مصرع كعب

عبد الله الطنطاوي

مسرحية من فصل واحد

   عبد الله الطنطاوي      

[email protected]

المشهد الأول

"في منزل محمد بن مسلمة في المدينة المنورة.

ابن مسلمة ومعه ثلاثة من أصحابه هم: أبو نائلة وعبّاد بن بشر، وحارث بن أوس."

ابن مسلمة: يبدو أنكم لم تسمعوا بما قام به كعب بن الأشرف، في رحلته الأخيرة إلى مكّة.

أبو نائلة: أنا سمعت أنه سافر إلى هناك، والتقى أبا سفيان بن حرب وزعماء مكة، ولكني لا أعرف ما قام به كعب.

عبّاد: وهل عند كعب غير الفتن؟

ابن مسلمة: ذهب إلى مكة، ليحرّض المشركين على المسلمين، ويؤلّبَهم لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحارث: لم تأت بجديد يا ابن مسلمة.. فكعبٌ يحرّض العرب المشركين، ويغريهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين.. هذا دأبه في كل مكان وزمان..

أبو نائلة: لابدّ أنه أسمع المشركين ما نظمه في رثاء قتلاهم في بدر..

ابن مسلمة: لقد أسمعهم شعره، وأثار حفائظهم بقوله: لم يعد للحياة معنى بعد مصرع أبي الحكم وعتبة وشيبة والوليد.. صار بطن الأرض خيراً من ظهرها بغياب أولئك الأبطال..

أبو نائلة (في سخرية): أبطال؟!.. كم أنت حزين عليهم يا كعب!..

الحارث: إنّ الحقد يأكل قلبه.. يحرق أعصابه.. يجري سمّاً زُعافا ًعلى لسانه وفي شعره.

أبو نائلة: لابدَّ أنّ هنداً حضرت لقاء كعب مع زوجها أبي سفيان.

ابن مسلمة: وكانت أشدّهم إثارة للأعصاب والأحقاد، وكان اليهودي اللئيم كعب في غاية السرور وهو يراها تنتحب وتدعو إلى الثأر..

كان كعب يؤيّدها ويقول بصوته الأجش: لابدّ من الثأر.. ولابدّ من الإعداد والاستعداد للمعركة الفاصلة التي تقضي على محمد ودينه وعلى المسلمين..

أبو نائلة: يا ويحه.. كم سمعتُ منه أنَّ النبيَّ المُنتظر قد أظلَّ زمانُه، وأنَّ ذلك النبيّ سيكون من العرب، وأنّه وقومه يهود سوف يؤمنون به، ويقاتلون العرب تحت لوائه..

الحارث: كلُّنا سمعنا من يهود مثل مقالته هذه..

أبو نائلة: وعندما جاءهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، كفروا به وجحدوه وتآمروا عليه وحاربوه..

الحارث: دعونا مما نعرف عن يهود، وأسمعونا عن رحلة هذا الباغي ابن الأشرف.

ابن مسلمة: لقد وعدَ زعماءَ مكة، بأن يطوف على القبائل العربية، ويدعوها إلى حرب النبيِّ الكريم وصحبه، كما وعدهم بتأليب يهود وتحريضهم على الغدر وقتال المسلمين.

أبو نائلة: سمعتُ أن الفتنة التي أحدثها هنا في المدينة كبيرة، حتى صار بعض المنافقين يتجرؤون على المسلمين، ويتقوَّلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبشّرون بعضهم بعضاً بقرب الخلاص من الإسلام، ويهزؤون بآيات الله تعالى.

الحارث: هذا عدا ما يقوم به من تشبيب بالنساء المسلمات العفيفات الطاهرات، ومن هجاء النبي الكريم وأصحابه..

أبو نائلة: ومع ذلك، لا نحرّك ساكناً تجاه ذلك الشاعر الفاجر.

ابن مسلمة: ولكنه أخوك يا أبا نائلة..

أبو نائلة: إنه أخي من الرّضاعة.. وأنا لا أعترف على أخٍ كافر يعادي اللهَ ورسولَه والمسلمين، حتى لو كان شقيقي، ابن أمي وأبي.

"صوت قرعٍ على الباب..

محمد بن مسلمة ينهض لفتح الباب.."

ابن مسلمة: من الطارق؟

صوت أبي عبس: افتحْ يا أبا عبد الرحمن.. أنا أبو عبس بنُ جَبْر.

