الوجه الآخر مسرحية شعرية تاريخية

أ. أحمد محمد أبو شاور

الوجه الآخر

مسرحية شعرية تاريخية

تأليف: أ. أحمد محمد أبو شاور

عضو رابطة الأدب الإسلامي

عدد المشاهد: 4 يليها الهوامش

المشهد الأول: نساء كثيرات في باحة بيت أسلم بن عبد البكري، وهن يتحدثن فيما آلت إليه أمور الناس من صلاح وفساد، ويتلقّفن أخبار معيلهن الوحيد "أسلم" الذي غيبته الفتنة.

تنظر أم أسلم بعفوية إلى زوجة ابنها أسلم وقد اتجه نحوها، ثم تتابع العمل بمغزلها.. لكن مرأى زوجة أسلم بثوب الحداد قد أثار فضول العجوز ودهشتها وجعلها تُعقّب بقولها:

حِدادُكِ يا ابنة الشيخ ابتذالٌ

ووزرٌ ما رأيتُ له أصولاً

ولو جاز الحدادُ على عزيزٍ

لكانَ.. لأحمدٍ جيلاً فجيلا

 

 

أمنْ بعدِ الإمام تقرّ عينٌ

وتهجعُ مهجةٌ فقدتْ نزيلا(1)

تتنهد زوجة أسلم بعمق وتقول بحزن:

 

أتبكين الذي بلغَ الأماني

وداراً تُكرمُ الدّنفَ النزيلا

رافضة وموضحة:

 

فما خطرت على قلب لعبدٍ

وما رأت العيون لها مثيلا

ثم تبتسم وكأنها تنظر بعينها تلك الجنة التي تصفها.

 

ومن بعد الإمام فقدتُ بعلي

أخاف الحرب تتركه قتيلا

زوجة أسلم مبررة:

 

فما قتلُ الإمام أجلُّ خطباً

على الأنثى إذا فقدت حليلا..

تمعن أم أسلم التفكير قي كلمات زوجة ابنها ثم تقول ببطء:

 

فمن يدري.. أأردته جروحٌ

أم الموت الزُّؤام به تولّى

تحاول زوجة أسلم إخفاء حيائها.. ثم تستدرك قائلة:

 

أم الحصر الشديد أتى عليه

فما أبقى لخطوته مَحلا(2)

تنفجر باكية.

 

أم الأحجارُ قد هبطت عليه

فأضحى دونها يقتات ظِلا

وهي تغالب دموعها:

 

وإن صدقت ظنوني حازَ أخرى

من الخودِ الحِسان بها استقلاّ

تصمت هنيهة ثم تتابع وقد خطر ببالها شيء آخر.

 

 

سيرجع أسلمٌ من غير خودٍ

ويُذهبُ وصلُهُ عنك الظنونا

تحرّك أم أسلم رأسها بتعجب، وتقول مطمئنة لزوجة ابنها.. والابتسامة تلوح على شفتيها:

 

جزى الله الفتونَ فقد أمالت

رؤوس القوم أذهبت العقولا

ويا ليت العقول تثيب رشداً

يزفّ لقومنا الأمل الخضيلا

يحدثني الفؤاد وكلُّ حدسي

زوجة أسلم بحرقة وغضب:

 

بأنَّ العُسر إن بلغ الوريدا

أتانا اللهُ بالفرج المُرجّى

وأنْبتَ حبةً كانت صعيدا

أم أسلم بثقة:

سألقي للبشير..

زوجة أسلم ناذرة:

للبشير.. رموش عيني

وشاةً ما اقتنيتُ لها مثيلا

ثم مترددة، ومرتبكة

 

 

علمنا الشّاة مجزية بنذرٍ

فما نفعُ الرموشِ لآخذيها؟؟

تضحك أم أسلم لكلمات زوجة ابنها وهي تستفسر منها:

 

كأنّ البؤس أرهقني بقولٍ

فأهرقَ من فمي لفظاً سفيها

ولو سلم النُّهى ما قلت هذا

ولا سقت الهذارَ غوى وتيها

أرى الجسم العليل يعلُّ قولاً

وتخذِلُ حيرةُ النفس النَّبيها

ترتبك زوجة أسلم، ثم تفطن لخطئها فتبرره بقولها:

 

دهاءُ البعض أغرقنا ببحرٍ

من اللأواء ما أبقت جميلاً

أم أسلم مؤيدة، وعاذرة لزوجة ابنها.

 

 

بل الحكمُ المعشِّشُ في النوايا

غَوى الخطوات كي تطأ النخيلا

تخرج ابنة أسلم من بين النساء وهي دون العاشرة من عمرها.. تخرج معقبة بقولها:

 

 

 

ألا سحقاً لعهد سوف ياتي

وفيضُ المالِ في كنفِ الجباةِ

فتؤخذُ لقمةٌ من تحت ضرسٍ

لتبذر في ثرى ضِيَعِ الطغاة

ويُجبى المال غصباً دون حقٍ

ليحيا مترفاً كلبُ الوُلاةِ

تفزع زوجة أسلم وتتلفت ذات اليمين وذات الشمال ثم تشير لابنتها أن تحفظ لسانها فيما تبدأ النسوة بالانصراف والدخول إلى البيت لظهور "جبير" وهو ابن أخت أسلم وقد عُرف بين أهله وأقرانه بالجنون.. وما إن يقترب حتى تشير زوجة أسلم لابنتها بمغادرة المكان، فتغادر وتختفي بداخل الغرفة..

