السوق السوداء

من المسرح السياسي (19)

السوق السوداء*

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

في ديوان رياسة الوزراء بتونس، رئيس الوزارة مصطفى الكعاك يستقبل في مكتبه السيد مختار القاسمي رئيس (لجنة الإسعاف التونسية) لتخفيف المجاعة.

الكعاك: مرحباً بم يا بني، إنك من أبناء البيوتات الكريمة في تونس ولذلك أوليتك شرف مقابلتي في مكتبي الخاص.

مختار: شكراً يا دولة الرئيس إنك استدعيتني فحضرت تلبية لأمرك.

الكعاك: أجل ولكني لا أستدعي كل من هب ودب لمثل هذه المقابلة إنما يحضر عندي هنا فخامة المقيم العام ورؤساء المصالح وبعض العلية من الفرنسيين ومن الفرنسيات أيضاً، ولكن معظمهن يزرنني في بيتي، ومعهن أزواجهن أو أصدقاؤهن طبعاً.. حذار أن يجول غير هذا في خاطرك كلهن من أرقى طبقات المجتمع الفرنسي في هذا البلد.. مثال الجمال والأناقة وخلاصة في الثقافة والتهذيب.. أتدري فيم يتحدثن؟

مختار: (بجفاف) لا يا سيدي.

الكعاك: عن بودلير وجورج صاند وفرلين ورامبو وأمثال هؤلاء ومن حسن حظ تونس أن رئيس وزارتها يستطيع أن يساجلهن في ذلك كله، فيندهشنَ مني ويعجبن بلغتي الباريسية.. ألا تعلم أنني أتكلم بالفرنسية كأحد أبناء مدينة النور؟

مختار: (متضايقاً) هذا عظيم يا صاحب الدولة.. ألا تخبرني.

الكعاك: هل تحب أن أكلمك بالفرنسية؟ إنك تعرفها طبعاً.. تخرجت من كلية الحقوق بباريس أليس كذلك؟

مختار: نعم ولكني أفضل أن تكلمني بلغة البلاد، وأن تخبرني عن سبب استدعائي.

الكعاك: أجل.. أجل.. أريد أن أكلمك بصدد لجنة الإسعاف التونسية.

مختار: ما بالها يا سيدي؟

الكعاك: هل تعلم أن جلالة الباي غير راض عن تأليف هذه اللجنة؟

مختار: لم يا سيدي.

الكعاك: قد بلغه أنها أنشئت للقيام بدعاية الباي محمد المنصف.

مختار: هذا افتراء على اللجنة من قوم لا خلاق لهم.

الكعاك: من ذا تعني؟

مختار: أعني الذين قالوا ذلك لجلالة الباي كائنين من كانوا، إن اللجنة إنما تقوم بعمل إنساني محض، ولا شأن لها بالسياسة البتة، وإني لعلى استعداد أن أمثل بين يدي جلالته لأثبت له هذه الحقيقة، فهل لك يا سيدي أن تيسر لي هذه المقابلة السنية؟

الكعاك: إني لا أرى ما يدعو إلى ذلك.

مختار: ولكن اللجنة ترى من واجبها أن تطلع جلالة الباي على حقيقة أمرها، لتدفع عن نفسها تلك الشبهة، وما يخامرني شك أن سيدي محمد الأمين سيكون أول من يشجع هذا العمل الإنساني المحض.

الكعاك: كلا يا بني.. لا داعي إلى ذلك البتة.

مختار: لا ينبغي أن ندع مليكنا يظن بنا ما ليس بحق.

الكعاك: لا تخف.. إن جلالته لن يمس لجنتكم بسوء، مهما كان رأيه فيه، أستطيع أن أؤكد هذا لك.

مختار: لكن يهم اللجنة كثيراً أن تصحح رأي جلالته عنها حتى يشملها برضائه السامي.

الكعاك: كلا لا سبيل إلى ذلك، فلابد لمقابلة الباي من إذن خاص من فخامة المقيم العام.

مختار: فليكن ذلك بإذنه.. يستطيع سيدي أن يستأذن لنا فخامته في مقابلة جلالته!

الكعاك: (متأففاً) يظهر أنك تريد أن توقعني في ورطة، ليغضبن المقيم على أن فعلت.

مختار: عجباً.. لماذا؟

الكعاك: إن فخامته يستنكر هذه اللجنة، ويعدها عملاً عدائياً موجهاً ضد الحكومة.

