المسرح الفلسطيني

المسرح الفلسطيني

بين الواقع والطموح

د. كمال أحمد غنيم

الجامعة الإسلامية – غزة

[email protected]

ارتبطت نشأة المسرح الفلسطيني بالمدارس التبشيرية كعامل أساس من عوامل الاحتكاك بالغرب، و تشكلت أبعاده في ظل معطيات تبحث عن الجانب التعليمي والأخلاقي و السلوكي، بالإضافة إلى ما فيه من سحر الترفيه والمتعة والجاذبية .   و مارس الفلسطيني دور المتلقي الواعي لمكنونات الحضارة الإنسانية حيث تم استيعاب 

التجربة الغربية؛ والسير على خطاها،  لكن الحافزين الوطني و الديني وقفا وراء محاولة توظيف هذا الفن لصالح الشخصية العربية المستقلة؛ والحفاظ على هويتها وقيمها؛ الحذرة من الوقوع في براثن الاستعمار الثقافي، مما دفع الوطنيين إلى اقتحام غمار هذا الفن  و إجراء التجارب الأولى، التي تدرجت في العطاء و القدرة على تحقيق المستوى المطلوب،  لكنها كانت تجربة جريئة آتت أكلها، وسمحت لنفسها بالنقد الذاتي، الذي يقوّم المسار، هذا النقد الذي اتجه في البداية  إلى المضامين، يحاسبها ويحاكمها حتى لا تكون مجرد نسخة مشوهة، عن حضارة المستعمر، مع القليل من الاهتمام بالجوانب الفنية، التي حاولت المزج بين الذائقة العربية المهتمة بالفصاحة والبلاغة  والإدراك الفني  المتنامي لأبعاد هذا الفن الجديد وعناصره، وسار الفلسطيني في الاتجاه نفسه الذي سار فيه المسرح العربي عند مارون النقاش  وأبو خليل القباني ويعقوب صنوع، حيث توجه الجميع إلى منح القالب المسرحي ملامح عربية، من خلال الشكل والمضمون، واتجهوا في الغالب  إلى التراث العربي، يستمدون منه حكاياتهم المسرحية، بالإضافة إلى الاهتمام بالغناء كرافد للمسرحية، ينسجم مع ذوق المتلقي العربي، والاهتمام ببلاغة الحوار، وتوظيف اللغة العربية الفصحى المفعمة  بالمحسنات والمجازات.

       و تميز المسرح الفلسطيني  بالتوجه المبكر إلى التوعية السياسية  المنبثقة من واقع المطامع اليهودية المبكرة  في أرضهم، مما دفع الكتاب  إلى التحذير من هذا الخطر  القادم، ثم سرعان ما انخرط في هذه القضية بقدوم الانتداب، ومن ثم الاحتلال مما جعل السمة السياسية غالبة في توجهات المسرح الفلسطيني، و كُتب عليه أن ينخرط  في المقاومة بكل أدواتها، حيث اتجه في بداية نضاله إلى التنوير متخذا من المخاطر المحدقة والآفاق المقبلة محورا يكشف من خلالهما الحقائق، و يبرز ما خفي وراءهما، و لم يلبث أن اتجه إلى مزج  عملية التنوير بالتثوير  والتحريض على ممارسة الفعل النضالي تجاه الجرائم الاستعمارية والاحتلالية المتصاعدة على صعيد الحياة اليومية للإنسان الفلسطيني بما يواجهه من محاولات الاقتلاع والمستوطنات السرطانية والمواجهات الدامية، أو على صعيد الحروب المتواترة في ظل حماية دولية وتستر عالمي مفضوح.

       و قد انعكست هذه السمة على مسيرة الحركة المسرحية الفلسطينية على أرض الواقع، حيث جُوبه العاملون فيه بالقمع الفكري والسلطوي، مما جعل التجربة الفنية  العملية ممزقة تسير ضد التيار الجارف، وتضع بصماتها في ظروف أقرب إلى المستحيل، لكنها استطاعت أن تحقق عدة إنجازات، أهمها التواصل الممزوج بالإصرار، ولم تقف قضية انقطاع فرقة عن العمل أمام هذا التواصل، حيث راح أعضاؤها يشكلون في الغالب  فرقا جديدة  تواصل ما انقطع  وتحاول البقاء.

       و اجتهدت الجمعيات والنوادي والمؤسسات الوطنية في تجاوز الظرف السياسي القائم، محاولة أن تقدم بعض ما تقوم به الهيئة الوطنية المسئولة  في ظل الدولة، وصولا إلى نهاية القرن العشرين، الذي تحقق فيه قيام السلطة  الفلسطينية على جزء يسير من  أراضي فلسطين، لكن هذه السلطة انشغلت بأولويات قدمتها على النشاط الثقافي؛ في ظل عدم الاستقرار؛ الذي انكشف عن صورة دامية في انتفاضة الأقصى الأخيرة، لتظل الجمعيات و النوادي والفرق المحلية محافظة على دورها في ظروف يومية، تتوازى مع واقعها في السنين الماضية، وما أشبه الليلة بالبارحة.

       و قد حاول المسرح الفلسطيني الأدبي أن لا يجعل الهم اليومي يطغى على الجانب الفني، وهو إن كان قد استغرقته القضية بمفرداتها وأبعادها الواسعة إلا أنه حاول بنسب متفاوتة و بتدرج تاريخي منطقي أن يخرج من أسر المباشرة والسطحية، ويُمكن القول أن المسرح الفلسطيني استطاع أن يتجاوز  التابو الذي رسمه المسرح العربي لقضيته، فخرج في الغالب من أسر الكليشيهات الثابتة؛ والتصورات المثالية للإنسان الفلسطيني،  فصوره في الغالب بشكل إنساني موضوعي، يمتلك عناصر الضعف والقوة  واللين والقسوة، و إن وقع بعض الكتاب والفنيين في أسر تكرار بعض الموضوعات والرموز المتعلقة بقضايا محورية كالأرض والتضحية .