أبو نائلة: افتحْ له يا أبا عبد الرحمن، فهو ممن يحبّون اللهَ ورسوله، ويفتدون النبيَّ بالغالي والنفيس.

صوت أبي عبس: افتحْ يا رجل..

ابن مسلمة (وهو يفتح الباب): أهلاً بك يا أبا عبس..

أبو عبس: لماذا تأخرتم في فتح الباب؟ هل لديكم أسرار تخبِّئونها عليّ؟

ابن مسلمة: معاذَ الله يا أبا عبس.. تفضّل.. تفضّل.. كنتُ سأرسل في طلبك..

أبو عبس (منفرج الأسارير): السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

الجميع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..

الحارث: مالك تقرع الباب بهذه الشدّة يا أبا عبس؟

أبو عبس: لأبلّغكم ما حدث اليوم في المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا.

الحارث: هل من فتنة جديدة لابن  الأشرف ؟

أبو عبس: إنها اليوم فتنة من شاس.

الحارث: اليهودي؟

أبو عبس: وهل هناك شاس آخر؟ اليهودي طبعاً.

أبو نائلة: ماله؟ ماذا فعل هذا اليهودي الحقير أيضاً؟

أبو عبس: جلس إلى جماعة من الأوس والخزرج، وصار يذكّرهم بيوم بُعاث، وينشدهم ما قيل فيه من أشعار، حتى تسابَّ القوم، وتنادَوْا إلى السلاح.

ابن مسلمة: أعوذ بالله .. وبعدها؟

أبو عبس: أسرع بعض المسلمين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما حصل.

الحارث: ثمّ ؟

 أبو عبس: فما كان من رسول الله إلا أن يسرع إليهم، ويقضي على الفتنة في مهدها.

الجميع: الحمد لله.

ابن مسلمة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ..كم تلاقي من الألاقي من هؤلاء اليهود.

الجميع: لعنة الله عليهم.

الحارث: هؤلاء اليهود فاسدون بالفطرة، مفسدون أينما حلُّوا.. لا همَّ لهم سوى الفساد والإفساد وزرع الفتن.

ابن مسلمة: اسمعوا يا قوم..تذكرت.

أبو عبس: ماذا تذكرت يا أبا عبد الرحمن؟

ابن مسلمة: عندما كان كعب بن الأشرف في مكة، حضر شاس هذا لقاءه مع زعماء مكة، وقد أخذ على عاتقه أن يزرع الفتن بين المسلمين، ويفرِّق صفَّهم.

أبو نائلة: تعرف هذا وتسكت يا أبا عبد الرحمن ؟

ابن مسلمة: كنا نراقبه، لنعرف ما سيصنع ذلك الخبيث.. وكنتُ أظنّ أن مجتمع المسلمين في المدينة، عصيٌّ على الفتن.

أبو نائلة: معنى هذا..أن عمل شاس كان من تدبير كعب.

ابن مسلمة: والنبيُّ الكريمُ صلى الله عليه وسلم.

الجميع: صلى الله عليه وسلم .

ابن مسلمة (متابعاً): يعرف هذا، حتى امتلأت نفسه بالمرار من ذاك اليهوديِّ الخبيث الذي لا يتوانى عن حرب الإسلام والمسلمين بشتى الطرق والوجوه.

أبو نائلة: الرسول الكريم-بأبي هو وأمي- يعاني ما يعاني من ابن الأشرف، ونحن جالسون، وكأننا نستمتع بما يجري؟

ابن مسلمة: وماذا عسانا أن نفعل يا أبا نائلة؟

أبو نائلة: نقتله ونريح النبيَّ منه ونستريح.

ابن مسلمة: وهذا ما جعلني أدعوكم اليوم من أجله.. هذا ما دعوتكم من أجله.

أبو نائلة: لقتل كعب؟

ابن مسلمة: أجل..

أبو نائلة: هل استشرت في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

ابن مسلمة: بل إن النبيّ الكريم هو الذي طلب ذلك.

أبو نائلة: كيف؟

ابن مسلمة: لقد طفح الكيل،فتمنّى رسول الله لو ينهض من يقتل كعباً.

أبو عبس: معذرة يا جماعة.. أنا لا أعرف شيئاً عن رحلة ذلك الكافر إلى مكة، فهل تحدثوني عنها أولاً؟

الحارث: حدّثنا أبو عبد الرحمن عنها قبل مجيئك، ولكن حديثه كان موجزاً..

