ترمن وجردس

ترمن وجردس *

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

-1-

في أحد الفنادق الكبرى بعاصمة جواتيمالا في أمريكا الجنوبية –اجتماع عام يشهده جمهور كبير من السياسيين والصحفيين الجواتيماليين وأفراد الجالية العربية هناك احتفالاً بقدوم الوفد الفلسطيني برياسة الأستاذ أكرم زعيتر.

(الحاضرون يصغون إلى خطبة الأستاذ أكرم كأن على رؤوسهم الطير)

الأستاذ أكرم: (في نهاية خطبته).. هذه أيها السادة صورة مجملة للقضية الفلسطينية في خطوطها الرئيسية الأولى بدون تزويق ولا تعليق. وهي في رأيي كافية لمن يتوخى سبيل الحق في فهم هذه القضية. وإني لعلى استعداد للرد على كل سؤال يوجه إلي لتفصيل ما أجملته من نقاط الموضوع أو زيادته بياناً وتوضيحاً. ولا يفوتني في هذا الموقف أن اكرر الشكر لكم جميعاً على ما استقبلتمونا به من الحفاوة والتكريم وما أظهرتموه من الرغبة الصادقة في فهم حقيقة قضيتنا العادلة. (يجلس).

رئيس الحفل: (ينهض) إني باسم نقابة الصحفيين أتقدم بالشكر الجزيل لرئيس الوفد الفلسطيني الموقر على ما قدم من المعلومات وشرح من الحقائق في خطبته الموجزة الرائعة. وعلى قدر سرورنا بمعرفة هذه الحقائق يشتد ألمنا لسابق جهلنا بها فيما مضى. ذلك الجهل الذي أدى بمندوبنا في هيئة الأمم المتحدة إلى الوقوف في صف الصهيونيين. وقد تفضل حضرة رئيس الوفد فأعرب عن استعداده لتلقي الأسئلة والرد عليها، ولا شك أن زملائي الصحفيين سيحمدون له هذا العرض الكريم ويفيدون منه مادة غنية يمدون بها صحفهم وينورون بها أذهان قرائهم في هذه القضية التي شغلت بال العالم أجمع.

الأستاذ أكرم: سأكون عظيم السرور إذا تفضل الصحفيون بتوجيه أسئلتهم إلي.

أحد الصحفيين: لقد ألممت في خطبتك بالجانب التاريخي من هذه المشكلة. ونحن نعلم يا سيدي أن التوراة سند قوي يثبت أن اليهود قد ملكوا الأرض المقدسة قبل أن يحتلها العرب بقرون عديدة فحقهم التاريخي فيها ثابت بشهادة الكتاب المقدس.

الأستاذ أكرم: إن التوراة لم ترد على أن الإسرائيليين قد طرأوا غزاة على فلسطين وسيطروا على أجزاء منها سيطرة غير تامة إلا في حقبة قصيرة من الزمن لا تزيد على قرنين انهار بعدها ملكهم وتشتت شملهم وخضع من بقي في فلسطين منهم للدول الأجنبية الحاكمة، شأنهم في ذلك كشأن سكان البلاد الأصليين الذين هم أجداد العرب، حتى جاء الفتح الإسلامي فأعاد البلاد إلى أهلها الأصليين وامتزج هؤلاء بأبناء عمومتهم من عرب الجزيرة وتكون منهم جميعاً هذا الشعب العربي الذي يسكن فلسطين من مسلمين ومسيحيين، فكيف يراد إخراج هؤلاء من بلادهم بالقوة ليحتلها شراذم متفرقة في شعوب العالم من عناصر مختلفة لا يجمع بينها إلا اعتناق الدين اليهودي، لا لشيء إلا أن قوماً من معتنقي هذا الدين كانوا قبل عشرات من القرون قد حكموا هذه البلاد مدة لا تزيد عن قرنين. إننا لو أخذنا بهذا المبدأ لعمت القلاقل والثورات في سائر أنحاء العالم.. لكان للعرب مثلاً الحق في مطالبة الأسبان بترك أسبانيا لهم لأن أسلاف العرب قد حكموها مدة أطول من حكم الإسرائيليين في فلسطين وأقرب عهداً وأزهر حضارة ومدنية. ولكان على الإنجليز أن يخلوا الجزيرة البريطانية للطليان لأن أسلافهم الرومان قد حكموها مدة أطول كذلك وهكذا دواليك.