تصلح زوجة أسلم من حالها ومن حال نقابها على وجهها فيما يُقبل جبير قائلاً:

 

يتابع سيره حتى يجلس بالقرب من جدته أم أسلم.

فما خبر الديار فدتك أمي

وخالة عمتي وشياه عمي؟

أم أسلم مستفسرة بجد ثم بمزاحٍ ظاهر

 

 

خطيب العيد لا رأسٌ لديه

وصدر الدينِ من عَلَمٍ تدلّى

يرفع جبير رأسه حتى يشرئب نظره في السماء ثم يفكر هنيهة قبل أن يقول:

 

 

ألا أحدٌ يُترجمُ قول سبطي

فقد عمّاه من خَبَلٍ وسُخطِ؟

تفكّر أم أسلم ملياً في كلماته وتبدو الحيرة على وجهها قبل أن تدير نظرها فيمن حولها.

 

عنى ابن الزبير بغير رأسٍ

على أخشاب ساريةٍ تدلى

يأتي صوت ابنة أسلم قبل أن تظهر بباب الغرفة.

 

 

 

سمعتك يا جبيرُ تقول شعراً

كريح المسكِ أو عبقِ الخزامى

وقد تُنْبي بما قد لا نراهُ

فتُفرغُ من صدى ذاكَ النّدامى

وما إن تلتقي نظراتها بنظرات أمها حتى تعود أدراجها وتختفي..

أم أسلم لحفيدها جبير.

 

 

 عرفتُ اللهَ في نفسي وما فيها

منَ الإعجاز ما يُفضي لباريها

فأضحى القلبُ ذا عين تبصِّره

وللنبضات إحساسٌ يُغذّيها

يحرّك جبير رأسه وجسده بحركات تنمّ عن عدم سويته ثم يُدير رأسه في السماء حيث يقول:

 

 

فما رؤياك عن فتن ستأتي

وهل للناس من درعٍ يوقِّيها؟!

أم أسلم بدهاء، وكأنها تود التحقق من درجة وعيه العام:

 

 

سليني ما استطعت له جواباً

فما ألقيتُ عن غيبٍ حجابا

ولستُ بتابعِ المختار حتى(3)

أمالقُ دعوةً أضحت كِذابا..

جبير بثقة:

ويزداد انفعاله تدريجياً..

 

 

تعالى الله لم يهمل أموراً

يراها العبدُ من جهلٍ صغارا

ينهض من مكانه ويهم بالانصراف فتوقفه كلمات جدته:

 

 

وقد ألقى العجوزَ بنار خُلدٍ

بما اقترفت بقطتها ضِرارا(4)

يخطو مبتعداً خطوة أو خطوتين ثم يلوي بجذعه نحو جدته قائلاً:

 

فما رأي الحفيدِ بما نلاقي

من الأرزاء في هذا الشقاق؟

أم أسلم مستفسرة:

 

خذلنا سبطَ هادينا فبتنا

نُباري بالغوى أهلَ النفاقِ(5)

جبير مجيباً.

 

 

سأبصرُ إن لبثتُ لبعضِ حينٍ

جميعَ الناس من قهرٍ أيامى

تجيّشهم سياطُ أخي لقيطٍ

وتُرقصهم دفوفُ بني تعامى

وعُثْنونُ الأمير بحجم كفٍّ(6)

وتغدو لمّةُ الأنثى سَناما

يبتعد خطوة أو خطوتين ثم ينعطف نحوها قائلاً:

 

فإن ألِفوا الزعامة في لعينٍ

فبطنُ الأرضِ عن ظهرٍ تسامى

يتوقف مفكراً ثم يستطرد قائلاً:

 

يبتعد جبير فيما تلاحقه نظرات جدته حتى يتوارى.

 

ستار

 

المشهد الثاني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يظن النِّكس أني لا أراهُ

وقد جنَّ الظلامُ على خطاهُ

نفس موقع المشهد الأول، حيث ينسدل الظلام وترتفع الضوضاء والجلبة من حركات وصرخات النساء ببيت أسلم، وقد خرجن خلف ابنة "أسلم" يحملن العصي والسيوف القديمة..

ابنة أسلم وهي تلوّح بسيف قديم حملته.. واتجهت بالنساء نحو مغارة تتخذها الأسرة لإيواء ماشيتها.. موضحة:

 

أحقاً ما رأيتِ وما الدليل

لدى بيت الشِّياه ثوى الدخيل؟

أم أسلم بصوت مرهق:

 

عيوني قد رأته وليس ظني

وبعضَ الشَّوكِ تسحبُه الذيولُ

ابنة أسلم موضحة ومؤكدة:

 

فما خطبُ الشِّياه بلا ثُغاءٍ

أما أودى بهجعتها النّزيلُ

أم أسلم متوجسة ومتشككة.

