت لها علاجاُ أنفع من هذا العلاج.

ولكن المسؤولين رأوا-لأسباب يعلمونها وحدهم-أن يعفوا المريض من مرارة الدواء، ويريحوا الطبيب من عناء العلاج.

برت: تلك في الوااقع عملية جراحية مؤلمة وبعض الأطباء مغرمون بالعمليات الجراحية ولو لم تدع إليها ضرورة قاضية.

باركر: ما أحسبني كنت من أولئك الأطباء يا ميجر برت.

برت: ألا ترانا ننكر على العرب أن يعمدوا إلى مقاطعة البضائع الصهيونية كسلاح ضد خصومهم؟ فكيف نجيز لأنفسنا أن نشهر مثل هذا السلاح على أصدقائنا وصنائعنا ؟

باركر: بالله أعفني يا صديقي من الاسترسال في هذا الحديث، فكفاني ما لقيت في لندن من اللوم والتعنيف على ذلك التصرف الذي اعتبروه مني جريمة لا تغفر، حتى كادوا يفصلونني من الخدمة. وما عدت إلى منصبي هذا إلا بعد أن أُخِذَتْ عليَّ العهودُ أن لا أعود إلى مثل هذا التصرف في المستقبل. فاطمئن إذن يا صديقي على أصدقائنا وصنعائنا هؤلاء، فلن يصيبهم منا أذى مهما قاموا بأعمال الإرهاب ومهما هددوا ضباطنا بالجلد‍‍. ‍‍‍‍

برت: بالجلد

باركر: نعم بالجلد على ظهورهم. ألم تقرأ النشرة التي أذاعتها جمعيتهم الارهابية مساء أمس؟

برت: لا ما قرأتها. ماذا قالوا فيها؟

باركر( يسحب صحيفة من مكتبه ويناولها لجليسه): خذها فاقرأها.

برت ( يقرأها ملياً ثم يردها الباركر):أعتقد أن هذا مجرد تهديد، ولن يجرؤوا على تنفيذه.

باركر ( يهز كتفيه): لا أدري احرص على نفسك على كل حال...

برت: ماذا تعني؟

باركر: وصية صغيرة أقدمها إليك إن شئت عملت بها، وإن شئت تركتها فهي غيررسمية‍‍‍‍

برت ( ينظر في ساعته): آن لي أن أنصرف الآن من عندك فهل تأذن لي؟

باركر: إلى أين؟

برت (ينهض): إلى ناثانيا

باركر(ينهض متثاقلاً ليودعه): فلتصبحك السلامة... شكراً لزيارتك لا تنسَ وصيتي الصغيرة... غير الرسمية .

برت: شكراً يا صديقي العزيز.

-2-

في فندق متروبول بناحية ناثانيا- يظهر الميجر برت جالساً في غرفته يطالع كتاباُ- يفتح الباب اقتحاماً، ويدخل عشرة من الارهابيين اليهود وبأيديهم المسدسات.

أحدهم: احذر أن تقاوم

برت: ماذا تريدون مني

أحدهم: اتبعنا ولا تنبس ببنت شفة

برت: لعلكم تبتغون غيري..أتعرفون من أنا

أحدهم: بريطاني حسبنا أن نعرف هذا عنك. هيا لا تضع وقتنا، وإلا أضعنا حياتك.

-3-

فناء فسيح في المستعمرة اليهودية (ريشون لي زيون) غاص بالمتفرجين- يظهر الميجر برت واقفاً، وقد جرد النصف الأعلى من جسمه من ملابسه وهو ينتفض من البرد، وأمامه جماعة من الارهابيين بأيديهم السياط وحوله آخرون بأيديهم المسدسات بينهم رجل ملثم.

برت: إنكم ستندمون على عملكم هذا.

الملثم (يصر بأسنانه): ربما نندم على عملنا هذا حين تندمون أنتم على جلد ابراهام كيمشون ثماني عشرة جلدة وحبسه ثمانية عشر عاماً.

