حورية بني كنعان

مسرحية من فصل واحد

علي محمد الغريب

[email protected]

ـ1ـ

الزمان : سنة 3000 قبل الميلاد

المكان : مدينة أورسالم 

المنظر : " نرى جماعة من الفلاحين الكنعانيين يحصدون القمح في بيدرهم وهم يغنون أهازيج الحصاد في فرح.. الأطفال يتقافزون من حولهم فرحيـن بموسـم الحصـاد،  يطاردون الفراشات والحشرات الحقلية.. يهجم جماعة من اللصوص ذوي الملامح البشعة بأسلحتهم على الفلاحين وأطفالهم ويأخذون في قتلهم وإبادتهم بلا رحمة.. زعيمهم تقع عيناه على صبية كانت تلهو مع الأطفال"

الزعيم : كفوا أيديكم..  يكفينا ما حصدناه اليوم (يشير للفلاحين الناجين من القتل) وقد أعفيت هؤلاء من أجل هذه الصبية الفاتنة (للصبية الخائفة) ما اسمك؟

الفتاة : ماذا تريد من اسمي أيها اللص؟!

الزعيم : (يهم بصفعها لكن أمها تخطفها من أمامه وتحتضنها)

المرأة  : (ترتجف) فلسطين.. اسمها فلسطين.. لا تؤاخذها فما زالت صغيرة.

الزعيم : (يضحك ويقهقه) أهنئك على أمومتك لهذه المهرة..(يكشر عن أنيابه) ابنتك وأنت وكل هؤلاء الفلاحين ـ حتى الذين قتلناهم ـ ملك لنا (لرجاله) احملوا هذه الفتاة إلى داري، فأنا أشتهيها. 

أحدهم : (يحاول أن يمسك يدها فتتملص منه)

 (الخوف يتملك جميع الفلاحين)

الزعيم : لا ترغبين صحبته؟.. سأصحبك أنا(يجذبها من يدها ويضمها إلى صدره في وحشية)

فلسطين : (تبصق في وجهه)

الزعيم  : (يزمجر ثم يسحب خنجره ويطعنها في قلبها فتتهاوى بين يديه مضرجة في دمائها) هذا مصير كل من سيتمرد عليّ (يلوح بالخنجر الذي كسته دماء فلسطين في وجه أمها وجميع الفلاحين) هل سمعتم.. لقد جئناكم نريد سلاماً، لكن يبدو أنكم يا بني كنعان لا تفهمون إلا لغة الدماء.. كم مرة حاولنا معكم لكنكم لا تتغيرون!

يعرب : (في غضب) تسرقون قوتنا، وتهتكون أعراضنا، وتدعون السلام؟!!

أبوه    : (يجذبه من ملابسه) اسكت.. ما زلت غراً.

الزعيم : (ليعرب) من أنت؟!!

أبوه : صبي لا يعرف ما يقول.

الزعيم : (يكز الرجل بقاعدة الخنجر في صدره) ربِّهِ.. علّمه كيف يتحدث إلى الناس حتى لا يجني عليك وعلى أهله (في طريقه للتحرك هو ورجاله) سنلتقي قريباً. (يخرج هو ومن معه)

أم فلسطين : (تنكفئ على ابنتها الغارقة في دمائها) فلسطين.. ياحبة القلب أنا أمك.. هل تسمعين؟ (تنتحب والنسوة من حولها يواسينها)

يعرب : (ثائراً) قتلها المختار.. قتلها المختار!!

أبوه : (محذراً) اسكت.. اسكت!!

يعرب : لو أنه ترك شباب المدينة يكافحون هؤلاء اللصوص لأهلكناهم؛ لكنه آثر مفاوضتهم فعلوا ظهورنا واستباحوا حرماتنا. 

أبوه : (غاضباً) قلت لك اسكت وإلا سمعك رجال المختار، فنلت مالا نحب.

يعرب : (ينظر إلى فلسطين والنسوة يحطنها وأمها وهن يولولن) قسماً لأثأرن لك من البغاة يا فلسطين (ينادي في الشباب) أيها الشباب من يبايعني على الثأر؟

الشباب : لبيك يا يعرب.

