المكيدة

مسرحية قصيرة

بقلم : محمد الحسناوي  

[email protected]

المشهد الأول

في نصوص الأدب العربي والإسلامي كنوز ثقافية، طاقتها على النفع والإمتاع لا تنفد فإذا أضيفت لها بعض اللمسات في الأداء أو العرض أو الرؤيا، اكتسبت أسباباً أخرى للإمتاع والإقناع. نضرب على ذلك مثلاً من "كتاب الأمثال للميداني" وهو

"الحامل على الكراز" :يضرب لمن يرمى باللؤم. يعني أنه راع يحمل زاده على الكبش.

(مشهد ليلي في البادية. في صدره خيمة عربية يخرج منها شاب بدوي أرقاً من نومه، يتمشى ذهاباً وإياباً إلى أن يظهر شبح يشبهه في بعض ملامحه، ويختلف عنه بوجود قرنين في رأسه، وبمخالب وحشية طويلة في أطراف يديه....).

الشبح: (يقترب من الشاب هامساً) قاصر. قاصر.

قاصر:..........

الشبح: ألست قاصر بن سلمة الجذامي؟

قاصر: من يناديني؟

الشبح: أنا.

قاصر: من أنت؟

الشبح: أنا.. أنت.

قاصر: هل أنت مجنون؟

الشبح: بل أنت المجنون؟

قاصر: لماذا؟

الشبح: لأنك لم تهتد حتى الآن إلى طريقة تتخلص بها من عدوك.

قاصر: من عدوِّي؟

الشبح: مخالس بن مزاحم الكلبي.

قاصر: هذا منافس لي عند الملك النعمان، وليس عدوي!

الشبح: حين يتغلب عليك فيكسب قلب الملك، ويحجبه عنك، ويفوز بأُعطياته لنفسه ولقومه، فقد أصبح عدوَّك.

قاصر: إنه أطول مني قامة، وأجمل وجهاً، لكنه ليس أذكى مني.

الشبح: إنه يستخدم ذكاءه في رواية أيام العرب وأخبارهم، وحفظ أمثالهم وأشعارهم، وفي الإصلاح بين الناس، والشفاعة لهم لدى النعمان ليعفو عنهم، وبنشر الهدوء والمحبة بين الراعي والرعية.

قاصر: وأنا؟

الشبح: أنت استخدمت ذكاءك في تتبع عورات الناس، لتظهر حسناتك، ووشيت بهم لدى النعمان للإيقاع بهم، والانفراد به.

قاصر: لكنني حتى الآن لم أستطع الانفراد به لنفسي.

الشبح: حاسب نفسك.

قاصر: أتركُ عاداتي السابقة، وأقلدُ منافسي مخالس؟

الشبح: لن تفلح.

قاصر: لم؟!

الشبح: لأن التقليد أضعف من الأصل.

قاصر: هذا أولاً.

الشبح: وثانيا، أنت شققت لنفسك طريقا لا يمكنك الرجوع عنه، ولن يصدقك النعمان في تغيير عاداتك!

قاصر: وما العمل إذاً؟

الشبح: أن تُتقن عملك الذي أنفقت عمرك فيه. إنه عمل يحتاج إليه الملك.

قاصر: كيف؟

الشبح: بالتفكير، بالتخطيط،، بالتدبير، بصنع خصوم للملك إن لم يكن هناك خصوم.

قاصر: كيف؟ كيف؟

الشبح: أليست مهمتك الوحيدة في الحياة هي التخلص من منافسك -عفواً عدوك- مخالس بن مزاحم الكلبي؟ أليس الملك محتاجاً إلى تحسس أخبار أعدائه وخصومه؟ اخلط حاجتك بحاجته، وتزلف له.

قاصر: بلى، لا ترفعْ صوتك.

الشبح: لا تخفْ، لا أحد يسمعنا.

قاصر: طيب، ما علاقتك أنت، من تكون؟

الشبح: لا يهم من أكون أنا. المهم: هل تريد التخلص منه؟

قاصر: نعم أريد التخلص منه الآن. الآن (يضغط قبضته اليمنى، ويضرب بها كفه اليسرى، ويضغط فكَّ أسنانه العلوي على الفك السفلي بقوة).

الشبح: إذن ابدأ برسم الخطة.

قاصر: من أين أبدأ؟

الشبح: تريد قتله بيدك أم بيد غيرك؟

قاصر: ألا توجد طريقة غير القتل!

الشبح: هل أنت جبان؟

قاصر: لا. أبداً.

