رئيس وزارة أم سائق سيارة

من المسرح السياسي (2)

رئيس وزارة أم سائق سيارة

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

         

في ديوان الإقامة العامة "مقر المقيم العام" بتونس

(يحضر مصطفى الكعاك رئيس الوزراء فيستقبله الكاتب العام بشيء من الفتور والاحتقار.)

الكاتب: كيف الحال يا مسيو كعاك.. هل من جديد؟

الكعاك: الحال يا سيدي كما تعرف.. المجاعة تشتد في البلاد يوماً فيوماً.

الكاتب: هل جئت لترفع إلينا هذا الخبر؟

الكعاك: لا يا سيدي.. أنتم أعلم بذلك مني. فالتقارير ترد إليكم قبلي.

الكاتب: فعلام ذكرت المجاعة؟ أأردت أن توبخنا بذكرها؟

الكعاك: لا تسئ بي الظن يا سيدي، ولا تتهمني في ولائي لفرنسا.. إني ما ذكرت المجاعة إلا رداً على سؤالك، ولا يهمني أمرها في قليل ولا كثير، فما أنا بمسؤول عنها ولا في يدي علاجها.

الكاتب: فمن المسؤول عنها ويلك؟ فرنسا.. أليس كذلك؟

الكعاك: أراك يا سيدي تحاول توريطي وتأويل كلامي بغير ما أقصد.

الكاتب: هذا فحوى كلامك.

الكعاك: كلا يا سيدي.. إنني رجل مسلم، والمسلم يؤمن بأن الله فاعل كل شيء، فالمجاعة من فعل الله وهو وحده القادر على دفعها.

الكاتب: لكن المسلمون هنا لا يعتقدون هذا.

الكعاك: ذلك من جهلهم بالإسلام الصحيح.

الكاتب: فماذا تقترح في هذا الصدد؟

الكعاك: لا أقترح شيئاً.. أرجوك يا سيدي ألا تورطني في هذه المزالق. مالي ولهذه الشؤون التي ليست من اختصاصي؟ إنما جئت لأكلم فخامة المقيم العام في مسألة تخصني، فهل أستطيع يا سيدي أن أقابله الآن؟

الكاتب: يجب أن تعلم أنه لا حق لك في مقابلته إلا إذا هو دعاك.

الكعاك: لكني رئيس الوزارة.

الكاتب: رئيس الوزارة يتصل بالكاتب العام، وجلالة الباي يتصل بفخامة المقيم العام.. هكذا يقضي قانون المشاركة في الحكم، فلا تتطاول إلى ما ليس بحقك.

الكعاك: هل تعدني بقضاء حاجتي إن أفضيت بها إليك؟

الكاتب: خبرني أولاً عن حاجتك.

الكعاك: أرجو أن تخصص الحكومة سائقاً لسيارتي، فلا ينبغي لرئيس وزارة مثلي أن يسوق سيارته بنفسه.

الكاتب: يؤسفني أنني لا أستطيع تلبية طلبك.

الكعاك: لكن هذا حق من حقوقي!

الكاتب: هذه لهجة جديدة ما كنا نتوقع سماعها منك. أما كفاك أن جعلنا منك شيئاً مذكوراً  حتى تطالبنا بحقوق لك؟ هل غرك أننا قلدناك وسام "اللجيون دونير"؟ فاعلم أننا منحناه لمنصبك لا لشخصك.

الكعاك: بل استحققته بالخدمة العظيمة التي أسديتها للحكومة.

الكاتب: تعني قبولك للوزارة.

الكعاك: نعم، فقد أنقذت شرف فرنسا وكرامتها حين قرر المؤتمر مقاطعتها وعدم التعاون معها في الحكم واعتبار من يخالف هذا القرار خائناً لوطنه، فما تقدم لها غيري.

الكاتب: إن كان لك أي فضل في ذلك فعلى بني جنسك إذ كسبت لهم حق المشاركة في الحكم، لا على فرنسا التي تستطيع أن تحكم البلاد بدونكم.