       وعانى المسرح الفلسطيني من الانفصام بين الأدب والفن، حيث تُركت العديد من الأعمال  المسرحية الأدبية الناضجة مجرد مشاريع مسرحية بعيدة  عن التطبيق،  بينما اتجه الفنانون إلى الإعداد المسرحي للنصوص الفنية  التي يتم عرضها في بعد نسبي عن إدراك عناصر المسرحية ومقوماتها، وينعكس هذا الأمر في شكل أزمتين، نحن في غنى عنهما، هما ندرة النصوص كما يراها أهل الفن  وأزمة التنفيذ كما يراها الكتاب، ولعل الأمر الذي ساعد على تفاقم هذا الانفصام غياب الهيئة المسئولة، التي تجمع  الأعمال المسرحية، وتنشرها بشكل واسع يتيح المجال لتعميم الفائدة، وتوسيع دائرة النقد، وترسيخ ثقافة قوية بواقع المسرح الفلسطيني.

       واستفاد المسرح الفلسطيني الأدبي من أشكال المسرح الغربي المختلفة، لكن الواقعية والكلاسيكية أخذت من اهتمام الكتاب القسط الأكبر، وفي جميع الأحوال لم يلتزم الكتاب بالقالب الغربي جملة و تفصيلا، بل رأينا نسبية في الالتزام الفني المذهبي انسجمت مع نسبية الالتزام الفني بها على الصعيدين العربي و العالمي، و يلاحظ أن المسرح الفلسطيني قد استفاد من هذه الأشكال جميعها، للتعبير عن قضيته الرئيسة، بالإضافة إلى القضايا الاجتماعية والإنسانية الأخرى.

       و لم يمنع انشغال المسرح الفلسطيني بقضيته الرئيسة من طرح القضايا والمشكلات الإنسانية المختلفة، وإن ظلت البصمة الفلسطينية واضحة في هذه الأعمال جميعها، إذ وقف الجرح الفلسطيني النازف مطلا برأسه من وراء المشكلات الفلسفية والإنسانية والاجتماعية، بل في الطرح العبثي المعبر عن زعزعة الثقة لدى الفلسطيني تجاه القوانين الدولية و المعايير المنحازة إزاء البشاعة والوحشية التي يعايشها دون مجير أو صاحب كلمة حق.

       وحمل المسرح الفلسطيني هوية خاصة، تميزت عن المسرح العربي، متمثلة في هذا الهم الوطني النابع من خصوصية التجربة الفلسطينية، بالإضافة إلى أنه لم يقع في شرك المسرح التجاري، الذي غرقت فيه بعض المسارح العربية، إذ ظلت مسحة الفكاهة والترفيه قليلة، وتفاوت وجودها بشكل نسبي بين الأعمال المختلفة، وظلت ممزوجة  بالألم والمعاناة، فهي إما أن تأتي لتعبر عن صورة موضوعية لواقع الفلسطيني؛ الذي يكابر و يتحدى و يعيش حياته اليومية، لكنه يناضل ويجاهد حتى الموت بشكل تلقائي متواصل، أو قد تأتي جرعة الترفيه والفكاهة في إطار الكوميديا السوداء المضحكة  المبكية المعتمدة على المفارقة الحادة.

       ويستطاع القول إن نسبة المسرح الذي يميل إلى الإمتاع والترفيه بجرعات معقولة كثرت ما قبل عام 1948، ولكن النكبة الدامية سرقت البسمة الصافية والضحك البريء، ضمن ما سرقت من الحياة الفلسطينية بشكلها العام، بل إنها عصفت بواقع المسرح لولا التوجه النضالي الذي قُدر للمسرح الفلسطيني أن يتجه إليه.

 

حاجات المسرح الفلسطيني:

       في ظل المتغيرات الحاصلة على الساحة الفلسطينية، وانسجاما مع التوجه العام للمسرح الفلسطيني؛ يمكن الحديث عن عدة متطلبات تحقق له القوة والانتشار والتواصل، إذ إننا لا نستطيع القول إن المسرح على الصعيد العملي والفني يشكل ظاهرة قوية في الحياة الفلسطينية، وهو يعيش حالتي المد والجزر تبعا للتحدي والإرادة، مما ينسجم مع طبيعة المسرح المقاوم، وخصوصا أنه يعيش نوعا من القطيعة بين أجزائه الممتدة في المكان وأجزائه الممتدة عبر الزمان.

       ويحتاج نضج المسرح الأدبي وتطوره إلى ترسيخ الظاهرة المسرحية الفنية، وذلك يتطلب جهود أكثر من طرف مسئول، فوزارة التربية والتعليم مطالبة في المنهج الفلسطيني الجديد باعتماد المسرح تاريخا وإبداعا وتطبيقا، حيث يلاحظ أن المسرح لا يشكل زاوية رئيسة من زوايا الاهتمام والتخطيط لديها، ولا يكون في الغالب إلا استكمالا لأنشطة لا منهجية، ينتهي الاهتمام بها بمجرد الانتهاء منها، ولا توجد خطة متكاملة لتنميتها، فالمسابقات والمهرجانات -على قلتها- ينبغي أن تُسبق بدورات علمية، ترسخ مفهوم المسرح، وتبلور عناصره ومقوماته في أذهان أطراف العملية التعليمية بشكل متكامل، وقد أثبتت التجربة أن الاحتكاك المبكر بالتجربة المسرحية يولد طاقات فاعلة وقدرات منتجة، ومن ذلك تجربة الكاتب الفلسطيني أدمون شحادة، الذي تفاعل في طفولته مع التجربة المسرحية، عندما شارك في تنفيذ العمل المسرحي "الرشيد والبرامكة" في الخمسينات من القرن الماضي، مما أفرز لنا كاتبا معطاءً، متعدد التجارب، متواصل الإبداع، وقد أثرت مشاركة إسكندر شحتوت في العمل المسرحي بمرحلة الدراسة في توجهه إلى العمل المسرحي كمخرج فيما بعد([i])، بالإضافة إلى كثيرين غيرهم من العاملين في المسرح، الذين نمت عندهم الرغبة، وصُقلت لديهم الموهبة من خلال تجاربهم الأولى في المدارس.

