مصرع خبيب

هاشم عبد السلام الكفاوين

هاشم عبد السلام الكفاوين

شخصيات المسرحية

ـ خبيب بن عدي

ـ  أبو ميسرة

ـ  الأخنس بن شريق

ـ  محروس

ـ  الراوي

ـ  غلمان وعبيد

الراوي (خلف الستار) - جاء في السيرة.. أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة للهجرة رهط من قبيلتي عضل والقارة، يعرضون إسلامهم ونصرتهم .. وطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل معهم نفرا من أصحابه يفقهونهم في الدين ويعلمونهم شرائع الإسلام .. فبعث معهم سبعة من أصحابه..فلما بلغوا ماء الرجيع حيث يقطن بنو هذيل .. غدر بهم الأعراب واستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم في رحالهم إلا والسيوف تحيط بهم من كل جانب.. فقتل منهم خمسة وأسر زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي اللذان اقتيدا إلى مكة فابتاعتهما قريش وحبستهما حتى حان موعد الثأر منهما وذلك بانتهاء الأشهر الحرم…

 (يفتح الستار عن ساحة مغلقة.. جدرانها من الطين .. في أعلى الجدار الأيمن تطل نافذة صغيرة (كوة) .. ويتوسط الجدار الأيسر باب من القضبان الحديدية . وفي الجانب الأيمن تنتصب شجرة نخيل ثبت على ارتفاع مناسب منها جذع من شجرة فصارت على هيئة صليب.

يظهر خبيب بن عدي وقد جلس القرفصاء مسندا ظهره إلى الشجرة).

خبيب (يقرأ شيئا من سورة مريم) ………  " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا .قال : يا مريم أنَى لك هذا ؟ قالت هو من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب".. (يرفع يديه ويدعو ) اللهم إنك تعلم من حالي ما يغنيك عن سؤالي .. يا رازق ابنة عمران في محرابها ، أسألك من فضلك أن ترزقني كما رزقتها فإني عبدك وصاحب رسولك صلى الله عليه وسلم ..

( تمضي لحظات ثم نشاهد سلة جميلة تشع الأنوار من داخلها ، تتدلى ببطء من أعلى بواسطة خيط غير مرئي لتستقر أمامه .. يمد يده إلى داخلها فيتناول قطفا كبيرا من العنب .. فترتفع مرة أخرى .. لحظات أخرى تمضي ثم يدخل أبو ميسرة ..يلتفت ناحية خبيب فتظهر على وجهه أمارات الدهشة والغضب ..)

أبو ميسرة (ينادي بعصبية )محروس  .. يا غلام ..  يا أحمق ..

 (يدخل محروس على عجل .. خائفا.. يتعثر فيصطدم بسيدة فيصفعه الأخير)

محروس (بخوف) – ما ماذا يريد مولاي أبو ميسرة ؟!

أبو ميسرة (يشير إلى ناحية خبيب) – ما هذا الذي أراه يا غلام السوء؟

محروس (ببلاهة) –هذا ..هذا خبيب بن عدي يا سيدي ..

أبو ميسرة (وهو يصفعه) – هل تتغابى أيها الأحمق ؟ قلت "ما" ولم أقل "من".. أنا أعلم أن هذا  خبيب..أنا أعني ذلك الشيء ..ألا ترى ؟

محروس (يدقق ناظريه بغباء) – ماذا ..ماذا يا مولاي..؟

أبو ميسرة ( بجنون)- ماذا ؟..تقول ماذا ؟.. ألا ترى قطف العنب الذي هو في حجم رأسك أيها الأبله ؟!

محروس (بغباء) هاه ..نعم ..نعم أراه ..أراه يا مولاي (يتحسس رأسه) وهو في حجم رأسي تماما كما قلت يا سيدي..

أبو ميسرة- أيها المعتوه الأحمق.. اشترينا الرجل من أصحاب الرجيع لنقتله لا لنطعمه مما لذ وطاب من فاكهة الطعام..(يصفعه) من أمرك بذلك يا غلام ؟

محروس (بخوف) - لا أحد يا مولاي..

أبو ميسرة- ألم آمرك أن تمنع عنه الطعام حتى يحس لسعة الجوع في أحشائه قبل أن نزهق روحه..؟!

محروس- بلى يا مولاي ..واللات  لقد فعلت ما أمرتني به..

أبو ميسرة – ويلك أيها الأبله ..وما ذاك الذي نراه كلانا..طوق من حبات اللؤلؤ انتظمت عقدا فصارت ين يديه ..؟

محروس – واللات لا أكاد أفهم شيئا مما يحدث يا مولاي..