الكعاك: لكنك تعرف أن التونسيين لا يرضون بغير الاستقلال التام.

الكاتب: لأنهم حمقى لا يعرفون مصلحتهم، ولا يقدرون فضل فرنسا في تمدينهم ونشر العمران والرخاء في بلادهم.

الكعاك: هم يعتقدون أن فرنسا تستغل موارد بلادهم ولا تبقي لهم منها شيئاً.

الكاتب: ما أوقحهم وأكفرهم للجميل! يمنون على فرنسا بالحبوب والزيت وهي تصرفها لهم في أسواقها، وينسون السلع التي تصدرها فرنسا إلى هذه البلاد.. ينسون أقلام (الروج) والروائح العطرية والملابس المفصلة على أحدث الطرز الباريسية التي لها المقام الأول في أوساط الأناقة والجمال في العالم.

الكعاك: إنهم لا يهتمون بهذه الكماليات بل يرون أنها تستنزف أموالهم.

الكاتب: أجل إنهم بهائم لا همّ لهم إلا الحبوب والعلف، ولكنا قد أخذنا على عاتقنا أن نمدنهم ونهذب أذواقهم ونفتح عيونهم على أسرار الجمال، ولن نتخلى عن رسالتنا هذه أبداً.

الكعاك: إنني أنا التونسي الوحيد الذي يؤمن بهذه الرسالة، ويرى أن تونس لا يمكنها الاستغناء عن فرنسا، أفلا أستحق لهذا أن أطالب الحكومة بتخصيص سائق لسيارتي حفظاً لكرامة منصبي؟

الكاتب: لا خوف على كرامة منصبك، فهي محفوظة بهيبتنا.

الكعاك: أوقد صممتم على حرماني هذا الحق؟

الكاتب: إننا لا نرى هذا من حقك.

الكعاك: لكني لا أجيد سوق السيارة كما ينبغي، وستندمون غداً حين يقع لوزيركم الأمين حادث اصطدام.. هأنذا قد أنذرتكم.

الكاتب: إن كنت لا تخشى على نفسك التهلكة فلن يخشاها عليك أحد سواك.

-2-

المقيم العام والكاتب العام

المقيم: كم عدد الوفيات أمس؟

الكاتب: (ينظر في تقرير بيده) ها هو ذا يا صاحب الفخامة.. ثلث مئة وأربع وأربعون وفاة.

المقيم: توزيعها؟

الكاتب: 99 في منطقة القيروان.

المقيم: هذه مركز التعصب العربي، دع الجوع يحصدهم حصداً!

الكاتب: 60 في منطقة مجاز الباب.. و26 في صفاقس.

المقيم: والبادية.. كم وفاة فيها؟

الكاتب: 152 في جبنانة وما حولها.

المقيم: مرحى! مرحى! دع البدو الأجلاف يبادوا جميعاً.. إنهم عماد الشر ومنبع الحركة الإجرامية ضدنا.. وماذا أيضاً؟

الكاتب: لا شيء يا سيدي.. قد تم العدد 344 وفاة.

المقيم: أكثر من وفيات أول من أمس؟

الكاتب: نعم يا صاحب الفخامة.. إن الزيادة مطردة.

المقيم: حمداً لله لقد كفتنا هذه المجاعة مؤونة تقتيل هذه الحشرات التي لا تساوي قيمة الرصاص الذي تقتل به! والله لو تمثلت المجاعة شخصاً لبنينا لها تمثالاً من الذهب!

الكاتب: إن الذي استطاع بكياسته وتدبيره أن يخلقها لأجدر منها بهذا التكريم.

المقيم: (يضحك) ويلك.. إني ما سئمت الحياة بعد لتحبسني في تمثال؟

الكاتب: ليس الآن يا سيدي، بل بعد عمر طويل.

المقيم: لقد نجحت الخطة دون أن تثير ارتياب أحد.. أليس كذلك؟

الكاتب: أجل.. تلك هي البراعة يا سيدي، كأنما الأمور تجري طوع مشيئتك.