       وأما على صعيد التعليم العالي، فلا يكاد يكون التخصص فيه فنيا وأدبيا يحظى بالاهتمام الرسمي([ii])، بل إن التخصصات الإنسانية القريبة منه توشك أن تمر به مرورا عابرا، وأثبتت التجربة أن معظم النشاطات المسرحية الطلابية لم تحظ باهتمام رسمي، وبقيت جهودا طلابية تخضع للمتغيرات وتقلبات الظروف، على الرغم من نجاح العديد من تجاربهم الفنية ونضجها، ولذلك فإن من المطلوب إيجاد التخصصات المسرحية، و إدراج المسرح ضمن المتطلبات الجامعية، والعمل على رعاية التجارب الطلابية، بكافة أشكال الدعم المادي والمعنوي، واستكمال جوانب النقص في تجاربهم، بابتعاث المميزين لدراسة تقنيات المسرح ومستلزماته، والاهتمام بالكتاب المسرحي، وتوفيره في المكتبات الجامعية، فعلى الرغم من تميز عدة مكتبات جامعية في الجوانب الثقافية المختلفة إلا أنها تشهد تقصيرا كبيرا على صعيد الكتاب المسرحي الإبداعي والنقدي.

       أما وزارة الثقافة فهي مطالبة بأكثر من جانب، فعليها أن تضع خطة تقدم فيها الأولويات، ولا تنتظر من أجل تطبيقها سنوات، ومبدئيا ينبغي عليها أن تدعم الفرق المحلية الناشطة، والعمل على تكوين فرقة قومية، ولعل بعض الناس يعترضون على هذه المطالبة بالقول إن الدولة في الغالب معنية بتوجهات تخدمها في المسرح والمنابر الثقافية والإعلامية المختلفة، كما نرى في واقع البلاد العربية المختلفة، كما أن المبدع الموظف لا يمتلك الحماسة الكافية لتحقيق النجاح المطلوب، لكن هذا الاعتراض سابق لأوانه، إذ إن وجود الفرق القومية يدفع عجلة المسرح إلى الأمام، ويرسخ الظاهرة، كما أنه يخلق أجواءا من التنافس، ويقود فعاليات المجتمع إلى الدفع بهذا الاتجاه، ويوجد نصاباً قويا للاستمرارية والتفاعل والانتشار.

       والوزارة مطالبة بإنشاء البنية التحتية للمسرح، ويتمثل ذلك في إنشاء دور العرض المجهزة، والمحافظة على التراث المسرحي بإعادة نشر التجارب السابقة، وتقديمها للمتلقي، إسهاما في وصل الأجزاء الممزقة، ورتق ما أفرزه الشتات على صعيد المكان والزمان، ودعم الإصدارات المتخصصة في هذا المجال، سواء على صعيد النص المسرحي أو الدراسة النقدية أو المجلة الراصدة للتطورات، وتنظيم المسابقات والمهرجانات لإيجاد جو التنافس والإبداع، مع مراعاة حضارة الشعب وقيمه، بعيدا عن الانسلاخ من هويته الثقافية.

       كما أنها مطالبة بإعداد هيئة عامة للكتب ومكتبة وطنية، بالإضافة إلى المعارض السنوية للكتب، من أجل توفير النتاج المسرحي العربي والعالمي والدراسات المتعلقة بها، وبناء أرضية متماسكة للتواصل مع الحضارة الإنسانية في هذا المجال، وتوسيع دائرة الاستفادة بدلا من الاعتماد على الجهود الفردية في الحصول على المراجع المطلوبة، وهي مطالبة بتوسيع دائرة الفائدة على الصعيد العملي والثقافي في جميع المناطق، وعدم التركيز على المناطق الحيوية والمدن الرئيسة فقط، مما يتطلب توسيع دائرة العروض، ودعم أنوية العمل المسرحي في الريف والمناطق البعيدة.

       أما وزارة الإعلام فإنها مطالبة برعاية منابرها حتى لا تنجرف عن الخط الحضاري للأمة، أو تقع فريسة للأهواء والصراعات، فتتخلى عن دورها الحقيقي في ترسيخ خط ثقافي قوي يحصن الشعب، ويمارس دوره في التنوير.

       ولا ينبغي أن تتقاطع أدوار المنابر الإعلامية المختلفة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفزيون وفضائيات مع المسرح، إذ إنها لا ينبغي أن تشكل منافسا قويا له وخصما يمسح وجوده؛ بقدر ما ينبغي أن تكون متكاملة معه مستفيدة من إمكاناته، فليس من السهل أن تتشكل الظاهرة المسرحية دون متابعة  الأجهزة الإعلامية المختلفة، من خلال إثراء الأنشطة المختلفة ومتابعتها، ودون أن يجد النقد النظري فسحة يرتاد من خلالها الرؤى الفنية المحلية والعربية والعالمية، في سبيل صقل الذائقة الفنية لدى المبدع والمتلقي، بالإضافة إلى المساهمة في نقد وتحليل الأعمال المسرحية الأدبية والفنية، مما يعزز الجوانب الإيجابية والاتجاه إليها في الأعمال التالية، ويحاصر الجوانب السلبية لأجل تلافيها، أما أن تترك العمل دون نقد وتحليل فإن ذلك يخلط الغث بالسمين، ويشكل ذائقة فنية مشوهة، كما أنه يخلق واقعا مغلوطا، يقوم على كاهل مبدعين لا يقرّون بجوانب قصورهم، ولا يعملون على تلافيها.