الشبح: أجبني، تريد قتله بيدك أم بيد غيرك؟

قاصر: لا أريد أن أُلوِّث يدي بدمه القذر.

الشبح: إن دمه ليس قذراً. إنه جميل الصورة، حسن الهيئة، ولون دمه مثل لون دمك،، أحمر. أحمر. أحمر.

قاصر: هل تسخر مني؟

الشبح: بل أريد أن نتفاهم بعمق، حتى تنجح الخطة بعيدا عن الغموض والتردد.

قاصر: لا أريد أن أُلوِّث يدي بدمه الوسخ. أنت تفهم كلامي.

الشبح: بل لا تريد أن يثأر أحد لمقتله منك.

قاصر: المهم أن أنتقم منه سريعاً. وإذا كان الأمر بيد غيري فذلك أفضل. أريد أن أنتهي من منافسته إلى الأبد.

الشبح: هل سوف تعيش إلى الأبد؟

قاصر: لا تسخر مني، هذه كلمة تقال.

الشبح: أنصبْ له مكيدة.

قاصر: كيف؟

الشبح: احفرْ له حفرة.

قاصر: كيف؟

الشبح: حرِّضْ عليه الملك النعمان.

قاصر: كيف؟

الشبح: أليس هو شاعراً مجيداً يسحر لْبَّ النعمان.

اصنع على لسانه شعراً يُغيظ النعمان، يثير نقمته، فيغضب عليه فيقتله.

قاصر: أولاً أنا لست بشاعر.

الشبح: كن شاعراً.

قاصر: لا أستطيع.

الشبح: أنا أساعدك.

قاصر: كيف تساعدني؟!

الشبح: لا يهمك، ابدأْ.

قاصر: من أين أبدأ؟

الشبح: ابدأ من تذكر قصيدة مشهورة تحفظها، ثم زِنْ على مثالها في ذهنك، ثم تابع القول الموزون خطوة خطوة.

قاصر: أخشى أن تنكشف المكيدة، والنعمان يعلم مدى بغضي لمخالس بسبب المنافسة، وهو ملك تصعب مخادعته.

الشبح: أنت لست ملزماً بهجاء الملك نفسه. اصنع شعراً في هجاء أخيه وأهله.

قاصر: هذه واحدة..

الشبح: هل تجهل طبيعة الملك؟ إنه يُستثار لأي غمزة بقناته، إنه يحسب كل صيحة عليه.

قاصر: كأنك تعيش في سويداء قلبه.

الشبح: أنا عند حسن ظنك.

قاصر: فلنبدأ.

الشبح: لنبدأ بنظم الشعر الهجائي. اهجُ أخا الملك، ثم انسب الشعر إلى مخالس بن مزاحم الكلبي.

قاصر: سوف أبدأ. (يدندن): لقد .... لقد... لقد..

الشبح: ... كانَ من سمّى أباكَ ابنَ فرتنى     بهِ عارفاً بالنعتِ قبل التجاربِ

قاصر: فسمَّاهُ مـن عِرْفانِهِ جَـروَ  جَيألٍ    خليلةَ قشعٍ خاملِ الرجلِ ساغب

الشبح: أحسنت.. أحسنت.. تابع.

           

المشهد الثاني

(الأمير العربي عمرو بن هند في مجلسه الفخم، وهو رجل كهل حوله جلساؤه باللباس العربي. يدخل عليه قاصر بن سلمة الجذامي).

قاصر: عِمْ صباحا أيها الأمير.

عمرو: طاب صباحك، يا قاصر بن سلمة الجذامي، ما وراءك؟

قاصر: ورائي أمر عظيم، أبا منذر!

عمرو: ما هو؟

قاصر: رجل من بني كلب يهجوك في شعره.

عمرو: يهجوني أنا؟

قاصر: يهجوك، ويهجو أمك وأباك.

عمرو: هل أنت متأكد من كلامك؟

قاصر: لولا الحياء لأسمعتك سبابه.

عمرو: لابد من ذلك.

قاصر: يصف جدتك الفاضلة بأنها (فرتنى).

الجلساء: (يسمع لغطهم واستنكارهم وهمهمتهم) :فرتنى، فرتنى!

عمرو: جدتي أمة مستعبدة؟ يا للوغد!

قاصر: ويشبه أباك العظيم بجرو جيأل جائع.

الجلساء: (يسمع استنكارهم وهمهمتهم): جرو جيأل!!

عمرو: أبي ولد الضبع. يا للنذالة!

قاصر: أستعفني من التتمة.