المقيم: كلا، إن الأمور لا تجري طوع مشيئتي، فهذا الذي تراه إن هو إلا نتيجة تفكير طويل وتدبير شاق وسعي أشقى وأطول.

الكاتب: بالطبع يا سيدي، بالطبع.

المقيم: إذا سارت الأمور على هذه الوتيرة فلن ينقضي هذا العام حتى يكون في وسعنا أن نستورد ربع مليون مهاجر من الفرنسيين وغيرهم ليحلوا محل هذه الحشرات المنقرضة.

الكاتب: حبذا لو كانوا جميعاً من الفرنسيين حتى يتم التجانس.

المقيم: لكنا لا نضمن وجود هذا العدد من الفرنسيين الراغبين في الهجرة، بالرغم من الامتيازات العظيمة التي نغريهم بها في هذه البلاد، والأراضي الزراعية التي نقطعها لهم مجاناً.

الكاتب: يجب القيام بدعاية واسعة في أوساط الفلاحين الفرنسيين لترغيبهم في الهجرة.

المقيم: لا داعي لهذه المشقة الآن ما دمنا نجد الراغبين في الهجرة من الأجانب، فكل همنا أن نلاشي الوطنيين سواء بالفرنسيين أو بغيرهم.. بل لعل الأقليات الأجنبية أعون على تثبيتنا وتوطيد سلطتنا من الفرنسيين أنفسهم إذ لا شك أن هؤلاء الأجانب أطوع لنا وأقل إثارة للمتاعب من المستعمرين الفرنسيين.

الكاتب: هذا حق يا سيدي ولكنهم أبناء فرنسا، ولهم الدالة على أمهم.

المقيم: أبواب البلاد مفتوحة أمامهم على كل حال، وهم المفضّلون على غيرهم إن رغبوا في الهجرة.

الكاتب: ليت شعري متى يدركون أنهم بالهجرة إلى هذه البلاد يخدمون وطنهم أكثر مما يخدمونه ببقائهم في فرنسا.

المقيم: لا فائدة في انتظار ذلك، إنهم هناك مشغولون بالتطاحن الحزبي عن الالتفات إلى خطر الجامعة العربية الذي يوشك أن يبتلع الشمال الأفريقي كله، أستطيع أن أؤكد لك أن سواد الشعب الفرنسي لا يدرك هذا الخطر العربي على بلادنا هذه، بل إن كثيراً منهم لم يسمع بوجود الجامعة العربية قط، أحزاب اليمين وأحزاب اليسار كلهم نكبة على فرنسا.

الكاتب: أجل أولئك الزعماء الذين لا تخلو الصحف يوماً من صورهم وأخبارهم يحسبون أنهم يقررون مصير فرنسا، ولا يدرون أن مصيرها إنما هو في أيدي أمثالك من الذين يخدمونها خارج الوطن في صمت وإخلاص.

المقيم: (يتنهد) آه.. دعنا من هذه الأمور فإن ذكرها لا يورثنا إلا الأسى والكمد.. أرني هذا التقرير لألقي نظرة عليه.

الكاتب: قد تلوت مضمونه عليك..

المقيم: لا بأس.

الكاتب: تفضل يا سيدي (يناوله التقرير الذي كان في يده).

المقيم: (ينظر فيه ملياً) ألم تلحظ أن أهل الجنوب لم يتأثروا بالمجاعة كما ينبغي؟

الكاتب: بلى يا سيدي، قد عنت لي هذه الملاحظة، ولكني نسيت أن ألفت إليها نظرك.

المقيم: أغلب الظن أنهم أخفوا عن الحكومة كثيراً من حبوبهم.

الكاتب: لا يبعد أنهم اتخذوا لهم أهراء في باطن الأرض يخفون فيها حبوبهم.

المقيم: يجب القيام بتفتيش دقيق في منازلهم لاكتشاف تلك الأهراء السرية.

الكاتب: غداً سأصدر أوامري بذلك، وبمصادرة كل ما يوجد عندهم من الحبوب.