 

تفرّسن الطريق وما اعتراها

من الكنس الخفيف على ثَراها

تتوقف ابنة أسلم في المكان الذي مر منه الدخيل، وتدني المشعل من الأرض قائلة:

 

ألصٌّ جاءَ يسرقُنا بليلٍ

أم الحجاج جاء لنا فتاها

تنظر أم أسلم وزوجته حيث أشارت الابنة، ثم تتساءل أم أسلم بحيرة:

أظنُّ وبعض ظنّ المرء إثمٌ

بأن دخيلنا جَرَعَ الدّنانا

فضلّ سبيلَهُ عن غير وعي

ولاذ بغارنا الأدنى مكانا

زوجة أسلم متشككة.

بل العَسسُ المُنَشّرُ في الديارِ

يشي بالفكِّ إن مضغت لبانا(7)

ابنة أسلم وهي تقترب من المغارة.

 

قِفي بالباب ننظر من أتانا

بهذا الليلِ واستحيا حِمانا

زوجة أسلم وقد أمسكت برداء ابنتها المندفعة من الخلف.

أخالُ دخيلنا من غير سوءٍ

ولو شاءَ الخساسة ما اتّقانا

ثم تفطن لما قد توحيه كلماتها فتستدرك قائلة:

تهيّأ أيها الرجل الدخيلُ

تصرخ أم أسلم من مكانها بالرجل الذي بداخل المغارة.

أبنْ وجهاً!

ابنة أسلم موضحة.

أبن غرضاً لنمنحكَ الأمانا

زوجة أسلم.

فإن جُسنا المغارة لا نُبالي

إذا الموتُ الزؤامُ جرى وكانا

ابنة أسلم متوعدة.

 

ألا فاخرج إليَّ وكن شجاعا

وخُذ مني على العهد الرِّقاعا

تؤولُ إلى الأمير بلا هوانٍ

إذا أبديتَ للأمرِ انصياعا

تزداد حدة الضجيج في هذه الأثناء، وتتعالى صرخات النساء وتتجه الأنظار إلى رجال الحجاج وقد اقتحموا المكان، يترجل أميرهم ويتقدم من باب المغارة حيث يصرخ بأعلى صوته.

 

يسود الصمت المطبق إلا من أنفاس النساء المتلاحقة من شدة الخوف..

وإن شئت النِّزال ثكلت أمّاً

وإنْ كنتَ المجرّبَ والشجاعا

يتابع الأمير قوله:

أُحمّلكَ الملامة في هلاكٍ

وعِرضٍ أنتَ جاعله مَشاعا

يصمت هنيهة ثم يقول:

أُحملك الملامة في هَلاكٍ

وعِرضٍ أنتَ جاعله مشاعا

ترتعد النساء من شدة الخوف حينما يكرر الأمير قوله:

 

 

أبي!

يظهر في تلك الأثناء ضوء خافت داخل المغارة تزداد قوته شيئاً فشيئاً مع اقترابه من باب المغارة إلى أن يظهر الرجل.. فيما تصرخ ابنة أسلم بفزع

عيوني قد رَمَتْهُ وليتَ أني

وَهَبْتُ توقّدي بعضَ التأني

ثم تهرع نحوه فيصدّها الرجال فتندبه بدموعها وقولها:

 

عدوّك في الضَّجيج أصابَ سِراً

فوا أسفاً على فعلِ الضجيج

يهرع رجال الأمير نحو أسلم وهم يجرّون وراءهم السلاسل والأغلال، وما إن يقتربون منه حتى يُشهر سيفه في وجوههم فيتوقفوا.. بإشارة من يد أميرهم.. فيما ينطلق صوت الفتاة باكية نادبة:

 

وما في نشر هذا السرِّ نعمى

ولكن نقمةٌ نضجت بناري

تكفكف دموعها، وتلتقط أنفاسها المتلاحقة ثم تستطرد

 

بأيِّ جريرةٍ عن أي ذنبٍ

ذعرتَ عشيرتي ونَشَدْتَ حربي

تُحمّلني الملامة في هلاكٍ

مع العِرضِ المصانِ بشرعِ ربي

أُعاتبُ مَنْ أعاتبُ لستُ أدري

وهل في القومِ من مصغٍ لعتبي؟؟

أسلم لأمير الجند متسائلاً بغضب:

 

سألتُكَ بالذي جعل السماءَ!

بروجاً ما رأيتُ لها انتهاءَ

أشمُّ بريحه أيام سعدٍ

وذكرى ألفةٍ عَبقَتْ رجاءا

يستل الأمير حربته ويقبل نحو أسلم.. ولكن يد أم أسلم تكون قد أمسكت برداء الأمير من خلفه، بعد أن تخلصت من رجالاته..

يلتفت الأمير نحوها بفزع، ويرمقها بنظرات غاضبة، لكنها تعاجله.

 

قضى ابنُ الزبير فصرْ إلينا

وأوسع شَتمَهُ عند الأميرِ

ولا تَصعَدْ إلى جدلٍ فتردى

وما لَكَ من حسيبٍ أو نصيرِ!

يتلبث الأمير قليلاً، فتتمكن أم أسلم من الوصول لابنها أسلم فتعانقه والدموع تبلل وجهيهما.

يستغل رجال الأمير الموقف فيلقون بأغلالهم حول جسد " أسلم" ثم يبعدون أمه عنه.