       مع كل هذا ينبغي أن تُفتح المنابر الإعلامية على مصراعيها للممارسة المسرحية الإبداعية والفنية بشكل مستمر ودءوب، ويتطلب هذا الأمر من وزارة الإعلام رعاية الفعاليات الفنية المكملة للمشروع المسرحي في الجوانب المختلفة؛ من ديكور وإضاءة وملابس وتصوير وغيرها،,حتى يتم توطيد الأعمال بشكل فني مميز، يضمن لها الوصول بشكل أفضل إلى جمهور أوسع؛ من خلال الإذاعة والتلفزيون والفيديو والفضائيات، والنجاح يولد النجاح .

       ويقع على عاتق المؤسسات الوطنية والأهلية دور كبير في دعم المسرح؛ لتستكمل بذلك دورها مع الجهات الرسمية في ظل وجودها، كما حاولت أن تؤدي دورها في ظل غياب السلطة، ويتمثل ذلك في دعم الفرق، وتبني الأعمال المسرحية، وعقد الدورات المتخصصة في هذا المجال، وعقد المسابقات الإبداعية، وتفعيل المسرح في الأنشطة الثقافية والاحتفالية التي تقوم بها .

       أما الفرق المسرحية فيقع عل كاهلها عبء كبير ومسئولية عظيمة تجاه تواصل العملية المسرحية بشكل إيجابي، إذ إن ما تقدمه هذه الفرق يترك آثاره القوية لدى المتلقي، ومن هنا تحتاج الفرق إلى عدة مقومات حتى تحقق النجاح، إذ عليها الاهتمام بتثقيف عناصرها، وترسيخ مبدأ التخصص في العمل، بالإضافة إلى الارتقاء إلى الأعمال المسرحية الناضجة، وعدم الاعتماد على الإعداد السريع الذي تقوم به الفرقة بمجملها، أو بعض أعضائها، ممن قد لا يمتلكون القدرة الكتابية، وخصوصا أن النصوص المسرحية كثيرة، لكن الحصول عليها يحتاج إلى جهد في البحث والتأني في تبني العمل، إذ إن القراءة المتأنية تستكنه ما وراء السطور، وتساعد على الإعداد الجيد للعرض المدرك للفكرة، والمستفيد من بنية المسرحية الفنية داخل النص، لتتمازج مع العناصر الفنية خارجه؛ المتحققة على يد المخرج والممثل وعامل الإضاءة والديكور، ثم تأتى بعد ذلك عملية العرض نفسها، وضرورة أن يسبقها إعلام جيد، يشوّق المتلقي للعمل، ويتجاوز التراكمات السلبية لتصورات سابقة عن الفرقة، أو أعمال فرق أخرى، ولفرقة الحكواتي تجربة رائدة في هذا المجال، وهي من الفرق القليلة التي استطاعت التواصل وعدم الانقطاع منذ إنشائها إلى الآن، حيث لم تكتف بالدعوة الشخصية والإعلان  في الصحف والملصقات، بل اختارت العروض الارتجالية القصيرة في الشوارع كدعاية للفرقة وأعمالها، ووظّفت الميكروفونات للدعوة العامة، بالإضافة إلى إعداد منشورات تفصيلية عن المسرحية تحث المتلقي على مشاهدتها، وتشوّقه لمعرفة مجرياتها([iii])، وتبقى بعد ذلك حالة أعضاء الفرقة، فكلما استطاعوا أن يتفرغوا لعملهم كلما كان إنجازهم أكثر رقيا وتواصلا، وهذا ما ينبغي أن تسعى الفرق لتوفيره من جهدها الذاتي ومن الجهات المعنية في ظل المتغيرات.

       ومما قد يساهم في دعم الحركة المسرحية وجود رابطة أو نقابة فاعلة تتجاوز أخطاء التجمعات السابقة، فلا تعتمد مبدأ عضوية الفرق بقدر ما تعتمد عضوية الأفراد الفاعلين، ولا يكون دورها صهر التجارب المختلفة في بوتقة واحدة، بحيث تعتبر نفسها فاشلة إن عجزت عن تحقيق ذلك، بقدر ما ينبغي أن يكون دورها إيجاد روح التعاون بين العاملين، مع إبقاء أجواء التنافس الشريف النابع من استقلالية الفرق، ويكون من مهامها المحافظة على حقوق المسرحيين والسعي لإيجاد فرص تفرغ لهم، ومتابعة الجهات المعنية ومساءلتها عن جوانب التقصير تجاه قضايا المسرح ومشكلاته، وإلا فإن دورها سيظل محدودا يقودها إلى الفشل والذوبان.

       وقد يثور تساؤل عن علاقة كل هذه الحاجات بالنص المسرحي الأدبي، والحقيقة أن النص المسرحي ليس إلا مشروع، يأخذ قيمته الكبيرة لحظة التنفيذ القائم على أسس متينة، ولا شك أن التفاعل بين عمليتي الكتابة والتنفيذ الفني تثمر مسرحا أكثر نضجا وقوة، فمن الثابت أن معظم المسرحيات العالمية الناجحة كانت ثمرة التزاوج بين موهبتي الكتابة والاطلاع على مجريات عملية التنفيذ وفنونها، من ذلك انخراط شكسبير وموليير في العملية المسرحية بكل مراحلها مما منحهما القدرة الفائقة على الإبداع والتميز.