الصحفي: ولكن اليهود لا يبغون إلا أن يجدوا مأوى لهم في فلسطين يقيهم من الاضطهاد العنصري الذي يلاقونه في ألمانيا وبولونيا وغيرهما من بلاد القارة الأوربية فيعيشوا مع جيرانهم العرب في تعاون وسلام.

أكرم: إن العرب غير مسئولين عن اضطهاد العالم لليهود. وقد عرضوا استعداداً للمشاركة بنصيبهم في إيواء المضطهدين منهم ولكنهم لن يقبلوا أبداً أن تفرض عليهم دولة أجنبية عنهم لتقوم في قلب بلادهم وتكون مصدراً للقلاقل والمتاعب ومنبعاً للمكايد والمؤامرات ولو كان اليهود يرغبون حقاً في العيش بسلام مع العرب لحافظوا على صلات الصداقة مع هؤلاء الذين أضافوهم في بلادهم وعاملوهم معاملة لم يلقوا مثلها من أي أمة أخرى لا في القديم ولا في الحديث.

الصحفي: بيد أن المشكلة قد قامت اليوم ولم يعد ثَمَّ سبيلٌ للمهادنة بين العرب واليهود في فلسطين. ولا بد لهذه المشكلة من حل يعيد السلام في الأرض المقدسة. وقد رأت هيئة الأمم المتحدة أن التقسيم هو خير الحلول.

اكرم: إن قضية فلسطين لبسيطة جداً ولم تكن مشكلة قط إلا لأن الصهيونيين وبعض الدول الاستعمارية الكبرى التي تؤيدهم أرادوها أن تكون كذلك لكي يصلوا من ورائها إلى هذا الهدف وهو نزع فلسطين من أيدي أهلها العرب وإعطاؤها لليهود. فالمشكلة هنا مفتعلة افتعالاً لتحقيق هذا الغرض. وما مثلها إلا كمثل من يعمد إلى حبل مستو لا عقدة فيه فيعقده من وسطه ويصنع منه أنشوطة ليصطاد بها صيداً لا يحل له لأنه ملك غيره فلما قيل له في ذلك قال إني قد عقدت الحبل فلا مناص إلا من استعماله في هذا الصيد. فتصوروا أيها السادة الظلم الذي يقع على مالك الصيد لو اجتمع قضاة العالم في ساحة واحدة فقرروا أن هذه مشكلة معقدة قد قامت وأن حلها الوحيد هو تمكين صاحب الحبل من تنفيذ رغبته والوصول إلى هدفه ليعيش بعد ذلك مع غريمه في سلام وأن ليس لمالك الصيد أن يستعمل قوته في دفع صاحب الحبل والحيلولة بينه وبين أمنيته.

(يتعالى الضحك من الصفوف)

إن هذا المثل الصغير الذي أضحككم أيها السادة لينطبق على قضية فلسطين وموقف هيئة الأمم من حق العرب فيها وباطل اليهود انطباقاً تاماً من جميع الوجوه.

الصحفي: فماذا تقترح عليهم أن يصنعوا في أمر ذلك الحبل؟

أكرم: الأمر بسيط جداً.. عليهم أن يحلوا العقدة التي نشأت في الحبل.

الصحفي: فإن استعصى حلها؟

أكرم: فليقطعوها بالسكين أو ليرموا بالحبل كله جانباً، فهو على أي حال أهون قيمة من أن تثور من أجله بين صاحبه وبين مالك الصيد خصومة مستعرة الأوار تفقدهما معاً السلام والطمأنينة وتشغل بال العالم فوق ما يشغله من مشكلاته المتعددة!

(تصفيق)

الصحفي: أشكرك يا سيدي. فقد بدأنا ببيانك هذا نفهم القضية على وجهها الصحيح لا كما كانت تصورها لنا الدعايات الصهيونية من أمد طويل.

هتافات: تحيا قضية العرب العادلة! فلسطين لأهلها العرب! يسقط قرار التقسيم! جواتيمالا تؤيد قضية العرب!