فيما يتشبث الأمير بوثاق " أسلم" ويجرّه إليه قائلاً ومحذّراً:

أعيذُكَ من مقالٍ أنتَ فيه

أخسُّ من الذّنائبِ للبعيرِ

أأشتمُ من أتى عِلماً ودينا

وجاهدَ في حمى الله القديرِ؟؟

يرمقه أسلم بنظرات غاضبة ثم يقول:

فإنْ رُدَّ الجوارُ إليكَ تشقى

وفي الجلساءِ مالكَ من مُجير!

الأمير محذراً:

فإنْ ردَّ الجِوارَ إليَّ نِكسٌ

فحسبُ الله من نكسٍ مجيري!

أسلم بغضب:

يُجيرُ اللهُ من أمسى نَقيّا

منَ الأرجاسِ واتّبعَ النَّبيا

الأمير لأسلم مشيراً لخروجه عن بيعة عبد الملك بن مروان.

ومَنْ حَقَنَ الدماءَ ولم يُرقها

ولم يجعل مع المولى وليّا!

أسلم معرّضاً بالحجاج

وما تركَ الجماعة أو تولّى

يُدبِّرُ للورى أمراً خفيّا

الأمير معرّضاً بابن الزبير

وحجُّ البيتِ لم يُجعلْ لقدسٍ

وبيتُ الله لم يُجعل نِسيّا(8)

أسلم معرّضاً بعبد الملك

وما جعلَ الحجيجَ لشقِّ صفٍّ

ولا أخفى عن العدلِ العَصيّا

الأمير معرضاً بابن الزبير الذي جعل من مواسم الحج مناسبات للتشنيع على عبد الملك

 

فلم تحبس إليكَ بُنيَّ أسلم

وما وَطأ الشآم وما تكلم

بحق خلافةٍ لم يفتِ فيها

وأحسبُ قولَه.. اللهُ أعلم..

تتخلص أم أسلم من أيدي الجنود، في تلك الأثناء وتمسك بالأمير من حزام سيفه.. ثم تقول:

 

يدُ السلطانِ أنتَ إذا استقلاّ

ركابَ البطشِ أو سَفكَ الدماءَ

وأنتَ السيفُ إنْ جُزّت رقابٌ

وفي الحالين لن تجْزَى الثناءَ

وقبل أن يجيب الأمير بشيء.. تكون ابنة أسلم قد وقفت إزاء الأمير، لتقول محذرة

 

تطيعُ اللهَ في أمرٍ وأمرٍ

تخالفُ شِرعةً عَمداً وقصدا

كساقي الخمرِ أمَّ بعاصريها

وحثَّ لشربها شيباً ومُرْدا

أم أسلم متهمة الأمير:

 

على غير الشريعة والكتابِ

أُقتّلُ من أشاءُ بغيرِ جُرمِ

وأعقدُ من جماجمهم قبابي!

يرتبك الأمير قليلاً ثم تسعفه ذاكرته، فيقول مدافعاً عن نفسه..

 

أرى العذرَ الجميلَ أشدَّ قبحاً

من الفعلِ القبيحِ وإنْ تجمّل

أم أسلم رافضة ومتهمة:

 

على نهج الخلافةِ قد أقمنا

حدودَ اللهِ في قاصٍ ودانِ

فلا أُخذَ الجُناةُ بغيرِ ذنبٍ

ولا أُخذَ البريءُ بجرمِ جاني

الأمير موضحاً، ومدافعاً عن الحجاج.. والخلافة.

 

لأي الجانحين أراك تمضي

إذا سفكَ الأميرُ لنا الدماءَ

ابنة أسلم مستفسرة بغيظ:

 

أرى العذراءَ قد كبرتْ بقولٍ

ولم تبلغ بقامتها الفسيلا

وإن لسانها ألقى بقولٍ

يُقرّب نحوها الرتعَ الوبيلا

الأمير لابنة أسلم بغضب:

بقولي قد نثرتُ شُعاعَ شمسٍ

يُصيبُ شعاعها مَيعاً هَزيلاً

يرى الظلماتِ من عُري كِساءا

وجنح الليلِ مانحُهُ السّدولا

ابنة أسلم متهكمة:

 

فمن للحق للشيخ الكبير

إذا اتحد الدعيّ مع المبيرِ

وألقى العدلَ من حنقٍ بغيضٌ

بقيدِ السجن أو قعر السعيرِ

تبعد أم أسلم حفيدتها من طريقها، لتصبح هي في مواجهة الأمير حيث تقول:

 

علومي في القضاءِ أقل شأناً

وأعجزُ أن تفي أذنَ الأميرِ

وليس بنيّتي إظهار رأيٍ

يُقصِّرُ قامتي بين الحضور

الأمير وقد ابتعد قليلاً بأسلم:

 

لنا فصل القضاء بيوم دينٍ

وحقٌ غُلَّ من عُنقِ المبيرِ

أم أسلم متوعدة، ومحتسبة:

 

ستار

 

المشهد الثالث

 

إليَّ بجحدر!!

مجلس الحجاج وفيه غلامه وكاتبه وحاجبه وبعض جلسائه.