أحد الرجال :    ما زلتم قليلي الخبرة.. إن غلبتم اللصوص غلبكم المختار ورجاله، ونحن الخاسرون في كل الحالات.

رجل آخر : دعوا المختار يرتب شؤوننا لئلا نخسر كل شيء.

يعرب  : لسنا أقل من فلسطين التي تحدت زعيم العدو.(يتوجه ناحية النساء فيحمل فلسطين ويسير بها والشباب من خلفه)

ـ 2ـ

"نهر أور سالم.. نرى أشجار الزيتون والرمان والتين قد انتشرت بكثافة على شاطئ النهر.. يبدو أحد العابدين وقد اتخذ لنفسه صومعة تحت شجرة زيتون ضخمة.. تدخل أم فلسطين ومعها ثوب ابنتها الذي قتلت فيه فتمر من أمام العابد، ثم تلقي الثوب في النهر فتتلون صفحته بالدماء"

أم فلسطين : يا رب.. هذا دم ابنتي فلسطين.. حورية بني كنعان وأجمل بناتهن.. اللهم لا تضع دماءها سدى.. اللهم اجعل كل من شرب من هذا النهرـ وقد اختلط ماؤه بدمها ـ من إنسان أو طير أو شجر أو حيوان أن يكون حرباً على كل من أراد أورسالم بسوء إلى أن ترث الأرض ومن عليها.. اللهم تقبل دم ابنتي الوحيدة واكتبني في الصابرين. 

العابد  : ( من بين دموعه وقد سمعها) اللهم تقبل من أمتك الصالحة.

أم فلسطين : (تفاجأ به) هل عرفت بمقتل ابنتي الوحيدة أيها العابد؟

العابد : نعم يا أم الشهيدة النبيلة.

أم فلسطين : قتلها اللصوص.

العابد  : اللصوص لم يقتلوا ابنتك!

أم فلسطين : أنا رأيتهم بأم عيني وكبيرهم يطعنها بخنجره.

العابد  : ليس خنجره هو.. إنه خنجر المختار‍‍‍‍‍.(في غضب مكتوم) من يثأر لها ولنا؟ (تخرج أم فلسطين باكية)‍

يعرب : (يدخل ومن خلفه بعض الشباب) نحن الذين سنثأر لها وللجميع.. لقد جاوز اللصوص الحدود، واستباحوا كل الحرمات، فتعاهدت وإخواني على الثأر من الذين يريدون لنا المهانة.

العابد : نعم الخَلق الشباب.. لا سبيل للخلاص إلا ما ذهبتم إليه..  الثأر والجهاد.. سأتضرع إلى الرب لينصركم.

يعرب : اطمئن سنجالد اللصوص حتى يتمنوا الموت فلا يجدوه!

العابد : انفوا خبثكم قبل أن تجالدوا اللصوص.

يعرب : لم أفهم!

العابد : انفوا خبثكم؛ فالأرض من عامها هذا لن تبقي على محتل، ستتحول حبات زيتونها إلى جذوات من اللهب المستعر، وغصون رمانها إلى رماح مسنونة، ومناقير طيورها إلى خناجر مسمومة، وسهولها ووديانها إلى أخاديد تنشق فتبتلع عتاة البغاة.

يعرب : (في حيرة) ماذا تقصد؟

العابد  : الأرض كفيلة بالدفاع عن نفسها.. لكن بعد أن ينفي أهلها خبث أنفسهم!

يعرب : (كأنه فهم) سننفي خبثنا اليوم..هيا يا إخواني (يخرجون)

ـ 3ـ

"صحراء قاحلة.. يعرب ومن معه وقد انتهوا لتوهم من شق أخدود كبير.. يدخل مجموعة من رفاقه وقد قبضوا على مختار المدينة وبعض مستشاريه، معصوبة عيونهم.. يوقفونهم على حافة الأخدود.. يعرب يتقدم ويفك عصاباتهم.. ثم يلقيهم في الأخدود الواحد تلو الآخر.. والشباب يحثون في وجوههم التراب" 