المقيم: إن الخيانة لفرنسا قد عجنت بها لحومهم ودماؤهم فلا تستطيع السياط على ظهورهم أن تخرجها، ولا علاج لهم إلا الموت، هذه المجاعة هي خير علاج لهذه الكلاب المسعورة.

الكاتب: نعم يجب أن نعنى بتنمية المجاعة بكل ما أوتينا من قوة.

المقيم: أهم من ذلك أن نحافظ على كتمانها حتى لا تتسرب أخبارها إلى الخارج.

الكاتب: لا خوف من ذلك بعد ما منعنا المراسلين الأجانب من دخول البلاد.

المقيم: إنما خوفي من مراسلي صحفنا الفرنسية، ولا سبيل إلى منع هؤلاء، فهذه الصحف لا تهتم بمصلحة فرنسا اهتمامها بالسبق الصحفي، وقد دأبنا على إسكاتها بالمال، ولكني أخشى أن يكون الاعتماد الذي خصصناه لذلك من خزانة هذه البلاد غير كاف.

الكاتب: كان على حكومة باريس أن تعيننا في هذه النفقات السرية.

المقيم: هذا محال.. يكفينا منها فقط أن تدرك أهمية هذا العمل، فلا تلومنا على إنفاق المال فيه، وتطالبنا بإرساله إلى خزانتها.

الكاتب: لم لا نزيد الاعتماد المخصص لذلك؟

المقيم: مهما نفعل فلا بد أن ينتشر خبر المجاعة وشيكاً، وسيكون الفضل في ذلك لإحدى الصحف الباريسية.

الكاتب: فما العمل؟

المقيم: يبدو لي أن الأفضل أن نسبق نحن إلى الإعلان عنها بصورة تتفق مع مصلحتنا؟

الكاتب: كيف يا سيدي؟

المقيم: لا غنى لنا من الاستنارة برأي الكعاك.

الكاتب: وأي رأي عند هذا الأحمق المأفون؟

المقيم: أراك شديد التحامل عليه.. إنه بعد ليس رديئاً كما تظن، فكثيراً ما أتحفنا بآراء مدهشة.

الكاتب: لكن ما شأن الكعاك بهذا الأمر؟

المقيم: سترى ذلك فيما بعد.. قل لي كيف حاله الآن؟

الكاتب: لا أعرف عن حاله شيئاً إلا أنه لا يزال مقيماً في المستشفى ولم أره منذ يوم الحادث.

المقيم: الواقع أنني قصرت في حقه إذ لم أعده بنفسي وأسأل عن حاله.

الكاتب: إنه لا يستحق هذا الشرف... بحسبي أنني عدته يوم الحادث بالنيابة عنك، وإن ذلك لكثير لولا أمرك.

المقيم: أما أنا فلا أرى رأيك فيه، ونحن الآن في حاجة إليه، فدعنا نمضي لزيارته.

الكاتب: إنه مغرور بنفسه، وسيزيده تشريفك له غروراً على غرور، فإن شئت زرته بالنيابة عنك..

المقيم: كلا سأذهب إليه بنفسي، فإن كنت تكره رؤيته فلا حرج عليك.

الكاتب: بل سأصحبك يا سيدي، لا أتركه ينفرد بك فيثقل عليك بسماجاته.

المقيم: (يبتسم) إن أمرك لعجيب، كأنما بينك وبينه ثأر!.

الكاتب: قد آليت على نفسي ألا أدع هذا التونسي الحقير يطاول أسياده!

-3-

في غرفة من غرف المستشفى الكبير بمدينة تونس (يرى مصطفى الكعاك واقفاً أمام المرآة يسرح الشعرات الباقية من رأسه الأصلع، وقد وقفت إحدى الممرضات قريباً منه).

الكعاك: خبريني أأنت إيطالية؟.

الممرضة: نعم يا سيدي.. قد قلت لك هذا مراراً... قل لي ما طلبك؟ إنهم ينتظرونني أسفل؟

الكعاك: بل قفي قليلاً حتى أتذكر الطلب. فقد نسيته!

الممرضة: سأذهب الآن ثم أعود إليك وقد تذكرت ما تريد.