(يتقدم صحفي آخر لسؤال رئيس الوفد)

الصحفي: كيف كان شعور العرب نحو بلادنا حين أيد مندوبنا في هيئة الأمم قرار التقسيم الجائر؟

أكرم: هذا يا سيدي سؤال محرج يصعب جوابه على مثلي في مثل هذا الموقف بعدما أكرمتم وفادتنا ولقينا منكم كل إكرام وترحيب وتأييد.

رئيس الحفل: لا بد يا سيدي من الإجابة على هذا السؤال. وثق أننا جميعاً نعرف للعرب عذرهم مهما كان شعورهم نحوناً مراً.

أكرم: أما إذا عزمتم علي فإني أجدني في حل إذا أخبرتكم أن العرب لم يستاءوا من أحد ممن ناصروا البغي الصهيوني على حقهم كاستيائهم من بلادكم. ذلك أن مندوبكم في الهيئة قد تجاوز كل حدود الكرامة الإنسانية وتحلل من جميع قواعدة اللياقة الدبلوماسية في تعصبه الأعمى للصهيونيين واندفاعه الشاذ لتأييدهم بالقول الجارح والسلوك المعيب حتى أثار الريب والظنون حول نزاهته الشخصية ونزاهة الدولة التي يمثلها بين مندوبي الدول المختلفة. إنه قد أعطى العرب والمسلمين عن جواتيمالا صورة جد قاتمة. ولست مبالغاً إذا قلت إنهم تصوروها دويلة تافهة مجردة من قواعد السلوك الإنساني النبيل، فاقدة للمقومات التي لا بد منها لكل دولة ذات كيان صحيح..

يؤسفني أيها السادة أن أقول لكم إن العرب حسبوا أن جواتيمالا لصغرها وضآلة شأنها قد استطاع الصهيونيون أن يشتروا ذمتها بالمال اليسير لا ذمة مندوبها وحده..

أصوات: هذا ظلم بين! هذا افتئات على الحقيقة!

أكرم: إن هذا الذي ذكرته أيها السادة إنما هو رأي الجماهير في مختلف الأقطار العربية أما المطلعون على الأحوال –وهم قليل فهم أحسن ظناً بجواتيمالا. إذ يرون أن ذمة المندوب هي التي اشتريت، وأن الدولة التي يمثلها تترك له الحبل على الغارب ولا تبالي ماذا يأتي وماذا يدع، وسواء عندها أن يمثلها أو يمثل نفسه) بيد أنهم يستنتجون من ذلك أن الشعب الجواتيمالي لا بد أن يكون شعباً فاقد الحرية يحكم حكماً دكتاتورياً مستبداً ويستبعدون أن يقدر الصهيونيون على رشوة شعب بأكمله ويستبعدون أكثر من ذلك أن يرتضي الشعب –لو كان حراً- ذلك التصرف المخزي من حكومته ومندوبها في هيئة الأمم!

أصوات: ياللسبة! يا للفضيحة هذه صورة مشوهة لجواتيمالا.. جواتيمالا لا تقبل من أحد أن يصورها بهذه الصورة الشائنة! جواتيمالا تحتج على هذه الإهانة.

أكرم: إني أعذركم أيها السادة في هذا السخط ولكن ما ذنب العرب في ذلك إذا كان مندوبكم هو الذي تطوع بإعطائهم هذه الصورة الشوهاء لبلاده؟

أصوات: يسقط جرانادوس الخائن! يسقط مأجور الصهيونيين.

أكرم: أيها السادة إني لم أعرض لكم إلا جانباً من الصورة المشوهة فكيف يكون سخطكم إن عرضتها من كل جوانبها.