مختار: وهل جلالة الباي يرى مثل هذا الرأي؟

الكعاك: لا شأن لك بجلالة الباي.

مختار: لكنك أخبرتني آنفاً أن جلالته..

الكعاك: انس الآن كل ما قلته عن جلالته.. المهم هو رأي فخامة المقيم.

مختار: لا يهمنا رأي المقيم الفرنسي، بقدر ما يهمنا رأي مليك البلاد!

الكعاك: أنصحك أن تبتعد عن هذه المزالق، فما أظنك تجهل من يملك النفع والضر في هذه البلاد رجل رحيم القلب، ولكنه مضطر بحكم منصبه إلى اتخاذ الصرامة في كبح جماح الحركات الثورية، فعلينا معشر التونسيين ألا نستفزه إلى ذلك.

مختار: لكن أعمال اللجنة ليست ثورية، وليس فيها ما يستفز غضبه.

الكعاك: هذا رأيك أنت، أما هو فيرى أن اللجنة تتخذ جمع الإعانات لتخفيف المجاعة ستاراً تبث من ورائه التحريض ضد الحكومة، ودعوة الأهالي إلى الثورة، وأن للحزب الدستوري الحر يداً في توجيهها.

مختار: هذا غير صحيح، إنني أتحدى من شاء أن يثبت أن لمشروعنا الخيري المحض أي صلة بالحزب الدستوري، أو أن له أي صبغة سياسية.

الكعاك: أو ليس الحبيب أبو رقيبة والسيد محيي الدين القليبي هما اللذان أوعزا من مصر بتأليف هذه اللجنة؟

مختار: سبحان الله.. ألا يمكن أن نقوم بعمل إنساني كهذا لتخفيف المجاعة القاسية في بلادنا إلا بإيعاز من مصر؟

الكعاك: ألا تعلم أن هذين الرجلين يحبذان لجنتكم ويقومان لها بدعاية في مصر؟

مختار: من أين لي علم ذلك والحكومة تحظر دخول الصحف العربية إلينا، والرسائل كلها خاضعة للرقابة كدأبها في أيام الحرب؟

الكعاك: يجب إذن أن نعترف أنك لا تقدر أن تدفع هذه التهمة.

مختار: وما ذنب اللجنة إن أيد هذان الرجلان أو غيرهما عملها الإنساني؟

الكعاك: إنهما لا يؤيدان إلا كل عمل عدائي ضد الحكومة.

مختار: ولكن عملنا ليس عدائياً ضد أحد، ونحن مستعدون أن نطلع الحكومة على قانون اللجنة الخاص بتأليفها وأغراضها.

الكعاك: لن يقتنع فخامة المقيم بذلك، والسبيل الوحيد لنفي الشبهة عنكم هو أن تحلوّا اللجنة.

مختار: كلا لن نحلها بأيدينا فإن شاءت الحكومة حلها بالقوة فلتفعل، ليشهد العالم كله أن في الدنيا حكومة متمدنة تعد إسعاف المنكوبين في بلادها جريمة توجب العقاب.

الكعاك: فاستقل أنت من رياسة هذه اللجنة المشبوهة.. أقبل نصيحتي خير لك.

مختار: يؤسفني أنني لا أستطيع قبول نصيحتك.

الكعاك: هأنذا قد أنذرتك فإن أصابك سوء فلا تلومن إلا نفسك.

- 2 -

السيد مختار في منزله، وعنده أحد دلالي الحبوب.

مختار: كم جمعت لنا يا محمود؟

الدلال: ثلاثين قنطاراً.

مختار" ثلاثين فقط؟

الدلال: هذا كل ما استطعت جمعه الآن بعد جهد جهيد، إن القمح لا وجود له في هذه الأيام، وكل من عنده شيء منه يخفيه ولا يفرط فيه.

مختار: والسعر؟

الدلال: ستة آلاف فرنك للقنطار الواحد.

مختار: لكن هذا كثير.

الدلال: إن لم ترد شراءه بعته لغيرك، فكثير يطلبونه بهذا السعر ليبيعوه بسعر أعلى.

مختار: إنك تعلم أنني أشتريه لحساب لجنة الإسعاف لا للاتجار.

الدلال: لهذا آثرتك به على غيرك.

مختار: يجب عليك يا محمود أن تساهم بقسطك في إغاثة المنكوبين من بني جنسك.. إنهم يموتون بالمئات كل يوم من الجوع.

الدلال: أتريد الصدق؟ إن القنطار يقف علي بخسمة آلاف وستمائة فرنك، فخذه بهذا السعر لا أريد ربحاً فيه.