الكعاك: كلا يا صغيرتي.. ابقي عندي حتى أتذكره.

الممرضة: قد يطول نسيانك هذا فيطول وقوفي.

الكعاك: إن طال وقوفك فهو عقاب لك!

الممرضة: عقاب! ماذا جنيت يا سيدي؟.

الكعاك: إن هذا الجمال هو الذي أنساني طلبي، فيجب أن أعاقبه! اقتربي مني قليلاً لعل عينيك تذكرانني.

(يدخل رئيس الخدم)

الكعاك: ويلك يا وقح.. أتدخل بدون استئذان؟

رئيس الخدم: لا تؤاخذني يا سيدي... إن فخامة المقيم العام آت لزيارتك.

الكعاك: فخامة المقيم العام! أين هو الآن؟

رئيس الخدم: يصعد الدرج. هل من خدمة يا سيدي؟

الكعاك: لا... انصرف أنت من هنا.

رئيس الخدم: سمعاً يا سيدي (يخرج).

الكعاك: (يثب على السرير فيستلقي عليه): هلمي يا هذه.. سوّي الغطاء عليّ؟

الممرضة: (تسوّي الغطاء عليه) ألا تقول لي يا سيدي ما طلبك؟

الكعاك: (مضطرباً) ليس الآن.. ليس الآن.. قفي أنت الآن خارج الغرفة.

الممرضة: الحمد لله قد نجوت من العقاب! (تخرج).

(يدخل المقيم العام والكاتب العام يتقدمهما رئيس المستشفى)

الكعاك: (يستوي جالساً على سريره): مرحباً بك يا صاحب الفخامة! لماذا تكلف نفسك كل هذه المشقة من أجلي؟

المقيم: ما قمت إلا بواجبي يا مسيو كعاك. بل أراني مقصراً إذا لم أبادر بالسؤال عنك.

الكعاك: كلا يا صاحب الفخامة.. لقد أوفدت سعادة الكاتب العام لزيارتي يوم الحادث المشؤوم، وهأنتما الآن تعودانني مرة أخرى، فليت شعري كيف أشكركما؟

(يقدم رئيس المستشفى كرسيين لهما فيجلسان، وينحني هو احتراماً وينصرف).

المقيم: وكيف حالك الآن يا مسيو كعاك؟

الكعاك: الحمد لله، إنني الآن بخير.. لقد نجوت يا صاحب الفخامة من موت محقق.

المقيم: لقد انزعجت كثيراً لما سمعت بالحادث.

الكعاك: شكراً يا سيدي.. لا أسمعك الله مكروهاً في عزيز لديك.

المقيم: حقاً إنه لحادث مؤسف..

الكعاك: أما أنا فقد حمدت الله إذ لطف بي، بل أستطيع اليوم أن أعد هذا الحادث نعمة عليّ إذ أتاح لي شرف تعطفكم بالزيارة، وأرجو أن يحقق لي مطلباً آخر طالما تمنيت أن تنعموا به عليّ.

المقيم: ما هو يا مسيو كعاك؟

الكعاك: أظن سعادة الكاتب العام يعرف مطلبي، فقد رأى بعينيه كيف أنه ضروري لحفظ حياتي من خطر الهلاك في حادث مشؤوم كهذا.

الكاتب: (للمقيم) إنه يطمع في تخصيص سائق لسيارته.

الكعاك: نعم يا صاحب الفخامة حفظاً لحياتي وصوناً لكرامة منصبي.

المقيم: سننظر في أمر هذا الطلب.

الكاتب: لكن لا وجه لهذا الطلب يا صاحب الفخامة.. إنه تبديد لأموال الحكومة لا مبرر له، ولا سيما والبلاد الآن في مجاعة.

الكعاك: إنك دائماً تقف في طريقي.

الكاتب: يجب ألا تتطاول إلى ما ليس بحقك!

الكعاك: قد خصصت الحكومة سائقاً لسيارتك فيجب أن تخصص سائقاً لسيارتي أيضاً فنحن في درجة واحدة بمقتضى قانون المشاركة في الحكم.