أبو ميسرة – أنا أقول لك لماذا ..

محروس – لماذا يا مولاي ؟..

أبو ميسرة – لأنك عبد غبي مغفل لا تصلح إلا للجلد … (ينظر إلى العنب بشراهة) أيها الأحمق..إن كان أحدهم قد وصل بقافلته من الشام يحمل عنبا طيبا كهذا ..ألا يجدر بك أن تطعم منه مولاك وسيدك أولا ليذوق حلاوته قبل أن ينال منه هذا الأسير..وأنا أنظر إليه أتفتق شراهة وألما ..؟!

قل لي أيها الأحمق..من زرع خصال الجود والكرم هذه فيك مرة واحدة..لست أنا بالتأكيد؟؟

محروس (بعفوية) - أبدا ..ما كنت لأتهمك بذلك يا مولاي..ولكن ..

أبو ميسرة (يصفعه مقاطعا) - ولكن..ولكن ماذا ؟ هاه .. تكلم ..(يمسك بأذنه) تكلم قبل أن أقطع لسانك فلا تتكلم…

محروس- صدقني يا مولاي..أنا لم أجلب له شيئا.. ولا أدري من أين جاء بهذا العنب ..في الأمر سر يا مولاي ..سر لا بد أن نكتشفه..

أبو ميسرة- أي سر هذا..؟

محروس – أنا حقا غبي يا مولاي ..ولكني مثلك..

أبو ميسرة- ماذا تقول؟

محروس – أقصد أنني مثلك أتساءل..إن كان في مكة أو في غيرها عنب يؤكل الآن ..!!

أبو ميسرة (بعد تفكير يتمتم) - هاه ..نعم واللات ..كيف فاتتني هذه ؟ لا عنب في مثل هذا الوقت من العام.. ( يظهر السرور على وجه محروس سرعان ما ينقلب إلى عكسه بصفعة من أبي ميسرة) ولكن ..ولكن من أين جاء هذا القطف وحط في يده.. تنزَل من السماء ؟!

محروس (بخوف) – لا أدري يا مولاي .. ربما ..ربما .. (تلمع في رأسه فكرة) قد يكون ساحرا يا مولاي..

أبو ميسرة- ساحر ؟ أتقول ساحر؟

محروس – نعم يا مولاي .. يقال : إن أصحاب محمد يسحرون الناس ..ألم تسمع بقصة رفيقه عاصم بن ثابت ؟

أبو ميسرة- ماذا عن عاصم هذا ؟

محروس- قتلوه يا مولاي ..وحين أرادوا جثته ليبيعوها من "سلافة بنت سعد".. ( يسترسل في الحديث وكأنه تذكر شيئا ) لقد أقسمت تلك المرأة يا مولاي أن تشرب بجمجمته الخمر..فهو قد قتل ولديها الاثنين يوم أحد يا مولاي..

أبو ميسرة (بغيظ) - أعلم ذلك ..أكمل أيها الأحمق..

محروس- أرادوا جثته فأحاطت به الدبر ومنعتهم منه .. الدبر خطيرة يا مولاي ..لسعاتها مؤلمة جدا وقد..

أبو ميسرة (مقاطعا) – وقد ألسعك بالسوط إن لم تكمل أيها الأبله..

محروس – نعم يا مولاي ..أحاطت به الدبر .. فقالوا ننتظر حتى يأتي المساء فيذهب الدبر .. ولكن.. (يشير بالنفي ويصمت) ……….

أبو ميسرة (بغيظ) - ولكن ماذا..؟؟

محروس – أمطرت السماء يا مولاي ..فاحتمله السيل وذهب به إلى حيث لا يعلمون..كان ساحرا ولا شك وإلا فكيف استطاع أن يحمي نفسه بهذه الطريقة العجيبة..!!

أبو ميسرة (باستغراب) – يحمي نفسه ؟ أحمق .. أنت حقا أحمق ..لقد كان جثة كما تقول  فكيف يعقل أن يحمي ميت نفسه…؟؟

محروس – إذن كيف تفسر ذلك يا مولاي..؟

أبو ميسرة- لا بد أن .. أن..(ينهال بالضرب على محروس) أيها الغبي ..كيف تجرؤ على سؤالي.. (يهدأ قليلا) لا بأس ..يوما ما سأعرف الحقيقة..وستنال عقابك أيها المعتوه  ..هيا .. هيا انصرف وادع الغلمان ليحضروا في الحال..

محروس- في الحال يا مولاي….

(يخرج محروس ..ويتقدم أبو ميسرة إلى حيث خبيب)

أبو ميسرة – ها يا ابن عدي ..وأخيرا وقعت في يد من لا يرحم.. ظننت أنك ناج من سيوف بني الحارث وقد قتلت أباهم..ولكن هيهات فالموت لا محالة قادم..