المختار : ( من قاع الأخدود وقد غبّر التراب وجهه) أيها الشباب لا تدعوا الحماس يدفعكم لما قد تندمون عليه يوماً ما.. نحن لم نخن مدينتنا كما توهمتم.. العدو كان أقوى منا (أحد الشباب يصفعه بحفنة تراب فيسكت)

أحد مستشاريه     : صدق سيدي المختار.. ثم إننا لم نستسلم ولم نهادن، لقد بذل أبناء مدينتنا أرواحهم دفاعاً عن أرضنا غير أن العدو كان صاحب سطوة، ونحن بدورنا دافعنا بشرف و...(يتلقى حفنة تراب هو الآخر فيخرس)

مستشار آخر : من أخدود الصمود أناشدكم أن تستمعوا إليّ وألا تعاجلوني بحفنة تراب قبل أن أتم كلامي .. أيها الشباب طالما أرهقت نفسي في المطالبة بحقوقكم غير عابئ بالصعاب التي واجهتني.. وأنا من موقعي هذا أعدكم بتكثيف المفاوضات حتى يجلو المحتل عن أرضنا في أقر..(يصفعونه بحفنة فيمتلئ فوه بالتراب)

المختار : (في غطرسة) ماذا تريدون؟

يعرب : الثأر.

المختار : ممن؟

يعرب : منكم

المختار : هل تثأرون ممن يدافع عن حقوقكم؟

يعرب : أنتم الذين أضعتم حقوقنا.. سلمتمونا غنيمة باردة لأعداء مدينتنا.

المختار : نحن لم نسلمكم لهم.. نحن نفاوضهم حتى يخرجوا من مدينتنا بأقل الخسائر.

يعرب : أي الخسائر تقصد؟

المختار : الخسائر التي قد تلحق بالمدينة.

يعرب  : تقصد خسائرك وأذنابك.. أليس كذلك؟

المختار : (غاضباً) كيف تكلمني بهذه اللهجة؟.. هل نسيت من أكون؟!!

يعرب : (يقذفه بحفنة تراب) لم أنس يا سوط المحتل.

المختار : أنتم عملاء.

أحد الشباب : خسئت يا خنزير القاذورات!!

المختار  : كان الأولى بكم أن تتعاونوا معنا للتخلص من المحتل، بدلاً من استئسادكم علينا!

شاب آخر : نتعاون معكم للتخلص من المحتل أم لنكون عمّال جباية نقتص من قوت العباد ونقذفه في جوفكم الذي لا يملؤه إلا التراب؟!! (يقذفه بحفنة تراب)

المختاريغير لهجته) أيها الشباب.. أنتم أملنا جميعاً..ندرأ بكم في نحور العدو بسواعدكم نبني نهضة مدينتنا.. لقد قطعنا شوطاً طويلاً في المفاوضات فلا تضيعوا علينا فرصة تحرير مدينتنا وطرد اللصوص.

يعرب : (متهكماً) نحن نثمن حرصكم على تحرير مدينتنا يا معالي المختار، ونعدكم بأننا سنرسل لكم المحتل عما قريب لتكملوا المفاوضات في العالم الآخر.. لم يعد لدينا وقت لنضيعه معكم، فالأرض تريد التخلص من رجسها لتثور على المعتدين (يومئ لرفاقه فيهيلون التراب عليهم وهم يصرخون ويستغيثون)

ـ4ـ

"شجرة الزيتون الضخمة  حيث صومعة العابد، وقد اجتمع أهل المدينة بعد أن تسلحوا برماحهم وحرابهم ينتظرون لقاء الأعداء"

يعرب : أيها الرجل الصالح.. لقد نفينا خبثنا، وعدنا كنعانيين أقحاحاً، ووفينا بوعدنا فهل تفي الأرض بوعدها؟

العابد  : لا ريب في وفائها يا بني.. فدماء فلسطين قد غذت كل حي في أورسالم، وسيثأر لها كل من غذي من دمائها (ينظر في الأفق متهللاً) ربي لك الحمد.. إني أرى بوادر ريح عاصف؛ اللهم حوالينا ولا علينا(للناس) أسرعوا.. أسرعوا واجلسوا تحت أقدام شجرتي هذه (الجميع يهرعون إلى شجرة العابد ويحتمون بها.. صوت رياح عظيمة)

أحد الرجال : (يحدق في الأفق) أيها الناس.. إني أرى كبير اللصوص ورجاله مقبلين علينا.. هاهم يصارعون الريح والغبار.. إنهم أقوى من كل شيء.. أقوى من كل شيء!!