الكاتب: أنت مثلي! هذه وقاحة لا تطاق.. إن قانون المشاركة يسوّي بين منصبينا ولكن لا يسوّي بين شخصينا: أنا فرنسي وما أنت إلا تونسي!

المقيم: لا تقل هذا فكلاكما من أبناء فرنسا.

الكاتب: عليه أن يعرف لفرنسا فضلها إذ خوّلته شرف الانتماء إليها فلا يتطاول على أبنائها الأقحاح!

الكعاك: إني ما طلبت إلا حقاً لي بمقتضى دستور المشاركة الذي وضعته فرنسا، فكيف يعد هذا تطاولاً على أبنائها؟

المقيم: حسناً يا مسيو كعاك، سننظر في أمر طلبك.

الكاتب: إنني أنذرك يا صاحب الفخامة، لئن سوّيت بيني وبين العكاك لأستقيلنّ من منصبي!

الكعاك: سبحان الله.. تتهمني بالتطاول عليك وأنت في درجتي، ثم تعمد إلى من هو أرفع منزلة مني ومنك فتتطاول عليه وتعترض على قراره!

الكاتب: اسكت.. لا تتدخل فيما بيننا نحن الفرنسيين!

المقيم: نعم.. قد أخطأت في هذا يا مسيو كعاك.

الكاتب: أرأيت يا صاحب الفخامة صلفه وغروره؟ هو اليوم يرى نفسه في درجتي، وغداً يرى نفسه في درجتك!

الكعاك: يا سادتي، إني ما طلبت السائق لسيارتي إلا حفظاً لكرامة المنصب، وصوناً لهيبة فرنسا في هذه البلاد.

الكاتب: نحن الذين نمثل فرنسا هنا. أما أنت فلا تمثل إلا هؤلاء التونسيين الرعاع!

الكعاك: كلا إني لا أمثل إلا فرنسا التي وضعتني في منصبي على رغم هؤلاء التونسيين الرعاع، أما إذا شئت من يمثلهم حقاً فاستدع الحبيب أبا رقيبة من مصر ليتولى الوزارة مكاني، فسترى حينئذ أنه لا يرضى بك أنت سائقاً لسيارته!

الكاتب: (يرتعد غضباً ويشد شعره ويصر بأسنانه غيظاً) أسمعت هذا التونسي الوقح كيف يذكر عدو فرنسا اللدود أمامنا، وكيف يشتمني ويستهزئ بي!

الكعاك: ما حيلتي إذا كنت لا تحب أن يذكر صديق فرنسا الوفي بخير أمامك؟

المقيم: لكنك شتمته، وهذه كبيرة منك.

الكعاك: كلا يا سيدي ما شتمته.

الكاتب: ألم تقل إن أبا رقيبة لا يرضى بي سائقاً لسيارته؟

الكعاك: ما هذا بشتيمة.. هذا حق. هذه عنقي فاقطعوها إن رضي أبو رقيبة أن يتخذك سائقاً لسيارته! وأنا ما طمعت قط أن تكون أنت سائق سيارتي، بل طلبت أي سائق تونسي، فعلام تعارض طلبي؟

الكاتب: أسمعت هذه الوقاحة يا صاحب الفخامة؟

المقيم: كفى ملاحاة، فما لهذا جئنا.

الكعاك: قد رأيت يا سيدي كيف تهجَّمَ علي، وإني آسف لما بدر مني على كل حال.

المقيم: دع عنك هذا.. أريد الآن أن أستنير برأيك في مسألة هامة.

الكعاك: إني تحت أمرك يا فخامة المقيم.

المقيم: إنا لا نأمن أن ينشر خبر المجاعة في الخارج، فرأينا أن نعلن عنها بما يتفق مع مصلحة فرنسا، وأن ننتحل لها سبباً مقبولاً تسقط به عن فرنسا التبعة.. فما رأيك؟ هل لديك اقتراح بهذا الصدد؟

الكعاك: لن يصح لي رأي يا سيدي إلا إذا وعدتني بتحقيق مطلبي.