الصحفي: هل بقي تشويه أعظم من هذا بعد؟

أكرم: إن العرب أيها السادة يحبون الحق لذات الحق ولا تقبل ضمائرهم أبداً أن ينصروا باطل القوي على حق الضعيف كائناً من يكون ذلك القوى وذلك الضعيف على هذا نشأوا في جاهليتهم الأولى أيام كانوا يعبدون الأحجار وعليه ثبتوا ورسخوا لما عبدوا الله وحده بعد إسلامهم. ففي استطاعتكم أن تتصوروا مبلغ حنقهم على بلادكم من جراء موقفها في قضية فلسطين إذا علمتم أنهم قد خرجوا لأول مرة في تاريخهم على سننهم التقليدية هذه في موقفهم من قضية النزاع الذي بين جواتيمالا وبريطانيا، إذ مالت نفوسهم إلى تأييد باطل بريطانيا على حق جواتيمالا الواضح الصريح بالرغم من سخطهم الشديد على بريطانيا واعتبارهم إياها عدوهم الأول!

الصحفي: هذا عجب حقاً. فهل تظن أن الدول العربية المشتركة في هيئة الأمم المتحدة ستصوت في صالح بريطانيا إذا عرضت هذه القضية في الجمعية العامة أو في مجلس الأمن؟

أكرم: مبلغ علمي أنها ستفعل ذلك لتساير شعور العداء المر الذي تحمله الشعوب العربية لجواتيمالا.

الصحفي: ولكن الشعوب العربية تحمل هذا العداء المر لبريطانيا أيضاً، فلم لا تقف الدول العربية بيننا بين بريطانيا موقف الحياد على الأقل؟

اكرم: إن العرب يستطيعون أن يلتمسوا لبريطانيا بعض العذر لما لها من المصالح الدولية المتشابكة أما جواتيمالا فليس لها عندهم من عذر إلا أن الصهيونيين قد اشتروها بالمال.

رئيس الحفل: ألا ترون أنه يجب عليكم الآن وقد علمتم الحقيقة أن تشرحوها لقومكم العرب حتى يعرفوا جواتيمالا على حقيقتها كما رأيتموها بأعينكم ولمستموها بأيديكم.

أكرم: إننا نعتبر هذا واجبنا نحو قومنا ونحو بلادكم الكريمة المضياف. ولكني لا أكتمكم أن نجاحنا في هذا السبيل سيكون محدوداً جداً إذا لم تبرهن جواتيمالا على حسن نيتها نحو العرب بتصحيح موقفها من قضية فلسطين في أقرب فرصة دولية قادمة، فليس يكفي عند العرب وقد خذلتموهم في مجمع دولي عام أن تعربوا عن تأييدهم في هذا المجمع الخاص.

أصوات: يسقط المندوب المأجور.. يسقط جرانادوس.. لن يمثلنا في المجامع الدولية بعد اليوم! نريد مندوباً عن جواتيمالا لا مندوباً عن اليهود.

رئيس الحفل: ما عرفنا إلا اليوم مقدار الجرم الذي جناه جرانادوس على البلاد.

أكرم: أجل أيها السادة لقد بلغ من اهتزاز العالم العربي وانتفاضه سخطاً واستنكاراً لموقف مندوبكم الشائن أن قامت في طول البلاد العربية وعرضها حملة إقليمية نارية على جواتيمالا ومندوبها وتصدى أحد الكتاب المسرحيين في مصر فوضع تمثيليات لاذعة ساخرة صور فيها الصهيونية بصورة العاهرة العالمية وجعل جواتيمالا قوادها الأكبر الذي يزاول مهنته الخسيسة بدون حياء ولا خجل بل إنه ليفتخر بما يحمله من جراثيم المرض الخبيث الذي ينتقل بالعدوى منها إليه، والكاتب يقصد بذلك مندوب جواتيمالا طبعاً ولكنه سماه باسم بلده وجعلهما شيئاً واحداً لأن السخط العام كان ينصب عليهما معاً. وإن من الطريف الذي يعز علي أن أقصه عليكم في هذا الحفل اقتراح أحد المفكرين أن يتخذ العرب كلمه (جواتيمالا) رمزاً للارتشاء من اليهود وأن يشتقوا منها فعلاً جديداً في معجم اللغة العربية يتصرف كما تتصرف الأفعال العربية إلى مشتقاتها المتعددة فيقال: جتمل يجتمل جتملة إلخ.. إذا ارتشى من اليهود كما اتخذوا اسم (ترومان) قبل ذلك رمزاً للغباوة السياسية وإيثار المصلحة الشخصية على المصالح العامة للدولة فقالوا. (ترمن يترمن ترمنة فهو مترمن) لكل سياسي يتصف بهذه النقائض المستهجنة. وأنتم تعلمون أن اللغة العربية يتكلم بها سبعون مليوناً من العرب ويميل إلى تعلمها أربعمائة مليون مسلم يعتبرونها لغتهم الدينية الجامعة.