الناس : (تخاف وتهم بالهروب)

العابد  : (يصرخ فيهم) إني أحذركم.. إياكم أن تغادروا ظلال شجرة الزيتون هذه.. النار والسعير من خلف هذه الظلال.. انظروا.. ألا ترون الريح العاصف والغبار الهائج اللذين لن يفلح الأعداء في مقاومتهما.. إنها عاصفة الغضب.. أشهروا رماحكم. 

الرجل  : يا قوم.. زعيم اللصوص  يقترب.. الزعيم يقترب!!

يعرب : (ثائراً) لا تهلك الناس بحماقتك يا هذا!!

الرجل  : (متوتراً) لا عليكم من هذا الشاب المتهور.. إنه يريد هلاككم.. الزعيم سوف يقتل الجميع، لن يبقي ولن يذر!

أم فلسطين : كذبت ورب الأكوان وصدقت دماء ابنتي فلسطين فاليوم يوم الغضب.

الرجل  : أيها الناس من أراد النجاة فليتبعني (يجري ومن خلفه بعض الخائفين)

 (الناس يتابعون الأحداث من تحت ظلال الزيتونة.. الرياح والأعاصير والغبار الثائر يجعل الرؤية ضبابية.. الرجل الهارب هو ومن معه يلتقون كبير اللصوص فيقتلهم، ويمضي في طريقه يريد الناس تحت الشجرة)

العابد  : (يطمئن الناس، وهو يدعو وينظر في الأفق) انظروا .. هاهي أسراب الطيور تحوم فوق رؤوس الأعداء.. اشكروا الرب.

الناس : (تلهج بالشكر) شكراً للرب ..شكراًً للرب.

        (الطيور تحط على الأعداء وتنقر عيونهم ورؤوسهم .. الرياح تحرك أغصان شجر الزيتون والرمان فتمتد لتطيح بالأعداء يمنة ويسرة .. حبات الزيتون تهطل عليهم كالحجارة المسومة فتقتلهم .. بعد مدة تهدأ العاصفة ويصفو الجو، وقد قتل جميع الأعداء)

العابد  : يا ربنا لك الشكر على أن خلصتنا من هؤلاء الطغاة.

رجل : شكراً لك أيها العابد.. الفضل لك.. كل الفضل.

العابد  : الفضل للرب أولاً ثم لدماء فلسطين حورية بني كنعان؛ أما أنا فأدعو الله أن يتقبلني في اتباعها.. اشكروا أم الشهيدة.

الناس : شكراً لك يا أم فلسطين.

أم فلسطين : الشكر للرب الذي ألهمني بث دماء الحورية في النهر، لتكون حرباً على كل معتد إلى اليوم الآخر.

يعرب : لابد من تكريم فلسطين الشهيدة.

شاب   : كيف نكرمها، إنها أكبر من كل قيمة؟

يعرب : نحن مقبلون على عهد جديد، وحياة جديدة.. لمَِ لا نغير اسم مدينتنا من أورسالم إلى فلسطين تيمناً باسم الشهيدة، ووفاء لروحها الطاهرة؟

العابد  : نعم الرأي.. ما رأي القوم؟

الناس : الرأي ما ذهبتم إليه أيها الرجل الصالح.

العابد  : إذاً سيكون اسم مدينتنا بدءاً من اليوم فلسطين،لتكون سيرتها ماثلة في ذاكرتنا نورثها الأجيال، نقاوم بها كل من أرادنا بسوء، وندرأ بدمها الزكي في نحره.. أيها الناس عودوا إلى حقولكم.. افلحوا أرضكم واسقوها من نهر تعطر بدماء حورية بني كنعان؛ لتنمو ثماركم عليه وتنبت لحومكم ولحوم ذراريكم على العزة والكرامة.

الناس : يغادرون شجرة العابد وهم يغنون أهازيج الحصاد، ويغنون لمدينتهم الجديدة..فلسطين..

ستار