مختار: لا يزال السعر غالياً.

الدلال: أقسم لك بالله..

مختار: كلا لا تحلف.. إني مصدقك.. فاحجزه لي واجتهد في جمع غيره.

الدلال: كم قنطاراً تريد؟

مختار: كل ما تقدر على جمعه إن لدينا الآن حوالي مليون فرنك.

الدلال: لكني لا أستطيع أن أجد لكم قمحاً بمليون فرنك.

مختار: لا بأس أن تحتمل المشقة يا محمود في سبيل الله والوطن.

الدلال: إني على استعداد لخدمة اللجنة بكل ما أقدر عليه، ولكن هذا المقدار الكبير من القمح لا يمكن جمعه من الأهالي فما عندهم إلا قليل مما استطاعوا إخفاءه عن الحكومة، ثم إنهم يخافون من عقوبة الاتجار في السوق السوداء وإنما تستطيع أن تجده عند المستعمرين الفرنسيين.

مختار: فما الحيلة؟

الدلال: سأدلك على أحدهم إن شئت.

مختار: من هو؟

الدلال: مسيو دي كاييه.. ستجد عنده كل ما تحب.

مختار: لكني لا أعرفه.. أفلا ترافقني إليه؟

الدلال: خير لك أن تقابله وحدك، فهو رجل شديد الاحتياط، وربما لا يأمن على سر الصفقة إن ذهبت معك.

- 3 -

المسيو دي كاييه عند فخامة المقيم العام بمكتبه الخاص.

المقيم: مرحباً بك يا مسيو دي كاييه.. ماذا قطعك عني طوال هذه المدة؟

دي كاييه: مشاغل الحياة يا صاحب الفخامة.

المقيم: بل كنت تتهرب مني لئلا أطالبك بالخمسة آلاف فرنك التي لي قبلك.

دي كاييه: أما تزال تذكرها يا سيدي؟ حسبتك قد نزلت لي عنها ونسيتها.

المقيم: كلا.. لا أنسى شيئاً من حقي ولا أنزل عن شيء.. فهل أحضرتها معك؟

دي كاييه: حسبك يا سيدي المبلغ الذي أخذته مني..

المقيم: لن أنزل عن فرنك واحد مما اتفقنا عليه.. ويلكم.. تأتون المخالفات القانونية جسرياً وراء الريح، فإذا ما خلصتكم من مسؤوليتها جحدتم صنيعي وقلتم نحن أبناء فرنسا، فيجب أن يكون لي نصيب فيما تجنون من الأرباح.

دي كاييه: حسناً يا سيدي.. سأدفع المبلغ الذي لك.

المقيم: هاته.

دي كاييه: ليس الآن، ما جئت معي الآن بشيء.

المقيم: ففيم جئت إذن؟.. أوقعت في مشكلة جديدة؟

دي كاييه: لا يا سيدي.. إنما جئت لأؤدي خدمة كبيرة لفرنسا وللحكومة.

المقيم: أتريد أن تأتينا بمهاجرين جدد من أقاربك؟

دي كاييه: لا.. بل يتعلق الأمر بلجنة الإسعاف التونسية التي يرأسها..

المقيم: مختار القاسمي.. أعرف ذلك.. ما بالها؟

دي كاييه: جاءني هذا الشاب أمس، والتمس مني أن أبيعه صفقة كبيرة من القمح لحساب لجنته

المقيم: بكم؟

دي كاييه: بحوالي مليون فرنك.

المقيم: فهل بعته الصفقة؟

دي كاييه: نعم..

المقيم: أهذه هي الخدمة التي تقدمها لفرنسا.. أن تساعد على إحباط سياستها؟

دي كاييه: كلا يا سيدي.. إني ما سلمته القمح بعد، ولكني تعهدت له بشحن نصف المقدار إلى (جبنيانة) والنصف الآخر إلى (مجاز الباب) فأحببت أن أنبكم لتصادروا هذا القمح ساعة وصوله هناك.

المقيم: هذا حسن.. بكم بعته القنطار الواحد؟

دي كاييه: بخمسة آلاف فرنك.

المقيم: لا تكذبني. قل الحقيقة.. إنه يباع في السوق السوداء بستة آلاف.

دي كاييه: أجل ولكني رضيت منه بخمسة آلف لعظم الصفقة ولأوهمه أنني أحب مساعدته في هذا العمل الإنساني حتى يطمئن إلى..