خبيب – "كل نفس ذائقة الموت ".. أما أنا فلست أبالي بما يصيبني في سبيل الله .. وأما أنتم فما كنتم لتزدادوا شرفا بقتل رجل اشتريتموه من أهل غدر.. لا هو يحمل سلاحا يدافع به عن نفسه.. ولا أنت نازلتموه في مواطن الرجال فصرعتموه فيقال : قتلتم فارسا من فرسان المسلمين..أنت الخاسرون على أية حال والفوز لي ورب الكعبة..

أبو ميسرة- تفوز؟!.. (يقهقه ضاحكا) تفوز بماذا ؟.. حقا إن محمدا لم يكتف بأن سحركم .. لكنه أفقدكم عقولكم أيضا.. لا تَميزون الفوز من الخسران …هاهاها ..تقول فوز؟ أي فوز هذا .. وحرابنا ستبقر بعد هنيهة أحشاء بطنك.. وسيوفنا ستأكل من أطراف جسدك الغض.

خبيب – الفوز هو الجنة يا أبا ميسرة .. جنة عرضها كعرض السماوات والأرض ..أعدها الله للمتقين والشهداء والصالحين من عباده..

أبو ميسرة – حقا إن هذا لشيء عجاب .. جنة عرضها كعرض السموات والأرض ؟.. بقي أن تدعي أن ذلك القطف الذي التهمته قبل قليل ما هو إلا ثمرة من ثمار تلك الجنة…!!

أما واللات لنصلبنك ثم لنقتلنك شر قتلة .. حتى إذا شفينا الغليل برؤية حالك.. تركناك جيفة تنهشها سباع مكة وتملأ حواصلها منها وحوش الطير من الجارحات..

خبيب (مبتسما) – وما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها .. إن الذي حمى جسد عاصم أن تمسوه بسوء وقد أقسم على ذلك .. قادر على أن يجنب جسدي سباع مكة ووحوش طيرها…

أبو ميسرة سنرى مدى احتمالك ..

(يدخل الأخنس بن شريق يتبعه مجموعة من الغلمان والعبيد)

أبو ميسرة – أهلا بك يا ابن شريق ..أما واللات لقد جئت في موعدك..أخبرني :ماذا فعل بنو أمية بأسيرهم؟

الأخنس – قتلوه يا أبا ميسرة شر قتلة..

خبيب (يتمتم)- لا حول ولا قوة إلا بالله..

أبو ميسرة- هل سمعت يا ابن عدي ؟  (باستهزاء) صاحبك ابن الدثنة سبقك إلى ..إلى الجنة ..هاهاها…

 

خبيب- إنا لله وإنا إليه راجعون ..رحمك الله يا زيد..لم تزل سبَاقا إلى الخير حتى إلى جوار ربك…

أبو ميسرة- سترى يا ابن شريق بأم عينيك أن بني الحارث أكثر براعة من بني أمية في أخذهم بثأرهم وانتصارهم لشرفهم.. (يشير إلى غلمانه) قيدوه إلى الصليب …

 (يتقدم العبيد لتنفيذ أمر سيدهم)

خبيب – هل لك يا أبا ميسرة في أمر تفعله من أجلي .. لا تزال تذكرك به العرب..

أبو ميسرة (بزهو المنتصر) - هل جزعت يا خبيب ؟.. أتتوسل إلي لأعفو عنك ؟..

خبيب- ليس هذا يا أبا ميسرة ..

أبو ميسرة- ارجع عن الإسلام نخل سبيلك..

خبيب- لا والله ما أحب أن أرجع عن الإسلام وإن لي ما في الأرض جميعا..

أبو ميسرة- أطعني يا خبيب وارجع..

خبيب- لا والله لا أرجع أبدا..

أبو ميسرة- أليس ما أدعوك إليه خير لك من القتل ..

خبيب – إن قتلي في الله لقليل.. إنما أردت أمرا آخر غير الذي ظننت..

أبو ميسرة – ماذا تريد إذن ؟!

خبيب – تدعني أستأذن ربي في القدوم عليه… ركعتان أصليهما له سبحانه ، ثم افعلوا بي ما شئتم..

أبو ميسرة (بعد تفكير)- ما قولك يا ابن شريق ؟…

الأخنس – لا ضير في ذلك يا ابا ميسرة والرجل مقبل على الموت لا محالة..