الحجاج مشيراً لغلامه

 

إليّ بجحدرٍ فلقد توالتْ

جرائمُ فتكِه بين العبادِ

ينصرف الغلام لإحضار جحدر فيما يوجّه الحجاج حديثه لجلسائه:

فما أجدى به لومٌ وعتبٌ

ولا الوعظ المؤطّرُ بالرشادِ

يصمت هنيهة ثم يستطرد قائلاً:

 

يُفتح باب المجلس ويدخل عدد غير قليل من رجالات الحجاج وهم يجرون "جحدر" من سلاسله وأغلاله..

قضى الليلَ الطويلَ يقول شعراً

يُشير غلام الحجاج لجحدر قائلاً للحجاج:

 

قضى الليلَ الطويلَ يقول شعراً

ويبكي زوجتيه إذ التقاني

يتفهم الحجاج كلمات الغلام ثم يعقّب عليها بقوله:

 

إذا جاوزتما نخلات نجدٍ

وأودية اليمامة فانعياني(9)

وقولا جحدرٌ أمسى رهيناً

يُحاذرُ وقعَ مصقولٍ يماني

ألم تندبْ نفسكَ بهذا؟

ثم يوجّه حديثه لجحدر مردداً أبياتاً قالها جحدر لنفسه:

 

ثم مستفسراً من جحدر

 

يهز جحدر رأسه بنعم.

 

فلمْ أبكيت من يتم صغارا

ولم ترعَ المحارمَ والذمارا؟؟

الحجاج لجحدر مستفسراً:

 

بجُرأةِ ذا الفؤادِ شَقيتُ حتى

حسبتُ الناس من دعةٍ خِرافا

ومن ظُلمِ الولاةِ لقيتُ شيئاً

أماتَ وداعةً أحيا اعتسافا

ولم أجد الشجاع يكيل ظلمي

بصاع الظلم صيعاناً ردافا

يمعن جحدر في إطراقته ثم يزمّ شفتيه، ويشير إلى مكان القلب في صدره.

 

يُداني الظلمَ فظٌّ إثر فظٍّ

فذاكَ الحالُ من أيامِ عادِ

الحجاج لنفسه بصوت مسموع:

فلو رُوِّعْتَ من بطشٍ لقالت

إليك النفسُ دعني في مهادي

ثم لجحدر

من الصخرُ الشديدُِ أتى فؤادي

أو الصخر الشديد به تزجّا

فما نفعَ الفؤادَ جميلُ وعظٍ

وسمعي يوسعُ التذكير مجّا

يتفهم جحدر كلمات الحجاج ثم يقول:

أُغالبُ لوثةً سكنت برأسي

وألقت في الزّحام غَدي وأمسي

فإن طَلَعَ النهارُ ندبتُ بدراً

وإنْ حلَّ الظلامُ ندبتُ شمسي

يُدهش الحجاج لقول جحدر، ويتلبث في الردّ عليه فيبرر جحدر قوله بقوله:

 

لعَمري ما ارتويتُ بشربِ ماءٍ

ولا روّى الحسامُ جُنوحَ نفسي

يقترب منه الحجاج ويرمقه بنظرات غاضبة، لكن جحدر لا يأبه بها.. فيقول:

 

حديثك في الفسوقِ قضى بأني

أرى الشيطان في بشر تربى

تُضام الأرضُ إنْ ألقيتُ فيها

رُفاتَ منشّرٍ صَلفاً ورُعبا

يلكزه الحجاج بقضيب السوط وهو يقول:

 

ذَروني في الهواءِ أكونُ غيماً

وقَطراً ترتوي منه الصّبايا

وقد أمضي إلى بوحٍ بوجدٍ

فأسلكُ في العروقِ وفي الخلايا

يرسم جحدر ابتسامة نصر على شفتيه، فيقول مستبشراً:

 

تُخوّضُ في الغوى حياً وميتاً

كرجلٍ خوَّضت طيناً وسَبتاً

يلكزه الحجاج ثانية بغضب:

 

فلو عانيتَ في الأخرى جحيماً

نبذتَ غوى ومن هولٍ بكيتا

ثم يلكز جحدر بالقضيب ثالثة.

 

ولو عاينتَ في الدنيا ثواباً

لرُمتَ سكينةً ولزمتَ بيتا

جحدر للحجاج:

 

غللتَ الصدرَ ويحك من حقودٍ

ولو كنتُ الطليقَ لما اجترأتا

يتأجج غضب الحجاج ويغل صدر "جحدر" بقوة.. يكظ جحدر على ألمه الشديد لكنه يُظهر قوة على احتماله.. ويتردد في فعل شيء لكنه لا يستطيع فعله بسبب القيود الثقيلة التي تطوق جسده فيقول:

 

معاذ الله أن أمضي بثأرٍ

لنفسٍ حُمّلت وزرَ القضاءِ

يذرع الحجاج المكان جيئة وذهاباً ويهم باستلال خنجره، لكن يده تتوقف عن ذلك، فيما تهدأ نفسه، كما تهدأ ثورة غضبه، وقد خطر بباله أن الاقتصاص من جحدر في هذا الموقف إنما يعني اقتصاصه منه لنفسه.. فيوجه حديثه لجلسائه قائلاً:

 

فإني مُبتليك بشرِّ ليثٍ

ولستُ بنازعٍ عنك الحديدا

فإما أن تُري ما قلتَ بأساً

وإما أن تُرى مزقاً فصيدا

يصمت هنيهة ثم يستطرد قائلاً:

 

أرى الأسدَ الهزورَ ينال عدلاً

إذا مُنعَ السلاسلَ والقيودا

وإني قد رُميتُ بكل ظلمٍ

إذا الحجّاجُ ناصبني الجحودا

يفكر "جحدر" ملياً في كلمات الحجاج وتسترق عيناه النظرات إلى قيوده، فيقول:

 

 

ينظر الحجاج في وجوه جلسائه وقد ظهر عليها الشجب والاستنكار فتفهم ما يدور برؤوسهم.