أصوات: هذا ظلم صارخ على جواتيمالا! يجب وقف هذا الاعتداء الشنيع على سمعتنا وكرامة بلادنا.

رئيس الحفل: أجل، ليس من العدل أن تؤاخذ جواتيمالا بجريرة مندوبها الذي تعصب للصهيونية من تلقاء نفسه.

أكرم: وأنى للعرب يا سيدي أن يعرفوا هذه الحقيقة؟

رئيس الحفل: اسمح لي يا سيدي أن أعترض على هذه الحجة الواهية. فلن تجد أحداً يقدر العرب في جهلهم بهذه الحقيقة وغيرها من الحقائق التي تتصل بقضاياهم وموقف الشعوب الأخرى منها ومنهم. على العرب أن يعرفوا كل ذلك وعليهم أن يقوموا بدعاية كافية في جميع أنحاء العالم ويشرحوا قضاياهم لشعوبه وأممه وإلا فلا يلومن إلا أنفسهم ولا سبيل لهم على الشعوب إذا هي انحازت للصهيونيين لأنها لا تسمع إلا صوتهم ولا تتأثر إلا بدعاياتهم المنبثة في الآفاق، المتغلغلة في كل الأوساط، المستخدم فيها جميع الوسائل إن على صاحب الحق يا سيدي أن يشرح مظلمته وليس على الناس أن يسعوا لمعرفتها بالجهد والمشقة إذا هو قصر في أداء واجبه لنفسه.

أكرم: أشكرك يا سيدي على توجيه هذه الملحوظة القيمة وإسداء هذه النصيحة المخلصة. وإني لأعترف معك بتقصير قومنا العرب في هذا السبيل وإذا كان لي أن التمس لهم من عذر فهو اعتزازهم بحقهم الواضح وحسن ظنهم بالضمير العالمي أنه سينصفهم من خصومهم المبطلين.

رئيس الحفل: هذه كلمة يقولها خصومكم أيضاً على قضيتهم ولكنهم لم يكتفوا بها بل عززوها بسلاح الدعاية العالمية الواسعة. ألا ترى اليوم إذ جئت إلى بلادنا كيف تبين لك أننا كنا غير ملومين فيما وقفه مندوبنا من قضيتكم؟

أكرم: هذا حق يا سيدي ولكنا كنا نطمع أن يقف مندوبكم موقف الحياد على الأقل كما فعل مندوب جمهورية سلفادور مثلاً وكان يكون ذلك كافياً لنا منكم.

رئيس الحفل: لا تتوهموا لأني أحاول تبرير الموقف الشائن الذي وقفه مندوبنا في الهيئة فمن المؤكد أن اليهود هنا قد استحوذوا عليه بكل السوائل المشروعة وغير المشروعة، وكلنا يعلم أنهم أقاموا له المآدب وحفلات التكريم قبل سفره إلى ليك سكسيس. على أننا لا نرى على صنيع اليهود هذا أي غبار. فلو قامت الجالية العربية عندنا بمثل هذا العمل لما رأينا بذلك من بأس. وأخشى أن أتهم الجالية العربية هنا بقلة الاهتمام بقضايا إخوانهم العرب في وطنهم الأول.

رئيس الجالية العربية: (ينهض) هذه ملحوظة كريمة أخرى من حضرة رئيس الحفل. وإني باسم الجالية العربية في جمهورية جواتيمالا الحرة لأتقبل هذه التهمة بالشكر وأعتبرها برهاناً جديداً على ما يكنه الشعب الجواتيمالي الكريم لنا من صادق المودة والعطف وما يضمره للبلاد العربية من الصداقة وحسن النية ويعز علي أيها السادة أن أعزو القسط الأكبر من هذه السقطة إلى تقصير إخواننا بالشرق العربي في الاتصال بنا وبسائر جالياتهم في هذه القارة الجديدة وتوجيهنا توجيهاً مثمراً للاشتراك الفعلي في خدمة قضايا وطننا الأول والملاءمة بين مصالحه ومصالح وطننا الجديد الذي ندين له بالولاء والإخلاص. (تصفيق)