       وفى ظل هذا الفهم نستطيع القول أن المسرح الفلسطيني ظل يعاني  بنسبة كبيرة من الانفصام بين العمليتين، ولعل الاهتمام بحاجات المسرح الفلسطيني يجسر الهوة الشاسعة بينهما، مما يعزز الجوانب الإيجابية  فيهما وينعكس بشكل متميز عليهما، إذ إن العملية المسرحية متكاملة الأطراف لا يمكن الفصل بينها دون الوصول إلى نتيجة سلبية على جميع الأصعدة، وذلك تماما مثل مكونات الدائرة الكهربية من مفاتيح إضاءة ومصابيح وأسلاك ونقاط تجميع، لا يمكن أن تؤدي عملها دون التواصل فيما بينها وإكمال الدائرة ، فالمسرح الفلسطيني يمتلك المقومات والبنية التحتية بشكل قوي، لكنه عانى على مدار السنوات الماضية من التفكك والانفصام بين معظم هذه العناصر والأدوات، إذ إنه يمتلك تراثا أدبيا ومسرحيا عريضا، كما يمتلك واقعا فنيا طموحا وإمكانات مادية لا يُستهان بها، وهو قد استطاع أن يحقق المعادلة بين المقاومة ومسيرة الحياة اليومية المكابرة المتحدية لكل الظروف، مما يعني أنه قادر على المزج بين الأولويات والحاجة الإنسانية والفطرية للمسرح، وجوانب الحياة الثقافية المختلفة.

       ولا ننسى أن المسرح الفلسطيني مسرح مقاومة تشكّل في الغالب ضمن معطيات قليلة متواضعة، وله في ذلك تجارب تنسجم مع التجارب العالمية، مثل المسرح الجوال الذي يعتمد الأدوات القليلة ومكونات الديكور الخفيفة، حتى يستطيع الانتقال من مكان إلى آخر، وله أيضا في مسرح التجريب الذي لا يتكئ على المكونات المادية الضخمة مجال مفتوح للتعبير والممارسة، ولكن هذا لا يعني أن يبقى على ما هو عليه في ظل تغير الظروف، وإمكانية إيجاد عناصر مادية تدعم وجوده وترسخ ظاهرته وتفعّل أداءه، وخير دليل على ذلك تجربة مسرح الحكواتي،  الذي اعتمد المقر الثابت، مما انعكس ثباتا في تواصله ، ودعما للفرق الأخرى التي وجدت فيه ملاذا لعروضها وأدائها، ولا مجال لقبول الاعتراض على جهدها على أنه مأسسة للمسرح، وخروج عن خط المقاومة العام الذي اتسم به المسرح الفلسطيني([iv])، إذ إن المسرح الفلسطيني مطالب بالاستفادة من المتغيرات المسهمة في تطويره ودعمه وترسيخ جذوره، وهذا التغير لا يتعارض مع ما يقدمه من مضامين تتجاوب مع واقعه، وتقدم ما تنبض به أفكار مبدعيه والمتلقين له، وما ينسجم مع واقعه العام.

 

استشراف المستقبل:

 

       شاعت فكرة تربط بين المسرح وبيئة الاستقرار كمتطلب أساس لنموه، إذ إن الروائع الإنسانية التي أنتجها الإغريق القدماء ارتبطت بمراحل الاستقرار ، ولعل هذه الفكرة تجعل المسرح  ترفا فكريا أكثر منه حاجة إنسانية ، فهي قد تصدق في إبراز أهمية أجواء الحرية في نهوض المسرح وتألقه، ولكنها لا تنجح مطلقا في مجال الربط القسري بين طرفي المعادلة، لأن المسرح شأنه  شأن الفنون الأدبية والإنسانية الأخرى، يرتبط بالإنسان ويعبر عن حاجته، والإنسان يمتلك القدرة على الإبداع في معظم الظروف الحياتية ، ولم تكن التغيرات الحاصلة على الصعيد المذهبي وتعدد القوالب الفنية إلا نتيجة المتغيرات ، التي لا تلغي  المسرح؛ وإنما تمنحه شكلا ومضمونا ينسجم معها، فيضعف ويقوى ارتباطا بها، وفقا للتصورات المؤثرة فيه، وفى خصوصية التجربة الفلسطينية ما يثبت هذا التصور الذي نذهب إليه، إذ إنه مع إدراكنا أن المسرح الفلسطيني لم يبلغ المدى المأمول على الصعيد العملي، فإننا لم نعدم تفاعله في ظل ظروف سياسية وتقلبات خطيرة عاصفة، قد تركت آثارها السلبية عليه، لكنها لم تستطع أن تطفئ شعلته، ومنحته تميزا على صعيد الفكرة والهدف، فأنتج مسرح المقاومة، الذي استطاع  أن يستلم راية التنوير والتثوير، فلم يستسلم لفلسفات الانفتاح وأفكار التطويع والانكسار، بل نهض بروح المبادرة يكفكف الجرح النازف، ويوجه إلى بوصلة الصواب، ويقود الجماهير إلى الطريق الصحيح.