ليُسراكَ الطليقة قد تركنا

لقاءَ الليث والسيفَ اليماني

لجحدر مطمئناً:

 

لنائبنا بكسكر صِغ كتاباً

يُعجّلُ بالذي شئنا عقابا

يتفحص نظر الحجاج وجوه الجلساء وقد بدا على بعضها ملامح الارتياح..

الحجاج لكاتبه.

 

أريدُ نيوبهُ من فرط جوعٍ

فؤوساً زُرّقت نصلاً وقابا

يصمت هنيهة ثم يوجه حديثه لجحدر بتحدٍ واضح.

 

يرسم جحدر على شفتيه شارة استخفاف، فيما كان الحجاج يشير لغلامه بالانصراف بجحدر.

 

إليّ بأسلم بن عبد البكري!

يخرج جحدر وقد شد غلمان الحجاج وثاقه..

يدنو الحجاج من كاتبه.. يلقي نظرة إلى الأوراق التي بين يدي كاتبه ثم ينادي:

 

ينفتح الباب ثانية ويدخل رجالات الحجاج وهم يشدون "أسلم" من وثاقه:

 

أميرُ المؤمنينَ قضى إليّا

أًجُزُّ الرأسَ أرسله دميّا

ولستُ بخارجٍ عن طوع أمرٍ

يرى فيه الأمير ندى وريّا

يرمقه الحجاج بنظرة استعراضية تمتد من حذائه إلى قمة رأسه ثم يقول بكبرياء:

 

ولكني أردتُ جلاءَ أمرٍ

يُطاوعُ فِطرةً غَلبتْ عَليّا

ففيمَ القتلُ حلّ عليك حُكما

ولِمْ يأبى الأميرُ تظلُّ حيّا؟

يصمت هنيهة ثم يستدرك.

 

أنا الحجّاجُ في عُنقي حجازٌ

ودارُ الحكم ما التمست سوايا

يتجاهل "أسلم" الإجابة وتنشغل عيناه بتفرس وجوه وملامح جلساء الحجاج فيغتاظ الحجاج لهذا التجاهل ويلكزه بالقضيب..

 

أرى الصبّارَ ذا ثمرٍ شهيٍّ

بشوكٍ يحرسُ الثمر الشهيّا

فما تُجنى الثمارُ بغير وخزٍ

ولا الأشواكُ قد صدّت شقيّا

أسلم للحجاج بهدوء وثقة:

 

أردتَ مذمّتي أم شئت مدحي

ففي الحالين لم تُحسن إليّا

ولستَ بمدركٍ مني نجاةً

تخالفُ تُهمةً ثبتت لديّا

يفكر الحجاج طويلاً في المعنى الذي أراده "اسلم" فلا يكتشفه، فينصرف لقول:

 

قتلتُ الخارجين بكل أرضٍ

وقرّت إذ قتلتهمو عيوني

وإني طالبٌ فيهم جناناً

أخالُ قطوفها ملأت يميني

يطرق أسلم قليلاً، ليتابع الحجاج افتخاره بنفسه:

 

تُمنّي النفسَ ويحكَ من عتيٍّ

ومكرُ اللهِ يأمنه العتاةُ

ولو كنتَ العليمَ بقدر ربي

لما رددتَ ما زعم الطغاةُ؟؟

يغضب أسلم لكلمات الحجاج فيردعه بقوله:

 

أساقتك الدروب أم الخطايا

إلى العدلِ المنشّر في البرايا

يتلبث الحجاج بالرد، ويفكر ملياً في الكلمات التي لا تسبب في شتمه فيقول مستفسراً:

 

يظهر أسلم استياءه من كلمات الحجاج، ويرسم على شفتيه ابتسامة ساخرة فيما تحملق عيناه في السلاسل والقيود التي تلتف حول جسده.

 

يلمح الحجاج تلك الابتسامة الساخرة، وتغيظه نظرات أسلم إلى قيوده فيلكز "أسلم" بالقضيب ناهراً.

أطلْ نظراً إليَّ فلستُ ممنْ

يُهمّشهُ المخاطبُ إنْ تكلمْ

بأي جريرة حجاجُ تُلقي

على كتفيَّ أغلالاً ثقالاً

فلا واللهِ ما أرسلت رمحي

لصدر موحّدٍ عرضَ القتالا

يحتمل "أسلم" اللكزة ويقول بهدوء:

 

بلى! ناصرتَ من أضحى خطيباً

ببيت الله أوسعنا هجاء!

الحجاج رافضاً أقوال أسلم ومتهماً له.

 

وقد نالَ الأميرَ بشر قولٍ

وما أزجى لبيعته ارتضاءا

ثم يستطرد الحجاج مشيراً لعبد الله بن الزبير الذي كان يُشنّع على عبد الملك

 

أتذكرُ من صلبتَ بغير حقٍ

وتدعو ما فعلتَ به إخاءا

أسلم متهماً الحجاج.