برت: ماذا أنتم صانعون بي؟

الملثم: ستجد الجواب عند ظهرك هذا بعد قليل.. ثماني عشرة جلدة.. لا أقل ولا أكثر.. أما الحبس فليس في وسعنا مع الأسف أن نربي كلباً عندنا ثمانية عشرة عاماً.

برت: ولكني ما أسأت إليكم قط، بل إني لمعروف عند أصحابي بالميل إليكم والعطف على أمانيكم. لقد كنت أدافع عنكم حتى يوم أمس فقط حين كنت عند القائد العام في القدس.

الملثم (يضحك ساخراً): هنيئاُ لكم يا بريطانيون ما أنعم الله به عليكم من بلادة الحس وغباوة الذهن. لتكن يا هذا أشد حباً لليهود من المستر تشرشل نفسه فلن يمنعنا ذلك من جلد ظهرك، إننا نريد أن نجلد ظهر بريطانيا العظمى

برت: هذه إهانة لا أستطيع أن أتحملها، وأيسر منها عندى القتل.

الملثم: ولكن دولتك العظمى تستطيع أن تحتمل ذلك بما عهد الناس فيها من الصبر والاحتمال، ولا يهمنا أن تحتملها أنت أو لا تحتملها، أما القتل فهذا شرف لم نبخل به على كثير من بني جنسك (يلتفت إلى الجلاد): اجلد يا ليفي (يجلد ليفي ظهربرت بالسوط..) اجلده ثانية (يجلده)

الملثمم: ما طعم هذا يا صديق اليهود؟ أيتهما أحلى الأولى أم الثانية؟

(يتعالى ضحك المتفرجين)

برت: سترون عاقبة هذا.

الملثم: قد رأينا أثر السوطين في ظهرك، ومن المؤكد أننا سنرى آثار السياط الباقية كذلك، وإنه ليؤسفني أنك لا تستطيع أن تراها بعينك فقد شاء الله-لحكمة يعلمها هو- أن يخلق البريطاني بعينيين في وجهه كسائر البشر ولم يجعلها في قفاه، لكن لا تبتئس فستراها عينا زوجتك إن كانت لك زوجة .. اجلد يا ليفي.

برت: (يتلوى من ألم جلده) آه.

الملثم: هذا صوت الامبراطورية العجوز تتأوه ما أحلى جرسه في سمعي اجلد يا ليفي داركاَ.. دع الآهات تتوالى حتى يتألف منها لحن موسيقى جميل.

أحد المتفرجين (يهتف): يحيا الموسيقار ليفي. (يضحك الجميع)

(ليفي يجلد وبرت يتأوه والملثم يعد بأصابعه)

الملثم: كفي يا ليفي. هذه ثماني عشرة جلدة.. (للميجر): يعز علينا أن تقطع تآوهك وآنينك وتحرمنا من سماع موسيقاك العذبة!.

برت: ستسمعون وشيكاً موسيقى من طراز آخر!.

الملثم: أجل.. إن صوتك هذا الذي يخالطه البكاء لطراز آخر من الموسيقى!

برت: انتهيتم الآن من مهمتكم؟ فماذا تريدون أن تصنعوا بي بعد؟

المثلم: دعنا نستمتع قليلاً برؤية هذا الأثر الفني الذي رسمه ليفي في ظهرك.. (يتأمل ظهر الميجر): هذه خطوط هندسية بديعة... لله درك يا ليفي.. إنك أيضاً لرسام بارع!

المتفرجون: (يهتفون) يحيا ليفي الرسام!

- 4 -

أمام دار المندوب السامي بمدينة القدس يظهر الميجر برت عاري الظهر، وهو يحاول اقتحام الدار في هيئة مريبة.

الحارس (من بعيد): قف مكانك وإلا أطلقت النار عليك.

برت (بأعلى صوته): أطلق! فلأن يقتلني حارس بريطاني خير من أن يجلدني اليهود.