المقيم: أعدك بأن هذا الطلب سيكون موضع النظر.

الكاتب: لكن يا صاحب الفخامة...

المقيم: (يغمز له جفنيه) لا شأن لك أنت الآن! (للكعاك): ماذا تقترح يا مسيو كعاك؟

الكعاك: (مزهواً بنفسه) أما وقد وعدتني بتحقيق مطلبي فهاك عصارة ذهني! سندعو الأمة إلى إقامة صلاة استسقاء عامة..

المقيم: صلاة استسقاء؟ ما معنى ذلك؟

الكعاك: هي صلاة خاصة معروفة عند المسلمين، يقيمونها عندما يشتد الجفاف والقحط، فيدعون الله فيها أن ينزل عليهم الغيث فيعم الرخاء.

الكاتب: ومن قال لك إننا نريد أن يعم الرخاء؟

الكعاك: (متشفياً) لا تعجل يا سيدي، ليس كل امرئ يقدر أن يدرك مغزى حديثي من أول وهلة!

المقيم: أتمَّ حديثك يا مسيو كعاك.

الكعاك: الغرض من إقامة هذه الصلاة أن نفهم سواد الناس في هذه البلاد أن سبب المجاعة هو احتباس المطر، وأن الحكومة ستحيي هذه السنة النبوية لحبها الإسلام واحترامها شعائره.. وستذاع أنباء هذه المظاهرة الدينية العامة، فتكون دعاية طيبة لفرنسا في الخارج... إن الناس في الخارج قلما يعلمون أن عندنا نهيرات تصب مياهها في البحر دون أن نستفيد منها شيئاً، فلن يصعب عليهم أن يصدقوا أن سبب المجاعة إنما هو الجفاف وقلة الماء.

المقيم: مرحى يا مسيو كعاك هذه فكرة رائعة!

الكعاك: ما أريد عليها أجراً إلا تحقيق مطلبي.. فعجل بذلك يا سيدي. فخير البر عاجله.

الكاتب: أذكرك يا صاحب الفخامة أنني سأستقيل إن سويت بيني وبينه!

المقيم: إني والله لفي حيرة من أمركما، لا أدري ماذا أصنع.

الكعاك: هل يرضيك يا صاحب الفخامة أن تقع لي حادثة أخرى فتودي بحياتي؟

الكاتب: لا تصدقه يا صاحب الفخامة، فإنه يجيد السياقة إجادة تامة.. أؤكد لك يا سيدي أنه سائق ممتاز!

الكعاك: لو صح هذا لما قضيت هذين الأسبوعين في هذا المستشفى.

الكاتب: عندي ما يثبت أن حادثة الاصطدام إنما دبرتها أنت عمداً، وأنك كنت تسوق السيارة ببطء شديد حين صدمت بها الشجرة، ولولا ذلك لتحطمت وتحطمت أنت معها.

الكعاك: هذه دعوى باطلة.. لا تصدقه يا سيدي.. لا تصدقه!

الكاتب: ها هو ذا تقرير الطبيب يوم الحادث (يسلم للمقيم ورقة أخرجها من جيبه).

المقيم: (ينظر هنيهة في الورقة ثم يقهقه ضاحكاً) ويلك يا مسيو كعاك.. لقد كشفنا حيلتك؟

الكعاك: كلا يا سيدي.. إنه هو الذي أوعز للطبيب أن يكتب هذا التقرير الكاذب.

المقيم: صه.. هذا طبيب فرنسي، لا يجوز لك أن تتهمه بالكذب!

الكاتب: هل بقي للفرنسيين حرمة عند هذا الكعاك المغرور!

المقيم: أشهد إنه لبارع في اصطناع الحيل؟

الكعاك: أؤكد لك يا صاحب الفخامة إنها لحادثة صحيحة، وليست حيلة.

المقيم (يستمر في ضحكه) ويلك يا مسيو كعاك.. إنك لتذكرني بأولئك الشحاذين الذين يفتعلون العاهات في أبدانهم ليستدروا بها عطف الناس!

(ستار)