لسانك قد جلا ما قد رأينا

من الجُرم الموثّقِ في يدينا

الحجاج لأسلم وكأنه قد وجد دليل إدانته.

 

فما قولُ الأميرِ بمن أناخوا

ببيت القدسِ أو شدّوا الرحالا

ومن طافوا بصخرتها ولبّوا

ويوم النّحر قد نحروا الجِمالا؟؟

أسلم متهماً الحجاج.

ها..؟؟

يرتبك الحجاج قليلاً في الإجابة فيقول:

أمير المؤمنين بذا تأذّى

وأطلق صرخة ثقبتْ سحابا

إلهي ما ابتنيتُ القدسَ حتى

أغيّر قبلةً نُسكا رحابا

ثم يستدرك قائلاً:

 

فلمْ جَنَحَ الأميرُ لدار ظلم

وأدنى زمرةً سفكت دماءا

وإن حظي الطغاة بظل والٍ

فأصلُ الظلّ من ظلٍّ تراءى

أسلم مستفسراً بدهاء.

 

هو الجهلُ الحقيقُ بمن رآها

تُظاهرُ روعةً بلغت مداها

يستوعب الحجاج تماماً كلمات أسلم. لكنه يتحاشى الخوض فيه، فيشير إلى بناء قبة الصخرة، واندهاش الناس

 

بل السرفُ المبيرُ بمن بناها

تسوغُ فتنةً في من يراها

أسلم رافضاً ادّعاء الحجاج.

 

أما ينفي الخشوعَ ذهابُ عينٍ

وراءَ زخارفٍ لبست بهاها؟؟

ثم مستفسراً.

أتأمنني على عرضي لأتلو

من القرآن ما يُزري طلاها؟

يصمت هنيهة ثم يتابع بحدة:

 

أتسألني الأمانَ وأنت خصمي

وفي قدميك أثقالُ القيود؟؟

يبتسم الحجاج ويعتبره بداية للتوسل إليه، ولكي يسوق أسلم للمزيد من التوسل يقول:

 

فلا والله لا أمضي لعهدٍ

ولو نلتَ الشفاعةَ من جدودي

بعد برهة صمت.

 

وهل شئتُ الشفاعة من رميمٍ

إذا ما سبطُ جاريةٍ أباها

يزمُّ أسلم شفتيه ساخراً ممن ذكر الحجاج.

 

أيها الغلام.. خذه إلى..

يتأجج غضب الحجاج ويدرك أن حواره مع أسلم لن ينتهي إلا لشيء يكرهه، أو يصبغ صوفته بما يشينه.. فيصرخ بغلامه.

براءةُ أسلمٍ بِتنا نراها..

تندفع في هذه اللحظة ابنة أسلم قائلة.

 

من أنت؟

يلتفت الحجاج نحو مصدر الصوت فيرى ابنة أسلم وقد تقدمت صفاً طويلاً من النساء.

يستعرض الحجاج بنظره الصف ثم يسأل الفتاة

 

بُنيّةُ أسلمٍ قدمت تُحامي

عن الموقوفِ من غير اتهام

ابنة أسلم للحجاج.

 

أتيتِ بهنَّ كي ألينَ وأرجعا

وليس بطبعي أن أجسَّ وأخدعا

أفي كل حينٍ للشفاعةِ جولةٌ

وما حملت كفي السيوفَ لتشفعا

وما أنا من دمع النساء بدافعٍ

قصاصاً يرى فيه الأميرُ تَورّعاً؟؟

يستعرض صف النساء ثانية بنظره عن بعد.. ثم يقول لابنة أسلم بدهاء.

 

أحجّاجُ هل تشهد مقام بناته

وعمّاته يندبنه الليلَ أجمعا

ترتبك ابنة أسلم قليلاً، لكنها سرعان ما تتشجع.. وتقول:

أحجاج إن تقتل به إن قتلته

ثماناً وعشراً واثنتين وأربعا(10)

أحجاجُ من هذا يقوم مقامه

علينا فمهلاً لا تزدنا تضعضعا

أحجاج إما أن تجود بنعمة

علينا وإما أن تقتِّلنا معاً

يطرق الحجاج ملياً:

 

والله لا أزيدكنّ تضعضعا

يمكث الحجاج مطأطئاً رأسه ثم يرفعه وقد بللت الدموع وجهه، ثم يقول بكلمات تقطر أسى وعطفاً.

أدوّنت أقوال الفتاة؟

يتجه نحو كاتبه بإعياء واضح ثم يستفسر منه.

أجل.

الكاتب للحجاج

فلترسله في التو واللحظة إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان

الحجاج لكاتبه

 

ستار

 

المشهد الرابع

 

الزموا الصمت..

فالحجاج قادم..

مجلس الحجاج وفيه العديد من جلسائه وقوفاً، يتحدثون عن لقاء جحدر للأسد، وتختلط الأصوات فتُسمع ولا يُفهم منها شيء.