       وفى ظل المتغيرات الجديدة أصبح المجال مفتوحا أمام المسرح الفلسطيني لتجاوز العديد من المعوقات  التي حاولت أن تشده للوراء، وتقع المسئولية في تجاوز المعوقات السابقة على أكثر من طرف رسمي، وإذا كانت السنوات الأخيرة في ظل المتغيرات الجديدة لم تثمر ما كان متوقعا منها، وجاءت الأحداث الدامية في انتفاضة الأقصى الأخيرة لتكرس واقع التمزق السياسي وتعيد المسرح الفلسطيني إلى كهوف المقاومة؛ فإن ذلك يُعتبر من باب التقصير الرسمي ، والتعلل بالميزانية وهمٌ لا يُقبل إذ إن الوظائف المجانية تفيض، والبطالة المقنّعة المفرغة من المضمون تتزايد، والأمر يحتاج إلى جرأة في ترتيب الواقع، وفى ظل ميزانية متقشفة وخطة مقصودة لا فوضى متعمدة أو غير متعمدة يمكن تحقيق الكثير من أحلام المسرح الفلسطيني.

       والغريب أن يرى بعضنا مع بدايات ألفية جديدة أن المسرح أصبح من مخلفات الماضي، وأن الفضائيات وحدها قد تكفلت بالقضاء عليه بما تقدمه من فنون جذّابة تنأى بالمتلقي عن الإقبال على المسرح، وفى دراسة نبيل الحفار عن واقع المسرح العربي في المائة عام الأخيرة ، يرى أن التلفزيون الرسمي قد تراجع عن دعم الفنون الحقيقية بما فيها المسرح، وأن الانفتاح التلفزيوني من خلال الفضائيات والمحطات الخاصة فيها قد حطّم آخر أمل في تجاوز الواقع، إذ إن أصحاب هذه الفضائيات ينطلقون من نظرة تجارية محضة، تهتم بتسريب الإعلانات المربحة من خلال أعمال فنية ومسرحية تجارية مطلوبة؛ لا تقدم فكرا أو إبداعا حقيقيا، ويدعو من خلال ذلك إلى عدم الاعتماد على الدولة وتلفزيونها في تنمية المسرح وغيره من الفنون الإبداعية([v]).

       والحقيقية أن هذه الدعوى تجانب الصواب وتجافي الحقيقة، لأن المسرح أب للفنون المختلفة لا يتحقق نجاحها دون اعتمادها على بنائه ومقوماته، فالفنون التمثيلية الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية وليدة المسرح، ونجاحها مرتبط بالتفاعل معه ومع مقوماته، كما أن المحاسبة إذا أصبحت عسيرة تجاه الفضائيات الخاصة؛ فإنها ليست كذلك إزاء ما تقدمه محطات الدولة ، التي يُلقى على كاهلها واجب الانضباط وعدم التداعي أمام طوفان الفنون التجارية, ولا يعدم الأمر أن يكون في أصحاب الفضائيات الخاصة من يحمل فكرا صافيا ووعيا فنيا يحميه من الانزلاق والسطحية ، بل إن هذه الفضائيات والتطور الإعلامي الحاصل ينبغي أن يحسن استغلاله بالحد الإيجابي من السيف وعدم النظر إلى الحد السلبي فيه فقط ، من ذلك إمكانية ربط الفضائيات بالإبداع المتميز، اقتداءا بتجربة التلفزيون المصري في بدايات ظهوره، حيث أسس ما يعرف بمسرح التلفزيون، وقدم العديد من الأعمال المسرحية التي حظيت بانتشار كبير، لكنه وقع في الخطأ عندما اعتمد مسرح الترفيه كنمط وحيد للعرض، لكن الشاهد في الموضوع هنا هو إمكانية استغلال التلفزيون في عرض الأعمال المسرحية المتميزة، مع مراعاة  أن العمل المسرحي يفقد  نصف قيمته الفنية بعرضه على التلفزيون، إذ إن المسرح يقوم في جوهره على الاتصال المباشر بالجمهور، بما فيه من حميمية وتفاعل مؤثر، ومن أجل تلافي هذه الثغرات وتعزيزا للدور المسرحي ينبغي العمل على تطوير الأداء التلفزيوني حتى يتمكن الفنيون من نقل المسرحية نقلا مباشرا من خشبة المسرح، كما يحدث في المباريات وبعض المناسبات، مما يحافظ على العلاقة الوثيقة بين المسرح والمتلقي، ويتجاوز عن مشكلة انقطاع التواصل الحميمي بينهما بشكل نسبي .

       وفي جميع الأحوال نقول أن هذا الطوفان من الفضائيات والمحطات الخاصة والعامة ينبغي أن يكون حافزا لتطوير العمل المسرحي القائم على تجاوز السلبيات الحائلة بينه وبين المتلقي، بما يعني أن المسرح الجيد الذي يحافظ على المعادلة الصعبة بين الفن والجمال من جهة، والقرب من المتلقي والجاذبية التي تشده من جهة أخرى سيستطيع أن يستدرج المشاهدين بعيدا عن شاشات التلفزيون والفيديو والسينما، مستفيدا من مميزات متعددة على رأسها التواصل الحميمي الذي لا يعوضه حتى البث المباشر، وخصوصا في ظل ما يدعو إليه علماء النفس من ضرورة  تجاوز المشاكل النفسية الناتجة من العلاقة الفاترة بين الإنسان وآلات الحضارات المادية مثل التلفزيون والكمبيوتر وغيرها، التي تعزل الإنسان عن المجتمع وتفكك الأواصر والعلاقات.