الحارس: من تكون؟

برت: أطلق! لن تعاقبك حكومتك على قتلي، فلست من الإرهابيين اليهود وإنما أنا بريطاني مثلك!

الحارس: (يدنو منه): ماذا تريد يا سيدي؟

برت: ابتعد عن طريقي.. إنني أعرف ما أريد.

الحارس: ولكن الأوامر يا سيدي..

برت: (يصيح في وجهه): يا عبيد اليهود! هل بقيت لكم أوامر مطاعة في هذا البلد؟!

الحارس: هل تريد مقابلة صاحب الفخامة؟

برت: فلأي شيء جئت إذن يا بليد؟

الحارس: حسناً.. سأستأذن لك عليه.. ما اسمك يا سيدي؟

برت: لا داعي للاستئذان.. إن سيدك هو الذي دعاني لمقابلته.

الحارس: (فاغراً فاه من الدهشة) أنت...؟

برت: نعم.. أنا الضابط المجلود!

- 5 -

في مكتب المندوب السامي – فخامته جالس على مكتبه.

(يدخل برت هائجاً خلف الحاجب)

المندوب السامي: أهذا أنت يا ميجر برت؟

برت: نعم يا صاحب الفخامة.. أنا الضابط المجلود الذي شاء كرمك أن تدعوه لتتفرج عليه!

المندوب: (بعد ستكة قصيرة): أو تدخل علي هكذا اقتحاماً بدون إذن؟

برت: ألست أنت الذي دعوتني لمقابلتك؟

المندوب: وبغير الملابس الرسمية؟

برت: لقد شاء أحبابك اليهود أن أجيئك على هذه الصورة ليثلج صدرك وتقر عينك!

المندوب: وبدون أن تؤدي لي التحية الرسمية؟

برت: (يصيح بغضب): أما تستطيعون أن تنسوا تقاليدكم الرسمية لحظة من الزمن؟ أبهذه العنجهية تقابلون ضابطاً شريفاً أذله اليهود وجلدوه ثماني عشر جلدة؟ انظر إلى آثار السياط في ظهري واحمد الله على أنها ليست هذه المرة في ظهرك! أتريدني أن أجيئك بشرائطي ونجومي وأوسمتي ونياشيني لأقدم لك فروض الشكر على ما نالني من أيدي اليهود بفضل حزمك وعزمك وصرامتك في الضرب على أيديهم العابثة الآثمة؟!

المندوب: عجباً لك. إنك تخاطبني كما لو كنت أنا الذي أمرت اليهود بضربك وجلدك!

برت: وهب في وسعك أن تأمرهم بشيء، أنت هنا المأمور لا الآمر!

المندوب: هل تعرف ماذا تقول؟

برت: نعم وإني لأقول الحق. إنك هنا لتنفذ توصيات تلك الحفنة من الصهيونيين في بريطانيا وأذنابهم ويهمك أن يدوم رضاهم عنك حتى يبقوك في هذا المنصب العظيم. منصب الحاكم بأمرهم في هذا البلد العربي الذي تواطأتم على تهويده بمختلف الوسائل الناعمة والقاسية، واحتملتم في سبيل ذلك حتى أن يهان ضباطكم ويجلدوا على رؤوس الأشهاد.

المندوب: يظهر لي أنك لست في حالتك العادية، وأنك بحاجة إلى الراحة.

برت: كلا بل أنا في أحسن حالاتي الآن. لقد انقشعت عن عيني تلك الغشاوة التي كانت تحجب عنها الحقائق البشعة، فعرفت اليوم حقيقة الوظيفة التي تقوم بها عن البريطانيين في هذا البلد العربي المقدس. وظيفة القيادة المهينة للبغاء العلني. لقد أدركت اليوم أي ظلم فاجر نوقعه بهؤلاء العرب الذين احتللنا بلادهم باسم الانتداب عليهم لإعدادهم للحكم الذاتي يوماً من الأيام، فإذا بنا نرميهم بهذه القطعان من الوحوش البشرية لنحلها محلهم...