المقيم: كم تجعل نصيبي في الربح؟

دي كاييه: علام تقاسمني الربح؟ ألأني قدمت هذه الخدمة بمحض اختياري، وكان في وسعي أن أتم الصفقة دون أن تعلم الحكومة من أمرها شيئاً؟

المقيم: ويلك.. أتكلفني أن أتجاوز لك عن هذه المخالفة العظيمة، ثم تريد أن تستأثر بالربح دوني؟

دي كاييه: (يتنهد) هذا جزاء من يخدم الحكومة.. فكم تطلب يا سيدي؟

المقيم: نصف الربح على أساس السعر الأصلي الذي تستولي به الحكومة على محصول القمح

دي كاييه: أتريد أن تأخذ 2100 فرنك في القنطار الواحد؟

المقيم: لم لا؟ هذا نصف فرق السعرين.

دي كاييه: هذا ظلم كبير.

المقيم: أليس أكبر من هذا أن تربح 4200 فرنك في القنطار الواحد؟

دي كاييه: سأعطيك ربع الفرق.. سأعطيك 1050 فرنكاً في القنطار.

المقيم: كلا.. سآخذ نصف الربح بالتمام.

دي كاييه: إذن فإني ذاهب إلى السيد مختار لأفسخ الصفقة. (ينهض لينصرف).

المقيم: (يستوقفه) لا تكن أحمق..

دي كاييه: أقبلت الآن؟

المقيم: ليكن ما تريد.. على شرط أن يكون الدفع معجلاً فكفى ما صنعت معي في خمسة الآلاف فرنك.

دي كاييه: سترى مني ما يسرك يا صاحب الفخامة.

- 4 -

السيد مختار رئيس لجنة الإسعاف التونسية في قفص الاتهام أمام محكمة عسكرية عقدت لمحاكمته برياسة الحاكم العسكري العام فخامة المقيم، وقد حضرها الكاتب العام ورئيس الوزارة وغيرهما من كبار الموظفين الفرنسيين من مدنيين وعسكريين.

المقيم: ما اسمك؟

مختار: مختار بن أحمد القاسمي.

المقيم: سنك؟

مختار: خمس وثلاثون سنة.

المقيم: دينك؟

مختار: الإسلام.

المقيم: جنسيتك؟

مختار: عربي تونسي.

المقيم: قل تونسي وكفى!

مختار: كلا.. إن في تونس فرنسيين ويهوداً وطلياناً وإسباناً وزنوجاً وغيرهم ممن جلبتموهم إلى بلادنا لتحلوهم محلنا، فإذا قلت إنني عربي تونسي فلكي أثبت أنني من أصحاب هذا البلد الأصليين.

المقيم: (للمسجل) أكتب تونسي فقط.

مختار: إني أحتج على هذا التزوير في أقوالي.. فإما أن تثبتوا كل ما أمليه عليكم وإما أن تعفوني من الاستنطاق بالكلية.

المقيم: (للمسجل) أكتب ما يريد (للمتهم) ما مهنتك؟

مختار: المحاماة.

المتهم: هل لك في أحد المحامين ليدافع عنك؟

مختار: نعم.. قد طلبت السيد إبراهيم النائلي.

المقيم: هذا ثوري متطرف من الحزب الدستوري لا ترضاه الحكومة، فاختر أحد المحامين الفرنسيين.

مختار: كلا لا حاجة لي بهم.. سأدافع عن نفسي بنفسي.

المقيم: ما صلتك بلجنة الإسعاف التونسية؟

مختار: أنا رئيسها.

المقيم: هل وصلك إنذار من الحكمة بوجوب حلها لأنها تخفي خلف ستار العمل الخيري أغراضاً ثورية ضد حكومة البلاد؟

مختار: نعم.

المقيم: فما حملك على عصيان أمر الحكومة؟

مختار: لو جاءني الأمر بحلها دون إبداء السبب لوجب على أن أطيعه، أما وقد ذكر فيه السبب الذي أعلم أنه باطل لا أساس له فقد عددت نفسي في حل من طاعته.

المقيم: كيف تثبت لنا أن اللجنة لا تخفي أغراضاً ثورية؟

مختار: قد قدمت إليكم قانون اللجنة فراجعوه.

المقيم: هذا لا يكفي دليلاً على ما تريد.