عمرو: لا بد من سماع البقية، إن كان ثمة بقية.

قاصر: البقية أشد وأنكى أيها الأمير.

الجلساء: (يغلطون محتجين)

عمرو: ماذا يقول هذا الكلبي الوضيع؟

قاصر: لقد تجرأ على سبك وسب أبيك المنذر.

عمرو: تباً له من وغد!

قاصر: يقول: كيف يقود أبوك الجيوش الجرارة، وهو جبان!

عمرو: أبي جبان؟

قاصر: بل يزعم أنه رعديد ترتجف فرائصه حين تلتقي خيول الفرسان في الحرب، وتهتز السيوف القاطعة.

الجلساء: (تسمع همهمة استنكار منهم).

عمرو: حسبك. حسبك. سوف يرى مني هذا الكلبي ما يؤدبه ويؤدب قومه. لسوف أحرقه حياً. ألست المُحرِّق؟

           

المشهد الثالث

(الملك النعمان بن المنذر في مجلسه على العرش. رجل كهل. حوله يجلس الأعوان بلباسهم العربي. يدخل أخوه الأمير عمرو بن هند).

عمرو: عِمْ صباحاً أخي الملك النعمان..

الملك: (بابتسام) طاب صباحك أخي عمرو، أراك عابساً، ما الذي جاء بك في هذا الوقت المبكر؟

عمرو: (يزفر قليلاً. يضرب كفا بكف): أمر خطير أيها الملك العظيم..

الملك: لا عظيم عندي إلا رضاك، أنت أخي وقرة عيني.

عمرو: شعر يهجوني.

الملك: من يجرؤ على ذلك؟

عمرو: شعر يهجوني ويهجو أمك وأباك.

الملك: لا أكاد أصدق!

عمرو: إنه رجل من كلب.

الملك: من هو؟ ما اسمه؟

عمرو: أحد شعرائك.. مخالس بن مزاحم الكلبي.

الملك: هل فعلها؟!

عمرو: وأيم الله.

الملك: لا كان مزاحم ولا كانت كلب كلها.

الجلساء: (هل تسمع همهمة استغراب منهم).

عمرو: هل من حاجة لرواية سبابه في حضرتك؟

الملك: وما يمنعك يا عمرو. أنت أخي، وهؤلاء أصحابي.

عمرو: يمنعني هيبتُك وحرمتُك عندي.

الملك: لا بأس عليك. قل وأنا ملك الحيرة لا مدافَع.

عمرو: إنه شعر في الهجاء، أيها الملك.

الملك: (مستشاطاً) لابد من سماعه.

عمرو: يقول هذا الكلبي:

لقد كانَ من سمّى أباك ابنَ فرتنى     بهِ عارفاً بالنعتِ قبل التجاربِ

الملك: ابن فرتنى؟!

الجلساء: (يضجون بالاستنكار): ابن فرتنى؟ ابن فرتنى؟

عمرو: (يتابع الإنشاد):

فسمَّاهُ مـن عِرْفانِهِ جَـروَ  جَيألٍ    خليلةَ قشعٍ خاملِ الرجلِ ساغب

الملك: (منفعلا): جرو جيأل يا كلب؟

الجلساء: (يهمهمون ضاجين): خليلة قشع خامل الرجل ساغب!

عمرو: (يتابع).

أبا منذرٍ، أنَّى يقود ابنُ فرتنى     كراديسَ جمهورٍ كثيرِ الكتائبِ

الملك: سوف نرى يامخالس، سوف ترى يا كلب كيف نقود الجيوش؟

عمرو: (يتابع بصوت متهدج):

وما ثبتتْ في ملتقى الخيل ساعةً     له قدمٌ عند اهتزازِ القواضبِ

الملك: ما ثبتت له قدم، يا صعلوك! سوف أريك من تثبت له قدم.

الجلساء: (يضجون بالاستنكار): قدم. قدم. قدم!

الملك: يا أخي عمرو. وهبت لك مخالسا هذا تفعل به ما تشاء، وأنا أتعهد تأديب قومه بني كلب. ولكن دعوني أرى هذا الساعي إلى حتفه بظلفه. جيئوني بهذا المخالس بن مزاحم الكلبي.

           

المشهد الرابع

(مجلس الملك النعمان. الملك يتمشى غاضبا أمام عرشه. الأعوان والجلساء صامتون واجمون. يؤتى بمخالس بن مزاحم الكلبي، وقد نزعت عمامته، واضطرب شكله وثيابه، ويلقى به مقيدا أمام الملك.)