       وفى تأثر متبادل تنعكس كل هذه التصورات على النص المسرحي، إذ إن تراكم الخبرات يولد الإبداع، وتراكم الإبداع يجسد التاريخ ويؤصل للمستقبل وهذا هو ما سار إليه المسرح الفلسطيني بتيار الكتابات المسرحية العريض الذي قدمه على مدار السنوات الماضية، هذا التيار الذي تقارب في التوجهات وتباعد في التماسك والتعاضد والتواصل فيما بينه وبين عناصره المشتتة، ولعل هذه الدراسة بجهدها المتواضع تثبت ما نذهب إليه، فهي ترسخ إدراكنا بحجم الإبداع المسرحي الفلسطيني، لكنها تثبت انعكاسات التمزق السياسي وواقع الشتات في تباعد أواصره، والمطلوب بعد هذه الدراسة الشاملة نشر هذا التراث المسرحي العريض وتعميم الفائدة منه، مما يمنح مستقبل المسرح الفلسطيني آفاقا أرحب وأوسع، تتوازى مع أعماق جذوره المجهولة في الغالب إن لم تتجاوزها، واثقة بما قدمت، واعدة بما ستعطي وتقدم، وقد أثبتت التجربة أن الكتاب الذين تميزوا بإبداعهم اتكأوا على خبرة متواصلة وتجربة طويلة، إذ إنهم لم يكتفوا بعمل واحد، كما أنهم شاهدوا بعض أعمالهم على أرض التنفيذ، مما أسهم في صقل أدواتهم، وتعميق أبعاد تجربتهم، وذلك يعزز فكرة أهمية تواصل أقطاب دائرة المسرح الكهربية وانعكاساته العملية، ولا شك أن هذه الدراسة تسهم في إلغاء الفكرة القائلة بحداثة المسرح الفلسطيني وتجربته، مما كان يبرر الضعف والبطء في التطور، فالمسرح الفلسطيني قد راكم تجارب كثيفة، واستفاد من تجربة المسرح العربي في جميع مراحله، ولم يكن في معزل عن التجارب الإنسانية منذ بداياته، وتعزز هذه الدراسة فهم الدائرة الأولى، حتى تتفاعل مع الدائرتين الثانية والثالثة في رحلة المسرح القادمة.

       وظهرت استفادة المسرح الفلسطيني من التجارب الإنسانية في تعدد الأشكال والمذاهب التي حاول أن  يرتادها؛ ليعبر من خلالها عن همومه  وقضاياه بأكثر من طريقة ، وقد تجاوزت بعض المسرحيات هذه الأشكال في أكثر من مرحلة ، بل تمازجت أحيانا في العمل الواحد، وهذه التعددية تشكل في معظمها ظاهرة صحية لا بأس بها، إذ إن  هذه المذاهب جاءت وليدة ظروف بعيدة عن الواقع العربي والفلسطيني، وإن تشابهت في بعض الأحيان معها، مما يفسر هذا التعدد والتجاوز، لكن خروج النص الفلسطيني عن القالب الغربي دليل على أصالة النص الفلسطيني وصدق انتمائه إلى واقعه، وقد ظهر جليا اتجاه النص الفلسطيني إلى الواقعية بمفهومها الأوسع من الفهم الغربي الأول لها، مما يجعلها قريبة من الواقعية المعدلة التي استفادت من المدارس المناقضة كالرمزية والتعبيرية والملحمية.

       وأشار بعضهم إلى أفضلية قوالب بعينها في التعامل مع القضية الفلسطينية مثل التسجيلية والرمزية([vi])، وقد يصدق هذا القول في بعض الأعمال الناجحة التي عبرت من خلال هذين القالبين بطريقة جيدة عن القضية، لكنه لا يمكن أن يقودنا إلى توجه عام نحوهما دون غيرهما، كما اتجه بعض المسرحيين العرب إلى الاستفادة من المسرح الملحمي، الذي انسجم في كثير من جوانبه مع طبيعة القضايا العربية ومضامينها الساخنة، لكن هذا التوجه لا يصح أن يكون نهاية المطاف؛ فليس من السهل أن يتخيل المرء شكلا ثابتا للإنتاج المسرحي وإعلاءً من قيمة قالب بعينه، فالثبات على شكل واحد يخلق الملل والسآمة والوقوع في لجة التكرار المقيت، كما أن محاولة الغرق في بحر التجريب وهلامية الموقف يبقى انحرافا إبداعيا، طالما لم يحكم المبدعون توجهاتهم ويمزجون بين الرؤية الفنية والرؤية الفكرية بما يتجاوب مع المتلقي حينا؛ ويسمو به أحيانا أخرى، في طموح دائم نحو الأفضل، مما ينسجم مع عملية الإبداع الإنساني في شكلها العام .

       كما أن الشروع في تبني التجريب بغرابته قد يجني على مسيرة المسرح الفلسطيني وهو في طور ترسيخ الجذور وتوسيع دائرة التفاعل مع الجمهور، ولذلك يبقى زمام المبادرة في أيدي المبدعين، و قدرتهم الخلاقة على التجديد المستمد من إعادة ترتيب مفردات المعطيات المختلفة بما يتوافق مع أكثر من متغير، منها: الواقع، والكاتب، والمتلقي، والزمان، والمكان، كل هذا في ضوء الاطلاع الكامل على التجارب السابقة  في المسرح الفلسطيني والعربي والعالمي.