أكرم: أيها السادة لقد جئنا نحن الوفد الفلسطيني إلى بلادكم لنبصركم بحقيقة قضيتنا فإذا نحن نتلقى عنكم النصائح الغالية التي لا تقدر بمثن، وسنحمل هذه النصائح إلى قومنا العرب عسى أن يعملوا من الغد فصاعداً على تلافي أوجه النقص هذه في وسائل جهادهم العام، وسيكون الفضل في ذلك حينئذ راجعاً إلى الجواتيمالين الكرام.

مندوب لاهورا: (أعظم صحف جواتيمالا! هل لنا أن نطمع الآن يا سيدي في أن يعدل الكتاب العرب عن اقتراحهم اللغوي الخاص باسم بلادنا العزيزة؟

أكرم أنني أعدكم وعداً صادقاً بأننا سنبذل قصارى جهدنا في إقناع أولئك الكتاب العدول عن ذلك المقترح وإفهامهم أن التبعة كلها واقعة على المندوب وحده.

رئيس الحفل: إن أبى العرب إلا أن يشتقوا كلمة لهذا المعنى البغيض فليشتقوها من اسم مندوبنا الدكتور جرانادوس فهو صاحب الجريرة.

أكرم: (يضحك) أجل، سيكون هذا جزاء عدلاً.

رئيس الحفل: (مبتسماً) ترى هل يمكن الاشتقاق من اسم جرانادوس في لغتكم؟

أكرم: بكل تأكيد يا سيدي إن اللغة العربية مرنة جداً وطيعة، فهي لذلك قادرة أن تخضع لقواعد تصريفها كل كلمة أجنبية مهما كانت نابية.

رئيس الحفل: ماذا يقال إذا أريد الاشتقاق من اسم جرانادوس؟

أكرم: سيقال: جردس يجردس جردسة فهو مجردس؟

(تدوي المقاعد بالتصفيق والضحك)

رئيس الحفل: جردس.. يجردس ثم ماذا؟

أكرم: جردسة

رئيس الحفل: جردسة

أكرم: فهو مجردس!

رئيس الحفل: فهو مجردس! بديع جداً!

(تشيع الوسوسة في القاعة بترديد هذه الكلمات)

رئيس الحفل: وماذا قالوا في ترومان

أكرم: رمز الغباوة السياسية؟

رئيس الحفل: نعم.

أكرم: (يضحك) ترمن يترمن ترمنة فهو مترمن!

أصوات: (يخالطها الضحك) جردس! يجردس! جردسة! فهو مجردس! ترمن! يترمن! ترمنة! فهو مترمن!

مندوب لاهورا: (ينهض) أما أنا أيها السادة فإني أعارض هذا الاقتراح فالدكتور جرانادوس في رأيي لا يستحق البتة أن ينوه باسمه ويخلد في القاموس العربي ولو للدلالة على ذلك المعنى البغيض. إن عقاب هذا المندوب الخائن لا ينبغي أن يكون في بلاد العرب بل هنا في هذه البلاد! يجب أن يحاكم جرانادوس محاكمة شعبية عامة بتهمة التعمد في تشويه سمعة دولته وبلاده وتصويرها بصورة لا تليق بكرامتنا القومية. ثم يجب التحقيق معه بعد ذلك فإذا ثبت أنه ارتشى من اليهود هنا أو في ليك سكسيس وجب أن تطبق عليه عقوبة الرشوة السياسية!

(تصفيق حاد)

إننا أيها السادة دولة صغيرة تتأثر سمعتها بأقل خدش يمسها وأن كرامتنا القومية لهي رأس مالنا فعلينا أن نحافظ عليها وألا ندع شخصاً كالدكتور جرانادوس يعرضها للهوان بدون أن يلقى الجزاء الرادع له ولأمثاله! إن هذا الرجل لم يفرط في كرامتنا القومية فحسب بل فرط أيضاً في مصالحنا القومية إذ جلب علينا عداء الدول العربية. الست والدول الإسلامية الأخرى إنها قد يدفعها إلى التصويت ضدنا إذا ما احتكمنا غداً إلى هيئة الأمم المتحدة في القضية التي بيننا وبين بريطانيا المعتدية. فهل من العدل أن يفلت رجل كهذا باع ذمته لليهود من العقاب الذي يستحقه جزاء جريمته؟!