أبو نائلة: ولكنه كان مركَّزاً.. وهذا يكفي لأذهب وأستلّ روح كعب من بين جنبيه.

ابن مسلمة: لا بأس..سأحكي لكم ما سمعت عن رحلة ذلك الملعون كعب..

*         *         *

المشهد الثاني:

"في منزل أبي سفيان في مكة المكرمة..

أبو سفيان ومعه بعض زعماء قريش يرحّبون بكعب بن الأشرف وبصاحبيه اليهودي شاس واليهوديّ الآخر: حُيَيِّ بن أخطب.."

أبو سفيان: مرحباً بالحليف الصديق، والفارس الشاعر.. أهلاً بكعب بن الأشرف، زعيم يهود، وصديق قريش، وعدوّ محمد والمسلمين.

كعب: أهلاً بك يا أبا سفيان.. يا زعيم قريش، وصديق اليهود، وعدوّ محمد والذين آمنوا معه.

أبو سفيان: بلغتنا مقالتك عندما بلغك مصرع بعض صناديد قريش في معركة بدر.

كعب: قلتها، وما زلت أقولها.. بطن الأرض خير من ظهرها.. أجل يا أبا سفيان. صار بطن الأرض خيراً من ظهرها بمقتل أبي الحكم وعتبة وشيبة والوليد وأميّة وغيرهم من أبطال العرب المغاوير.

أبو سفيان: وسمعنا أنك –يا كعب- قلت شعراً في رثاء أبي الحكم وأصحابه..

كعب: أجل يا أبا سفيان.. قلت فيهم شعراً سوف تسير به الركبان.

أبو سفيان: هلاّ أسمعتَنا ما قلتَ يا كعب؟

كعب: حبّاً وكرامة.. ولسوف تراني قلتُ الكثير.. رثيتُ زعماءَ العرب وأصحابهم الأبطال الذين غدر بهم محمد والمسلمون، وهجوتُ محمداً وأصحابه، وشبّبْتُ بالنساء المسلمات، وآذيتُ أزواجهنَّ بذلك..

أبو سفيان: هاتِ هاتِ أسمعنا يا كعب، فقد شوَّقتنا واللات.

"تدخل هند زوج أبي سفيان، وتقبل على كعب مرحّبة.

"وينهض كعب وأبو سفيان والجالسون".

هند: عمْ مساءً يا سيد يهود..

كعب: عمي مساء يا سيدة نساء قريش، بل سيدة نساء العرب، وزوج سيد قريش.

أبو سفيان: اجلسي يا هند، لتسمعي ما نظمه كعبٌ في رثاء أبطالنا في بدر.

هند: ما لهذا جئت.. فدعونا من الشعر، وقل لنا يا كعب: ماذا تفعل لحرب محمد والمسلمين؟

كعب: أعدُّ العدّة لحربهم.

هند: كيف؟

كعب: لقد طِفت على حصون يهود، وعبأتهم جميعاً لحرب محمد، وإن كانوا لا يحتاجون إلى تعبئة.

هند: لم تفعل شيئاً يا كعب، فيهود لا يحتاجون إلى من يعبئهم ضدّ محمد، كما قلتَ.

كعب: وقد قررت أن أطوف على القبائل العربية، لأحرّضها على حرب محمد.

هند: هذا عظيم.. عظيم يا كعب..

كعب: وأنتم؟ ماذا فعلتم لتثأروا لأبطالكم الذين قتلهم محمد؟

أبو سفيان: نحن نستعد.. ولسوف يرى محمد ما لم يره ويسمع به من قبل.

هند: وسوف ترى يا كعب ما سنفعله بمحمد والذين صبؤوا معه.. سيكون انتقامنا رعيباً يا كعب..

كعب: ونحن معكم.. كل يهود معكم.. وعبد الله بن أبيّ وأصحابه معكم.. يجب أن نجتثّ محمداً ودينه وأصحابه من الجذور.. يجب أن نتركهم أحاديث يسمر بها العرب ويتسلَّون.

هند: هكذا إذن يا كعب؟!

كعب: هكذا إذن يا سيدة العرب.

أبو سفيان: أناشدك الله يا كعب أن تصدقني، فأنتم –معشرَ يهود- تعرفون غير ما نعرف.

كعب: تفضل يا سيد قومك..