المندوب: دعنا من هذا الآن فما لهذا دعوتك. وقل لي: كيف اختطفوك؟

برت: قد قدمت تقريري في الإدارة العسكرية، ولا بد أنه قد وصلك. وثقيل على قلبي أن أعيد رواية الحادث بحذافيره على مسامع فخامتك.

المندوب: إذن فسأستفهمك عن بعض النقاط فقط. كم كان عددهم؟

برت: ثمانية عشر ملعوناً!

المندوب: لكن الذي ورد في تقريرك أنهم عشرة فقط.

برت: بل ثمانية عشر ملعوناً (يدير له ظهره) عدهم في ظهري إن شئت.

المندوب: أنا لا أسألك عن عدد الأسواط، بل عن عدد الأشخاص الذين اختطفوك من الفندق.

برت: قلت لك إنهم ثمانية عشر ملعوناً.

المندوب: ألا تعرف المحل الذي قادوك إليه؟

برت: أنى لي أن أعرف وأنا معصوب العينين في السيارة؟

المندوب: كم ميلاً تقدر بعده عنا ثانياً؟

برت: ثمانية عشر ميلاً.

المندوب: لكن الوارد في التقرير أحد عشر ميلاً.

برت: ثمانية عشر ميلاً على التحقيق.

المندوب: هذا عجيب.. وكم مكثت عندهم؟

برت: ثماني عشر ساعة.

المندوب (مستغرباً) ثماني عشرة ساعة!

برت: نعم ثمانية عشر ساعة وثماني عشر دقيقة وثماني عشرة ثانية إن شئت التحديد.

المندوب: لم يمر على اختطافك أكثر من عشر ساعات فكيف يصح أن تمكث عندهم ثماني عشرة ساعة؟

برت: قلت لك ثماني عشرة ساعة وثماني عشرة دقيقة وثماني عشرة ثانية أفتشك في قولي؟ (يدير له ظهره) ها هو ذا ظهري فأحص العدد بنفسك! لقد جلدوني ثماني عشرة جلدة.. نعم ثماني عشرة جلدة.. ويل لليهود مني! وشرف مليكي لأقتلن منهم ثمانية عشر ملعوناً!

المندوب: كلا يا برت. هذا عمل غير مشروع! ولا سيما من ضابط مثلك فحذار أن يدفعك الطيش إلى ارتكابه!

برت: (محتداً): غير مشروع؟! وهل جلد ظهري ثماني عشرة جلدة مشروع عندكم؟

المندوب: لا تنس أن علينا أن نحتمل كل ما يصيبنا في سبيل الإمبراطورية.

برت: (منفعلاً) لو وقع هذا الحادث لفخامتك فلفخامتك أن تعفو عن أحبابك هؤلاء في سبيل الإمبراطورية – أما أنا- أنا الذي أحرزت لكم النصر في معركة آرتهيم فإني إنجليزي قبل أن أكون بريطانياً، وما انخرطت في سلك الجندية إلا لإيماني بأني أخدم بلادي وأمتي ومليكي. وما كنت أعلم أنني انخدعت، وأني في الحقيقة إنما أخدم أشخاصاً استعبدهم مال اليهود ونفوذ اليهود لتحقيق مطامعهم الاستعمارية واغتصاب بلاد الناس وامتصاص دمائهم على أكتافنا أنا وأمثالي من المخدوعين!

المندوب: هذه أقوال خطيرة، وأخشى تبعتها عليك!