       و قد يقفز إلى الأذهان ما قاله عنترة يوما: "هل غادر الشعراء من متردم ؟"، وأن صورة المستقبل المسرحي غامضة في ظل التجارب الإنسانية  السابقة التي أوشكت على أن تكون حرثت الأرض و قلبتها، معطية أكثر من قالب وشكل ومدرسة، لكن هذا التساؤل عند عنترة وعند من يتذكره  لا يأتي في موضع الصواب؛ إذ إنه يتنافى مع الفهم الدقيق للعملية الإبداعية، والتغيرات الحاصلة على مر التاريخ، من مدرسة لأخرى، فالإبداع الفني مرتبط بالحياة المفعمة بالتوالد والتجدد، والزاخرة بالمضامين والأشكال الخلاقة، ومرتبط بوجود الإنسان، الذي لا يعرف حداً، يبتكر الأفكار، ويعيد ترتيب الأشياء، وفق المتغيرات الحاصلة، ولو تأملنا العديد من القوالب الناشئة التي اتخذت لها اسماً خاصاً و مدرسة مميزة؛ لوجدنا التداخل الكبير بينها وبين قوالب سابقة، لكن الإبداع فيها جاء من خلال إعادة ترتيب معطيات، أو إضافة وظائف جديدة لمفردات قديمة، فالمسرح الملحمي –وقد لقي رواجاً كبيراً في مرحلة قريبة من تاريخ المسرح العربي-  يعتمد في الغالب علي إعادة ترتيب  معطيات وفق متغيرات جديدة و معاصرة  ومحاولة تفسير أخرى لأشياء قديمة  كنظرية التطهير عند أرسطو بقلبها أو بتوجيهها اتجاها جديدا  يعتمد الوعي لا الإيهام، والوسائل قديمة جديدة، منها السرد الملحمي الذي استقاه بريخت من فن قديم، وبنظرة  يسيرة نلمح خيوط نسيج الثوب القديم للمسرحية الإغريقية في نشأتها الأولى، قبل التحول إلى الممثل الواحد، ثم الممثلين، ثم الثلاثة ممثلين، وبقليل من كسر المألوف عبر وسائل جديدة مثل تعمد إظهار أن ما يجرى مجرد تمثيل في سلوك الممثلين، وفى ترتيب الديكور، وكشف أبعاد اللعبة المسرحية أمام الجمهور، استطاع بريخت أن يخرج للعالم نظرية مميزة استطاعت أن تجوب أرجاء الدنيا بما فيها فلسطين، ولو عدنا إلى أعمال بريخت لوجدنا أنها شهدت أكثر من مرحلة، تطورت من خلالها بالوصول إلى صورتها النهائية، ولو أن سعد الله ونوس وقف جامداً إزاء ما استفاد من نظرية بريخت لما حقق النجاح والشهرة التي حققها، لكنه طوّر هو الآخر من أدواته، حتى يصل إلى قالب يلائم الذائقة العربية في كثير من الجوانب، ويجذبها إلى ما يريد من تجديد في جوانب أخرى، ولو أن إميل حبيبي وقف عند تجربة بريخت وونوس والحكيم دون أن يحاول مزجها بأدواته الخاصة ومفرداته التي رغب في إضافتها؛ لظلت محاولته مجرد صدى خاوٍ لا إبداع فيه ولا حياة.

       وبالتالي، فإن المسرح الفلسطيني مطالب في مستقبله بالعمل الحثيث لتحقيق المعادلة الصعبة بين الإمتاع والفائدة، والفن والحياة، والجمال والوضوح، وقد يحقق هذه المعادلة الصعبة في العمل الواحد؛ فيحظى بالتميز والتفوق، وقد يحقق بعض ذلك في عمل؛ وبعضه الآخر في عمل آخر؛ مما يمنحه القدرة على الوصول إلى أكثر من فئة، ونحن مع الإبداع أينما سار، فتعددية المستويات وتعددية  الرؤى الفنية ظاهرة صحية، والجمود على شكل واحد ومخاطبة فئة دون أخرى ظاهرة مرضية، وينبغي أن يتم علاجها وتجاوزها، ولذلك نحن مع المسرحية الشعرية التي تمزج بين جمال المسرح والشعر، ومع المسرحية الواقعية التي تستمد شخوصها من الواقع، وتقدم رؤيتها من خلال الهموم اليومية والوطنية، ومع المسرحية الجمالية والرمزية التي تكثف الفكرة وتسمو بالوجدان، ومع المسرحية المستفيدة من الملحمية التي ترسخ الوعي وتنهض بالإنسان، ومع المسرحية التسجيلية التي تنير الطريق وتكشف الحقائق بأسلوب فني له طعمه الخاص، ومع الأوبريت الغنائي الذي يمزج بين الدراما والشعر والغناء، ومع ما قد يجدّ من القوالب التي ترتاد عوالم الإبداع، وتجدد ظاهرة المسرح في طبقاته الفنية المتعددة، وأهدافه الإنسانية الرحبة، فالساحة المسرحية ينبغي أن تكون مفتوحة مشرعة الأبواب للمبدعين والمتلقين والمتغيرات التي تدفع بهم جميعا في سيرها الحثيث والدءوب؛ من بداية نشأة الخليقة إلى أجل مسمى، لا يعلمه إلا الله.

       وتبقى القدرة على التغيير نحو الأفضل هي الفيصل في النجاح، في سنة كونية وضعها الخالق سبحانه وتعالى، وأدرك بعض جوانبها الإنسان، فسعى إلى تصويرها على خشبة المسرح، وفق معادلة الشر والخير، وثنائية الأشياء، سواء أكان ذلك في صعيد ممارسة الحياة اليومية؛ أم على صعيد ممارسة العملية المسرحية بكافة عناصرها؛ كتابةً وإخراجاً وتمثيلاً وتلقياً، ولله في خلقه شئون، فسبحان من أقام العباد فيما أراد .


 


([i]) مجلة الشرق، (107، 89-90) .

([ii]) افتتحت كلية التربية -جامعة الأقصى- قسما للمسرح ضمن الإعلام التربوي منذ خمسة أعوام.

([iii]) محاميد، مسيرة، 102.

([iv]) - المرعشلي، الموسوعة الفلسطينية، ق2، ج4، 219-220.

    - محاميد، مسيرة الحركة المسرحية في الضفة الغربية 67-1987، (45، 73-74).

([v]) الحفار؛ نبيل، مائة عام من المسرح العربي في مواكبة النهضة القومية، مجلة "شئون عربية"، عدد104، ديسمبر 2000، (239).

([vi]) الرفاعي، فلسطين في المسرح المصري، (213).