مختار: فليس على أن آتي بأدلة أخرى، بل عليكم أنتم أن تثبتوا على اللجنة خلاف ما في قانونها، وبعد فهل تحاكمونني الآن على كوني رئيس هذه اللجنة الخيرية؟

المقيم: كلا.. هذه تهمة فرعية أما التهمة الأساسية فهي أنك أولاً اشتريت من السوق السوداء مائة وستين قنطاراً من القمح، وثانياً: نقلت هذه الحبوب من جهة إلى أخرى مخالفاً بذلك قرار منع جولات الحبوب، فما تقول في ذلك؟

مختار: إن القوانين العرفية إنما تسن في العادة للضرورة الملجئة في فترة من فترات الاضطراب كأيام الحرب مثلاً، ويقصد بها حفظ مصالح البلاد العليا وحماية أهلها من جشع التجار واستغلالهم غير المشروع. وحينئذ يجب على كل مواطن يريد لبلاده الخير أن يطيعها في السر والعلانية. أما قوانينكم هذه فيكفي أنها لم تسن لتحقيق شيء مما ذكرت، بل لخدمة أغراض فرنسا الاستعمارية، ولهذا أبقت عليها الحكومة واستمرت على تنفيذها حتى بعد زوال الضرورة التي ألجأت إليها وهي الحرب، فليس في العالم اليوم بلد لا يزال تطبق فيها الأحكام العرفية غير بلاد المغرب العربي التي أوقعها سوء الطالع تحت نفوذ فرنسا الرجعية الغاشمة.

الكاتب العام: أسكتوا هذا التونسي القذر!

مختار: إنني مسئول عن كل كلمة أقولها في الدفاع عن نفسي فإن شئتم ألا تسمعوا.

مختار: كلا إنني لا أسب أحداً وإنما أسجل الواقع.

المقيم: دعوه فإنه مسئول عن كل ما يقوله.

مختار: إن اللجنة التي أرأسها ليست سرية، بل هي تعمل في وضح النهار، وهدفها إنساني محض هو تخفيف وطأة المجاعة عن المناطق المنكوبة التي يموت أهلها من الجوع عشرات ومئات، فلما جمعنا ما أمكننا من تبرعات أهل الخير التمسنا الحبوب فلم نجدها في السوق، لأن الحكومة قد استولت على المحصول كله، هذا دفاعي فأحكموا علي بما تحبون دون حاجة إلى هذه المحاكمة الصورية.

الكاتب العام: ليس هذا دفاعاً بل سباً علنياً لفرنسا.

مختار: جبراً بسعر ثمانمائة فرنك للقنطار الواحد ـ لتبيعه في فرنسا بسعر ألف وأربعمائة فرنك، فلم يبق أمامنا وأمام غيرنا من أفراد الشعب المسكين إلا السوق السوداء، على أن اللجنة قد كتبت إلى الحكومة تلتمس منها أن تبيعها الحبوب بالسعر الذي تراه، وناشدتها بحق الإنسانية أن تعينها في عملها الخيري، فكان الرفض هو الرد الوحيد الذي تبرعت به الحكومة للجنتنا، فأي قانون هذا الذي يمنعنا من غشيان السوق السوداء لإغاثة آلاف المهددين بالموت جوعاً ومسغبة؟ وما قيمته في نظر الحق والعدل؟ وأن ما قلته عن قانون السوق السوداء لينطبق أيضاً على قانون منع جولان الحبوب الذي لا معنى له في أيام المجاعة هذه ألا إن الحكومة تتعمد إزهاق أرواح الألوف من التونسيين العريق على خطة مرسومة، وأقول التونسيين العرب لأم الحكومة تتغاضى عن الحبوب التي يختزنها المستعمرون الفرنسيون ليبيعوها في السوق السوداء بأسعار مضاعفة أضعافاً كثيرة، وإنما بفضل أحد هؤلاء المستعمرين الفرنسيين تمكنت من عقد هذه الصفقة التي أقف الآن من أجلها في قفص الاتهام بينما شريكي في الجريمة مطلق السراح ليعقد صفقات أخرى مع المضطرين من أبناء هذا البلد المنكوب.. أستغفر الله أيها السادة بل ها هو ذاك قاعد بينكم يشهد محاكمتي على الذنب المشترك!

فهل يستطيع فخامة الحاكم العسكري أن يقول لنا لماذا لا يوقفه معي في هذا القفص؟

المقيم: إنك زورت له أذناً خاصاً بتوقيع رئيس الوزارة، وها هو ذا الإذن المزور معي.. فالمسيو دي كاييه معذور فيما فعل ولا جناح عليه.