برت: إنني ما عدت اليوم أخشى شيئاً، سيعرف الشعب الإنجليزي قريباً مصداق هذه الأقوال، فإني لم أيأس بعد منه، أما أنتم يا ساسة بريطانيا، فأنتم عبيد اليهود من قبل أن يصدر بلفور وعده السافل الدنيء، وقد زاد خضوعكم لسادتكم هؤلاء بعد أن استعبدكم القرض الأمريكي، ماذا يضيركم أنتم أن يجلد مثلي ثماني عشرة جلدة أو ثمانية عشر ألف جلدة، ما دام سادتكم اليهود في بريطانيا وأمريكا راضين عنكم؟ لقد تحقق لي الآن أن اليهود لو جلدوا منا ثمانية عشرة مندوباً سامياً كل واحد منهم ثماني عشرة جلدة لما تغير قلب بريطانيا على سادتها اليهود بل ربما اعتذرت إليهم عما أصاب سياطهم الثمانية عشرة من التقطع والتلف من جراء إلهابها على ظهور الثمانية عشر مندوباً سامياً، ولن تكتفي بالاعتذار حتى تعوض لليهود ثمن هذه السياط من خزينة الحكومة الفلسطينية التي تملؤها الأموال المأخوذة غصباً من جيوب العرب دافعي الضرائب وأصحاب البلاد!

ألا ليت شعري إذا كانت ظهور البريطانيين الذين جلبوا اليهود إلى هذه البلاد تستحق سياط اليهود، فماذا تستحق هذه الظهور أن تلقاه من أيدي العرب؟ قسماً بشرف مليكي وبلادي لو أن العرب ضربونا بمقامع الحديد وأدخلوا في حلوقنا سنابك الخيل وسملوا عيوننا بالحديد المحمى وصبوا على رؤوسنا رجيع اليهود لوجب أن تحتمل ذلك منهم قبل أن تحتمل سياط اليهود على ظهورنا.

(يتهالك برت في موقفه ويكاد يقع على الأرض، فيسنده المندوب السامي، ويجلسه على الكرسي الذي أمامه ويواسيه).

المندوب: استرح قليلاً فإنك منهوك الأعصاب.

برت: أشكرك يا صاحب الفخامة.

المندوب: طب بالاً، وثق أننا سنعاقب الجناة بما يستحقون.

برت: هل في وسعك أن تصنع ذلك قبل الرجوع إلى المقامات العليا في لندن؟ لعلك تنوي السفر قريباً إلى هناك..

المندوب: لا شأن لك بسفري أو بقائي، وحسبك أن تعلم أننا سنعوضك عما أصابك من الضرر

برت: بم تعوضني؟

المندوب: خذ هذا المبلغ تعويضاً لك (يناوله أوراقاً مالية).

برت: (يعد الأوراق المالية) ثلاثمائة وستون جنيهاً، لقد عرفت أن سعر الجلدة الواحدة في ظهر الضابط البريطاني عشرون جنيهاً! أين مراسلو الصحف العالمية ليأخذوا صورة ظهري وعليه آثار ثماني عشرة جلدة تساوي كل واحدة منها عشرين جنيهاً استرلينيّاً!

المندوب: إن كنت تستقل هذا المبلغ فإني مستعد لزيادته.

برت: كلا.. هذا مبلغ طيب.. لكأنني بزملائي الذين لم يتح لهم هذا الشرف يحسدونني الآن ويتمنى كل واحد منهم لو أنه كان الضابط المجلود: شكراً لك يا صاحب الفخامة على عطفك وكرمك! هل تأذن لي الآن بالانصراف؟

المندوب: على أن تكون عاقلاً حكيماً يا برت. (للحاجب) دعهم يوصلوا الميجر برت بالسيارة إلى منزله.

برت: شكراً لك يا سيدي، إن سيارتي تنتظرني بالباب.

- 6 -

في الطريق العام من الحي العربي بمدينة القدس.

برت: (يسير الهوينا ويصيح بأعلى صوته مردداً) ثلاثمائة وستون جنيهاً عن ثماني عشرة جلدة.. كل جلدة بعشرين جنيهاً!