أصوات: يسقط جرانادوس الخائن! الويل لمأجور اليهود! الويل لمن باع الوطن! نحن مع العرب! جواتيمالا صديقة العرب! الويل لليهود! تسقط الصهيونية! يسقط جرانادوس المجرم! العقاب العقاب.

-2-

في القصر الجمهوري – رئيس الجمهورية يستقبل الوفد الفلسطيني بدعوة خاصة من فخامته.

رئيس الجمهورية: أنا سعيد جداً بقدومكم إلى بلادي لتشهدوا بأنفسكم عواطف الصداقة التي يكنها الشعب الجواتيمالي للشعوب العربية. وأعتقد جازماً أن لو قدم إلينا وفد منكم قبل الدورة الماضية لهيئة الأمم المتحدة لما صدر من مندوبنا ذلك الموقف المشئوم.

أكرم: هذا حق يا فخامة الرئيس. وإن سرورنا باكتشاف هذه الحقيقة وبما لقيناه من عطفكم الصادق وحفاوة شعبكم النبيل ليفوق ألمنا من ذلك الموقف الشاذ الذي أشرتم إليه.

رئيس الجمهورية: لقد شهدتم في حفلة الأمس وفيما كتبته الصحف اليوم كيف أن الشعب الجواتيمالي يشارككم في ذلك الألم وأحب أن أصارحكم بأني أنا شخصياً أشارككم فيه كذلك وأرجو أن يكون في هذا النجاح الذي ناله وفدكم ما يغري الدول العربية بموالاة إرسال الوفود إلينا حتى نكون على بينة تامة من قضاياكم.

أكرم: حقاً يا صاحب الفخامة إنه لنجاح عظيم يفوق كل ما تصورناه من قبل. ونأمل أن نجني ثماره في المستقبل القريب بأن تصحح جواتيمالا موقفها من قضيتنا العادلة.

رئيس الجمهورية: سيكون ذلك بإذن الله فقد رأيتم كيف أقام مجيئكم قيامة الشعب الجواتيمالي على الدكتور جرانادوس حتى طالبوا بمحاكمته وعقابه. ولا أكتمكم أنني مضطر إلى تهدئة الخواطر الثائرة عليه واعتباره غير مسئول في هذه المرة والتغاضي عما شاع في البلاد من أخذه عشرة آلاف دولار من اليهود لصعوبة إثبات هذه الرشوة عليه.

أكرم: يؤسفني يا صاحب الفخامة أن هناك وثيقة تثبت ذلك.

الرئيس: نعم قد بلغني أمر هذه الوثيقة التي حصل عليها أحد تجار جاليتكم هنا. وإن لي لرجاء خاصاً أن تنزلوا لي عن هذه الوثيقة لأنها إن نشرت في الصحف فسيتخذها خصومي ذريعة للطعن في الحكومة الحاضرة فهل لكم من تلبية هذا الرجاء؟

أكرم: حباً كرامة يا فخامة الرئيس بيد أننا نطمع أن لا يُنتدب السيد جرانادوس مرة أخرى في مجلس هيئة الأمم.

الرئيس: يسرني أن ألبي هذه الرغبة الكريمة إلا أنني أرى أفضل من ذلك أن يبقى جرانادوس في منصبه حتى يكفر عن سيئته الأولى فيكون ذلك أوقع في النفوس.

أكرم: ألا تخشون أن يقع فيها مرة أخرى؟

الرئيس: (مداعباً) كلا.. أستطيع أن أؤكد لكم أنه لن يجردس مرة أخرى بل سيكفر عن جردسته السابقة!

أكرم: (يضحك) وإذا جردس ثانية؟

الرئيس: (باسماً) فسنوقع عليه عقوبة الجردسة!

(ستار)

     

*جريدة (الإخوان المسلمون)  المصرية  بتاريخ :  15 / 9 / 1948