تتجه الأنظار نحو الباب حيث يدخل غلام الحجاج قائلاً:

 

يا جِمْلُ إنك لو رأيتِ كريهتي

في يوم هولٍ مُسْدفٍ وعَجاجِ(11)

 

وتقدّمي للليث أرسفُ موثقاً

كيما أساوره على الإخراجِ

شَثنٌ براثنِهُ كأنَّ نيوبَه

زُرقُ المعادلِ أو شُباةُ زجاج

وكأنما خيطَتْ عليه عباءةٌ

برقاءُ أو خرقٌ من الديباج

لعلمتِ أني ذو حفاظٍ ماجدٍ

من نَسل أقوامٍ ذوي أبراجِ

 

تخفُّ حدة الضجيج ويعود كل واحد من الجلساء إلى مكانه ثـم تتجه الأنـظار ثانية إلى الباب حيث يدخل الحجاج وحوله رجالاته..

ثم يظهر جحدر وقد بدا عليه أثر عراك الأسد والأغلال حول جسده.. حيث يقول:

فكّوا قيوده.

الحجاج لرجاله:

 

خَبرتَ شجاعتي ورأيتَ عزمي

وسحقي الليثَ من عظمٍ لعظم

فخرَّ كخيمةٍ سقطتْ بريحٍ

وخرَّت قامتي من ثقل خصمي

ولولا القيد ما لَمَسَتْ ضلوعي

يفك الرجال قيود جحدر الذي سرعان ما يوجه حديثه للحجاج مفتخراً.

حصاة الأرضِ، فاجترأت للثمي..

وهو يمسح التراب عن وجهه وفمه.

 

تخيَّر جحدرٌ ما بينَ لبثٍ

بدارِ مودّةٍ من غير بَثِّ

وبين يمامةٍ أبليت فيها

بلاءَ الطفلِ من لعبٍ وعبث؟؟

يصفّق له الحجاج.. ثم يصفق له الجلساء..

الحجاج لجحدر.

 

ألوذُ بداركَ العليا لأمحو

صدى الأيامِ من عفنٍ وخبث

يطرق جحدر هنيهة ثم يقول مبتسماً.

 

معاذَ اللهِ قد فارقت جهلاً

ونلتَ شفاعةً من قتل ليث

الحجاج مغتبطاً.

 

أنِلهُ عطاءً يُطيل الثناءَ

وإن عادَ يُعطى وقل مرحبا

ثم يوجه الحجاج حديثه لغلامه.

 

جوادٌ أثابَ وقد أربحا

وأوجبُ من ذاكَ أن يُمدحا

أراني الحقيقةَ في بطشهِ

وقد كنتُ فيما مضى جانحا

ولولا الهدايةُ من خالقي

لكنتُ الشقيَّ بدربِ الرُّحى

يعطيه الغلام صرة من النقود.

يتأمل جحدر الصرة.. ثم يقول:

 

إليّ أيتها الشاعرة الصغيرة!

يتفهم الحجاج وجلساؤه معنى كلمته.. ثم يبتعد إلى أن يتوارى عن الأنظار..

تظهر أم أسلم ومعها حفيدتها ابنة أسلم عند باب المجلس وما إن يراهما الحجاج حتى يدعوهما الحجاج.

 

قرأتُ كتابكَ فيما سألتَ

وما أنت باسمي تزيدُ النّقمْ

أتتكَ الصغيرةُ في حلّةٍ

من الشِّعر يجلو سَوادَ الظلمْ

فخذها بعطفٍ وسرِّحْ أباها

وَصلْهم بشيءٍ يُوازي النِّعمْ

تقبل ابنة أسلم نحوه بخوف وحذر.. فيما يدفع الكاتب جواب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج الذي يقرأه بصمت

ثم بصوت مسموع.

 

أطلق أباها..

وصلهم بشيءٍ يُوازي النِّعم

تفرح الابنة لهذا القول فتعانق جدتها..

الحجاج لحاجبه

ثم لغلامه.

 

ستار

         

الهوامش:

(1) الإمام: هنا الحسين بن عليّ..

(2) الحصر، إشارة للحصار الشديد الذي فرضه الحجّاج على عبد الله ابن الزبير في مكة المكرمة.

(3) المختار: هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو الثقفي. أسلم أبوه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.. لكنه لم ير الرسول، ولهذا لم يذكره الصحابة فيهم.

نشأ المختار ناصبياً أي من المبغضين لعلي بن أبي طالب بغضاً شديداً ثم ادعى النبوة وعظم شأنه بعد أن استحوذ على الكوفة بطريق التشيّع، وإظهار العزم على أخذ الثأر للحسين. قتله مصعب بن الزبير.

(4) إشارة لحديث رسول الله في العجوز التي احتبست قطتها حتى هلكت.

(5) سبط هادينا: علي بن أبي طالب وهو ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(6) عثنون: لحية، لمّة الأنثى: شعرها.

(7) العسس: الرجال الذين يبثهم الولاة بين الناس، للتجسس عليهم.

(8) ذكر صاحب مرآة الزمان أن عبد الملك بن مروان ابتنى المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، فجاءت من العظمة والروعة ما جعلها تستقطب أنظار ورحال الناس بالحج إليها.

(9) هكذا وردت على لسان جحدر نفسه.

(10) هكذا أوردتها المصادر العربية.

(11) الشعر لجحدر، وقد اخترتُ ما يفي بالمعنى.