(يتجمع المارة حوله ويسيرون خلفه حتى يصل إلى ميدان فسيح، فيرتقي مصطبة عالية ويخطب في الجمع) أين أنتم يا أصحاب البلاد؟ يا أبناء فلسطين! يا عرب فلسطين؟ هلموا إليّ واسمعوا ما أقول! أين أنتم يا عرب فلسطين، يا دافعي الضرائب التي يأكل منها البريطانيون واليهود؟ يا دافعي الضرائب التي ترصف بها شوارع تل أبيب، وينفق منها على المستعمرات اليهودية؟ يا دافعي الضرائب التي ينفق منها على تهريب المهاجرين غير الشرعيين وعلى السفن التي تنقلهم من مياه فلسطين إلى قبرص ثم من قبرص إلى فلسطين يا دافعي الضرائب التي يصرف منها لتعويض ما يدمره ويتلفه الإرهابيون اليهود من المباني الحكومية والخطوط الحديدية وتعويض عائلات البريطانيين الذين يلقون حتفهم على أيدي الإرهابيين.

(تتكاثر جموع المارّة الذين وقفوا يستمعون إليه).

هلموا أيها العرب يا أصحاب البلاد يا أبناء فلسطين! هلموا استمعوا إلى هذا الضابط البريطاني برتبة ميجر الذي جلده اليهود ثماني عشرة جلدة، فأعطاه فخامة المندوب السامي ثلاثمائة وستين جنيهاً تعويضاً له! أنا ذلك الضابط المجلود وهذه آثار السياط على ظهري!

هلموا أيها العرب، يا من تدفعون الضرائب من عرق جبينكم المتصبب وكد أيديكم المتخشبة، لينفقها البريطانيون في توطيد الوطن القومي لأعدائكم، وتأسيس الدولة اليهودية في بلادكم فلسطين! هلموا أيها الفلاحون العرب هلموا إلي! لا تخافوا مني إنني لن أمسكم بأذى أقسم لكم بهذه الأرض المقدسة التي حافظتم على طهرها وقدسيتها طوال العصور حتى دنسها البريطانيون ولونها سادتهم الصهيونيون إني لصديق لكم ولو أنني لا أستحق صداقتكم لأني أنتمي إلى الدولة التي احتلت بلادكم لتنتزعها من أيديكم، وتقدمها قرباناً لمجرمي اليهود!

أيها الأصدقاء العرب: إن كان لي أن أنصحكم، فاصبروا وصابروا وامضوا في جهادكم، وثقوا أن الشعب البريطاني سيستيقظ ضميره وشيكاً، ويثور على ساسته الذين باعوا أنفسهم وكرامة بلادهم وشرف أمتهم للشيطان: شيطان الصهيونية المجرمة الآثمة!

هلموا أيها العرب من مسلمين ومسيحيين! هلموا يا أهل فلسطين! إني أنا الضابط البريطاني المجلود ثماني عشرة جلدة، أبشركم إذا ثابرتم على الجهاد بأن فلسطين ستبقى لكم إلى الأبد على رغم أنوف الصهيونيين وعبيدهم البريطانيين والأمريكيين!

هلموا أيها العرب من مسلمين ومسيحيين. انظروا.. أترون هذه الأوراق المالية التي في يدي؟ إنها الثلاث مئة والستون جنيهاً التي أخذتها ثمناً لثماني عشرة جلدة ألهبها في ظهري اليهود، وقد أعطانيها فخامة مندوبنا السامي من خزينة هذه البلاد التي يملؤها ما تدفعونه من الضرائب والرسوم، فليست هذه الثلاث مئة والستون جنيهاً إلا من مالكم أنتم، وها أنذا أعيدها إليكم، خذوها مني اقتسموها بينكم، إنني لا أستحقها.. إنني لا أستحقها! هي منكم.. هي لكم!

(يرمي الأوراق المالية على الجموع المحتشدة ويترنح قليلاً ثم يهوي إلى الأرض مغشياً عليه فتحمله الجموع على الأعناق وتسير به في موكب عظيم نحو المستشفى وهي تردد الهتاف والتهليل).

(ستار)

             

* جريدة (الإخوان المسلمون)  المصرية  بتاريخ :  11 / 1 / 1947