أبو ميسرة (بعد تردد) – ولم لا ..دونك فاركع يا ابن عدي .. (يخاطب غلمانه ) دعوه يصلي لإلهه الواحد (يقترب من خبيب الذي بدأ صلاته ) راقبوه جيدا .. يزعم محمد أن الملائكة تقاتل معهم.. (بسخرية) من يدري ..لعل ملكا من السماء يسعى على حين غفلة منا لإنقاذه … هاهاها..

 (يصلي خبيب ركعتين خفيفتين مع صوت قاريء يتلو بعض الآيات من القرآن الكريم ، ثم يعود إلى مكانه عند شجرة الصلب)

أبو ميسرة –ها ..هل دعوت ربك الواحد؟ (باستهزاء) لا أظنك فعلت فقد عجلت..لم العجلة يا خبيب؟

خبيب – حتى لا تظنوا أني إنما طولت جزعا من الموت..

أبو ميسرة (لغلمانه) – أوثقوه..

خبيب (وهم يقيدونه للشجرة ووجهه إلى السماء) – اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو وليس ههنا أحد يبلغ رسولك مني السلام ..اللهم إنا قد أبلغنا رسالة رسولك فأبلغه مني السلام وبلغه الغداة ما يصنع بنا..

أبو ميسرة (باستهزاء) – من .. من سيخبره ؟ طيور السماء .. أم جبريل هذا الذي يدعي أنه يأتيه بالقرآن من الله ؟؟…استعدوا لقتله…

 (يحيط الغلمان بخبيب من كل جانب في أيديهم السيوف والحراب والرماح)

الأخنس – على رسلك يا أبا ميسرة .. (يقترب من خبيب ويخاطبه) أنشدك الله يا خبيب

خبيب ماذا تريد يا ابن شريق ؟

الأخنس أسألك يا خبيب .. أما ترضى أن لو كنت في أهلك سليما معافى ..وأن محمدا الآن في مكانك هذا تضرب عنقه بدلا منك..؟

خبيب – أما إن قلوبكم غلف يا معشر الكفار .. لا تعرف إلى الحب سبيلا.. أما نحن معشر المسلمين فقد أكرمنا برسول علمنا أن لا إيمان بلا حب ..

 

الأخنس – إنني أسأل يا ابن عدي .. أما ترضى لو أنك في أهلك وأن محمدا ..

خبيب (يقاطعه) – لا .. لا والله ما أحب أني في أهلي كما ذكرت ..وتصيب حبيبي رسول الله شوكة تؤذيه..

الأخنس (بعد صمت)- هذا جواب صديقه ابن الدثنة قبل أن يقتلوه… إني والله ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا…

أبو ميسرة – اصرفوا وجهه من حيث جاء إلى غير قبلته..

خبيب (وهم يصرفونه عن القبلة) - "فأينما تولوا فثم وجه الله".

أبو ميسرة- لا أريدكم أن تتعجلوا في قتله..أريد أن يموت ببطء كي نتلذذ بصوته يتألم (بحقد) اليوم تهدأ نار ثأرنا المتأججة.. الدم لا يمحوه غير الدم …هيا ..انهشوا جسده بحرابكم..

 (ينشبون حرابهم ورماحهم وسيوفهم في جسده من كل جانب وهم يدورون حوله بتسارع ويتصايحون..نسمع صوت الراوي يردد أبياتا من الشعر فتثبت الحركة إلى السكون)

الراوي

إلى الله أشكو غربتي بعد كربتـي    وما جمع الأحزاب لي عند مصرعي

فذا العرش صبرني على ما أصابني    فقد بضعوا لحمي وقد ضل مطمعي

وذلـك في ذات الإلـه وإن يشـأ    يبارك على أوصال شـلو ممـزع

وقد عرضوا بالكفر، والموت دونه    وقد ذرفت عيناي من غير مجـزع

وما بـي حذار المـوت، إني لميت    ولكـن حذاري جحـم نار ملفـع

فلســت بمبـد للعـدو تخشعـا    ولا جزعـا، إني إلى الله مرجعـي

ولسـت أبالـي حين أقتـل مسلما    على أي جنب كان في الله مصرعي

خبيب-  

ولست أبالي حين أقتل مسلما    على أي جنب كان في الله مصرعي

(يتناول أبو ميسرة من أحد غلمانه حربة ويصيح)

أبو ميسرة- يا لثارات بني الحارث.. خذها مني يا ابن عدي (يغرزها في قلبه)

خبيب (مبتسما وبألم) – فزت.. ورب الكعبة..اللهم ..أحصهم عد..دا ..واقتل..هم ..بد..دا ..ولا تغادر منهم أحدا..(يتمتم بالشهادتين مع أنفاسه الأخيرة)

 (ويغلق الستار مع أنشودة مناسبة)

انتهت بحمد الله