مختار: ها.. قد أدركت الساعة أنه هو الذي كشف للحكومة سر هذه الصفقة.. إنني أتهم المسئولين في الحومة علناً بالتواطؤ مع هذا التاجر الفرنسي الجشع على ابتزاز أموال اللجنة واقتسام الغنائم بينه وبينهم!

الكاتب العام: هذه وقاحة متناهية!

المقيم: دعه يقل ما يشاء، فإنه سيحاسب على أقواله ويشير للمتهم:

هل تريد أن تنكر فضل دولة رئيس الوزارة في الكشف عن جرائمك؟

الكعاك: أجل.. أنا صاحب الفضل في ذلك.. لا بل الفضل ليقظة رجالي ونشاطهم.

مختار: كلا، هذا غير صحيح فقد اتخذنا كل الاحتياطات اللازمة، وليست هذه أول حبوب أصدرتها إلى المناطق المنكوبة، فلا شك أن مسيو دي كاييه نفسه هو الذي وشى بالصفقة متواطئاً مع المسئولين في الحكومة على مصادرة هذه الحبوب ليقتسموها ويقتسموا فروق سعرها بينه وبينهم، أما أنت يا ببغاء الظلمة، فلا جناح عليك إذ لقنونك شيئاً فقلته!

المقيم: ما رأيك أن أثبتنا عليك أنت تهمة ابتزاز أموال الأهالي.. هذه التهمة التي وجهتها بكل قحة إلى المسئولين في الحكومة؟

مختار: إنني أتحداكم أن تثبتوها إن استطعتم؟

المقيم: إنك جمعت من تبرعات الأهالي أكثر من مليون فرنك.

مختار: هذا صحيح.. ولولا العراقيل التي وضعتموها في طريقنا لجمعنا أضعاف هذا المبلغ.

المقيم: فأين صرفت هذا المبلغ؟

مختار: سبحان الله.. سلمته للذي باع لي الصفقة.

المقيم: إنك سلمت للمسيو دي كاييه مائة وثمانية وعشرين ألف فرنك قيمة 160 قنطاراً بسعر 800 فرنك للقنطار الواحد.

مختار: كلا بل سلمته 993800 فرنك بسعر 6000 للقنطار مع إضافة 200 فرنك عن كل قنطار في مقابل تعهده بنقل البضاعة إلى جبنيانة ومجاز الباب.. وها هو ذا بينكم فسألوه.

المقيم: لا حاجة إلى سؤاله.. ها هو ذا العقد الذي بينك وبينه ينص صراحة على أن سعر القنطار كان ثمانمائة فرنك.

مختار: يا للمكر والخيانة؟ إنما هذا عقد صوري وافقته عليه، إذ زعم لي أنه يتفادى به من عقوبة البيع بسعر فاحش إن قدر للصفقة أن ينكشف أمرها للحكومة، وما كنت أدري أنه متواطئ في المسألة كلها نصباً واحتيالاً مع رجالها المسئولين.

المقيم: هل لديك من شيء آخر تريد أن تقوله؟

مختار: لا.

المقيم: (للكاتب العام) اقرأ الحكم.

الكاتب العام: (يقرأ من ورقة في يده) طبقاً للمادتين 99 و 110 من قانون الأحكام العرفية وللمادتين 230 و251 من قانون العقوبات، وبعد محاكمة مختار بن أحمد القاسمي المتهم بالاتجار في السوق السوداء، وبنقل الحبوب من جهة "إلى جهة، وبالتزوير في أوراق رسمية، وبابتزاز بعض الأموال التي جمعها من تبرعات الأهالي باسم لجنة الإسعاف التونسية لإغاثة المنكوبين بالمجاعة، وبعد ثبوت هذه آلتهم الأربع على المتهم المذكور:

أصدرت المحكمة العسكرية المنعقدة في 25 يناير سنة 1948 حكمها عليه بتغريمه مليوني فرنك وحبسه عشر سنوات مع الشغل.

مختار: (صائحاً بأعلى صوته) ويلكم أيها المجرمون! ما كان أغناكم عن محاكمتي.. هذا حكم مكتوب من قبل! يسقط المجرمون! تسقط حكومة الاستعمار!

الكاتب العام: كموا فمه!

مختار: دعوني أيها المجرمون! دعوني.. دعوني أيها الـ..

المقيم: سوقوه إلى السجن.

الكعاك: (يهتف) تحيا فرنسا العادلة! تعيش أم الحريات.

 "ستار"

         

*جريدة (الإخوان المسلمون المصرية) بتاريخ :  /  /1947