الملك: هل يعجز النعمان في طلبك، أيها الأعرابي.

مخالس: أبيتَ اللعن. أنا أحد ضيوفك، أيها الملك. أنا مخالس بن مزاحم الكلبي.

الملك: لا كان مزاحم ولا كانت كلب.

مخالس: ولِمَ أيها الملك المبجل؟

الملك: لا أمّ لك.

أتهجو أمراً هو، ميتاً خيرٌ منك حيّاً

                 وهو، سقيماً، خير منك صحيحاً

                 وهو، غائباً، خير منك حاضراً

فبحرمةِ ماء المزن

وحقِّ أبي قابوس

لئن لاح لي أن ذلك كان منك لأنزعنَّ غلصمتك من قفاك، ولأطعمنَّك لحمَك.

مخالس: (مندهشاً).

أبيتَ اللعن

كلا والذي رفع ذروتك بأعمادها،

وأمات حسادك بأكمادها،

ما بلغك غيرُ أقاويل الوشاة،

ونمائم العصاة،

وما هجوتُ أحداً،

ولا أهجو امرأ ذكرتَ أبداً،

وإني أعوذ بجدك الكريم،

وعزِّ بيتك القديم،

أن ينالني منك عقاب،

أو يفاجئني منك عذاب،

قبل الفحص والبيان،

عن أساطير أهل البهتان،

الملك: ألم تقل:

لقد كانَ من سمّى أباكَ ابنَ فرتَنى     بـهِ عارفاً بالنعتِ قبلَ التجاربِ

فسمّاه مـن عِرفانهِ جـروَ جيألٍ     خليلةَ قشعٍ خاملِ  الرجلِ ساغبِ

أبا منذرٍ أنى يقودُ ابـنُ فـرتنى      كراديسَ جمـهورٍ كثيرِ الكتائبِ

وما ثبتتْ في ملتقى الخيلِ ساعةً      له قَـدَمٌ عند اهتزازِ  القواضبِ

مخالس: (مفاجَئا) أبيت اللعن. إني بريء من هذا الكلام المفترى عليّ!

الملك: (بتحد) وما برهانك على براءتك؟

مخالس: أبيت اللعن. قبل أن أدان في حضرتك... أنا بريء، ولا يليق بملك مثل النعمان بن المنذر أن يقيد ضيفه البريء مثلي.

الملك: (متمالكا أعصابه): فكوا قيوده.

(يتقدم حارسان ويفكان قيود مخالس.. يضع مخالس عمامته على رأسه)

الملك: هات برهانك.

مخالس: أبيت اللعن. أنت ملك مفضال، لم تسيء إلي ولا إلى قومي بني كلب، بل أكرمتني، وحظيت بصحبتك. وليس من شيمي ولا من شيمة قومي الإساءة إلى الملوك مثلك، ولا لمن يحسن إلينا!

الملك: وإذا فعلتها؟!

مخالس: أنت أكبر من أن تصدق الوشاة العداة، وأنا أصغر من أن تأخذني بجريرة مفتراة، أو أن أجرؤ على ما ليس لي بحق..

الملك: وإذا فعلتَها يا مخالس بن مزاحم الكلبي.

مخالس: أنا متأكد أن هذا الشعر ليس كلامي، ولابد أن عدواً قد اختلقه عليَّ، ونسبه إلي، لكيما يوغر صدرك، ويوقع بي عندك.

الملك: من عدوك؟!

مخالس: إن كان راوي الأبيات قاصر بن سلمة الجذامي، فهو غريمي وغريمك!

الملك: هل يجرؤ صعلوك مثله على مثل هذه الوشاية.

الجلساء: (يهمهمون متسائلين) قاصر.. قاصر.

مخالس: ليست هذه أول وشاية قطعتْ دابرها حكمتُك وعدلُك.

الملك: (يلتفت إلى جلسائه مستشيراً) ما رأيكم أيها الأصحاب؟

الجلساء: الرأي رأيك أيها الملك، ولكننا نقترح أن تمتحن صدق الراوي. هل هناك خصومة سابقة بين الرجلين؟

الملك: إيتوني بقاصر بن سلمة.

           

المشهد الخامس

(مجلس الملك النعمان. الملك على عرشه. حوله جلساؤه. بين يديه كل من مخالس بن مزاحم الكلبي وقاصر بن سلمة الجذامي واقفان)

الملك: يا ابن سلمة الجذامي.

قاصر: السمع والطاعة للملك.

الملك: ماذا بينك وبين هذا الرجل؟

قاصر: أبيتَ اللعن، تقصد مخالس بن مزاحم الكلبي..

الملك: هو ذاك (يشير إليه).

قاصر: ليس بيني وبينه إلا الشكر والعرفان لجميلك.

الملك: هل بينك وبين مخالس عداوة؟

قاصر: لا أبا لك، ليس بيني وبينه  شيء. وها أنا ذا أتقدم منه، وأقبل رأسه في حضرتك برهاناً على صدقي.

(حين يقترب قاصر من مخالس ليقبل رأسه، يصفعه مخالس على وجهه، ويرده عنه مشمئزاً)

الملك: (مغضباً) يا ابن مزاحم الكلبي، كيف تجرؤ على إهانة ضيفي؟

مخالس: أبيتَ اللعن. هذا الرجل ليس ضيفك. إن ضيوفك لا يكذبون على الناس. هذا الجذامي كذاب أشر. إنه صاحب فتنة أيها الملك المعظم.

الملك: سوف نرى من هو الكذاب الأشر.

يا قاصر.

قاصر: سمعا وطاعة للملك النعمان.

الملك: من قائل هذه الأبيات:

لقد كانَ من سمّى أباكَ ابنَ فرتَنى     بـهِ عارفاً بالنعتِ قبلَ التجاربِ

فسمّاه مـن عِرفانهِ جـروَ جيألٍ     خليلةَ قشعٍ خاملِ  الرجلِ ساغبِ

أبا منذرٍ أنى يقودُ ابـنُ فـرتنى      كراديسَ جمـهورٍ كثيرِ الكتائبِ

وما ثبتتْ في ملتقى الخيلِ ساعةً      له قَـدَمٌ عند اهتزازِ  القواضبِ

قاصر: قائلها شاعر. أبيت اللعن. هو مخالس بن مزاحم الكلبي.

الملك: هل أنت متأكد يا جذامي؟ إنه يهجو أخي وأبي وأهلي.

قاصر: أبيت اللعن. وحقِّكَ لقد هجاه. وما أروانيها سواه.

مخالس: كذب أيها الملك المعظم. لا يأخُذنَّ -أيها الملك- منك قولُ امريءٍ آفك، ولا توردني سبيل المهالك.

الملك: ما برهانك على كذبه؟

مخالس: لكل منا شيمة معروفة من قبل. هو من فئة الوشاة الذين اعتادوا الوقوف ببابك لهذا الغرض. وأنا من فئة المصلحين بينك وبين الناس، وشتان ما بين واش وصادق.

الملك: يا قاصر.. هل لديك شاهد سمع الشعر من مخالس معك.

قاصر: سمعته منه وحدي. وأنا عينك وأذنك!

مخالس: أستدلل على كذبه بقوله: إني أرويته. مع ما تعرف من عدواته.. أبيت اللعن. إنك محجوب عن الناس بالوشايات، وما كل ما ينقله الواشون صدق وعدل.. إن الوشاية عند الملوك باب من أبواب الرزق، لا يخفى عليك. تذكر أعمال هذا الرجل. كلها وشايات، إلا هذه فكانت الطامة.

الملك: (للجلساء): أما العداوة فقد ثبتت بينهما، فكيف يروي عدوٌ عن عدوٍ شعرا؟ ثم ليس مع الراوي شاهد يشهد على صدقه.

(يلتفت إلى قاصر) يا قاصر إن مخالسا لبريء عندي، وإن لك عندي يدا، ولولا ذلك لأخذتك بسوء عملك.

(يلتفت ثانية إلى الجلساء): الرأي عندي أن أخرجهما من مجلسي، وأن أبريء مخالس بن مزاحم.

الجلساء: الرأي ما رأيت أيها الملك.

مخالس: أيها الملك العادل. أما وقد ثبتتْ براءتي من الوشاية، وأحبطت المكيدةُ، فاسمح لي أن أقول في حضرتك بالجذامي وأمثاله من الوشاة المرتزقين بالوشاية... قولا يذهب مذهب الأمثال، وتتناقله الأجيال..

الملك: قل.

مخالس: يا قاصر بن سلمة الجذامي!

شقيَ جدُّك.

وسفَلَ خدُّك.

وبطُلَ كيدُك.

ولاح للقوم جُرمُك.

وطاش سهمُك.

ولأنتَ أضيق جُحراً من ضب خائِفٍ نقَّاز.

وأقلُّ قرى من الحامل على الكرَّاز.

- ستار -