أبو سفيان: أديننا أحبُّ إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟

كعب: بل دينكم يا أبا سفيان.

أبو سفيان: عظيم.. وأيُّنا أهدى سبيلاً وأقرب إلى الحق يا كعب؟

كعب: أنتم –معشر قريش- أهدى سبيلاً، وأقرب إلى الحقّ من محمد ودينه.

أبو سفيان: صدقت يا كعب.. فنحن نطعم الجَزور الكَوْماء، ونسقي اللبن على الماء، ونطعم ما هبّت الشمال.

شاس: هل نسيتم دوري في هذه المعركة؟ أم أنكم لا تعرفون ما يمكن أن يفعله شاس؟

هند: وما دورك يا صديق قريش؟

شاس: سوف أسعى لتمزيق صفوف المسلمين.

هند: كيف؟

شاس: هذه مهمتي، وسوف تسمعون عنها الكثير..

هند: أنا أعرف.. سوف تثير النار من تحت الرماد، فيقتتل الأوس والخزرج من جديد.

شاس: هذه واحدة.. وسوف تكون لي جولات وصولات، وسوف تأتيكم أخبار تسرُّكم.. أنا شاس.. أنا شاس..

*      *      *

المشهد الثالث:

"عودة إلى منزل محمد بن مسلمة، كما في المشهد الأول".

ابن مسلمة: لقد سمعتَ كلامي عن شاس وتآمره مع أبي سفيان يا أبا عبس..

أبو عبس: أعوذ بالله من شرور أولئك الشياطين.. ما أحقدهم على الإسلام وعلى نبيّ الإسلام وعلى المسلمين..

ابن مسلمة: ولهذا، فإنّ كعباً لم يغادر مكة المكرمة حتى ألّب قريشاً على قتال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم.. بقي فيها شهراً كاملاً لهذه الغاية الخبيثة الخسيسة.. وعندما قال كعب ما قاله من تفضيل الوثنية على الإسلام، أنزل الله تعالى في يهود قوله الكريم: "ألمْ ترَ إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجِبتِ والطاغوت، ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً. أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن اللهُ فلن تجد له نصيراً."

أبو نائلة: وعندما عاد كعب إلى المدينة المنوّرة، أعلن عداوته لرسول الله وللمسلمين، وانطلق يحرّض اليهود والمشركين والمنافقين على حربهم، حتى ضاق به النبيُّ الكريم، ودعاك إلى قتله يا أبا عبد الرحمن.. أليس كذلك؟

 ابن مسلمة: بلى يا أبا نائلة.. فقد قال النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم: من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى اللهَ ورسوله.

أبو نائلة: فأجبتَ الرسول الكريم إلى ما يريد.

ابن مسلمة: وقلت: يا رسول الله. أتحبُّ أن أقتله؟

أبو عبس: وماذا كان جواب النبيّ يا أبا عبد الرحمن؟

ابن مسلمة: فقال: نعم.. أريد أن تقتله إذا قدرت.

الحارث: وماذا فعلت من أجل قتل كعب يا أبا عبد الرحمن؟

ابن مسلمة: قلت للنبي الكريم: فأذَنْ لي أن أقول شيئاً.

الحارث: ما معنى كلامك هذا يا أبا عبد الرحمن؟

ابن مسلمة: معناه: أنني طلبتُ من النبيِّ الكريم أن يسمح لي بأن أتظاهر بالعداوة له وللإسلام، حتى أتمكّن من عدوّ الله كعب.

أبو عبس: على مبدأ: الحرب خدعة.

أبو نائلة: وهل أذن لك الرسول الكريم بذلك يا أبا عبد الرحمن؟

ابن مسلمة: أجلْ.. أذن لي بذلك، وقال: قل..

الحارث: يعني: قل ما بدا لك، فأنت في حلٍّ من ذلك..

ابن مسلمة: أجل.. أذن لنا الرسول الكريم أن نقول غير ما نعتقد، من أجل التمكّن من قتل كعب بن الأشرف.

أبو نائلة: من هنا نبدأ في وضع خطّتنا لقتل عدوّ نفسه كعب.

ابن مسلمة: ومنك يا أبا نائلة.. فأنت أخوه من الرّضاع، وتستطيع أن تفعل ما لا نستطيع.

أبو نائلة: لك عليَّ عهد الله أن أنيلك منه يا أبا عبد الرحمن.

ابن مسلمة: والآن نضع الخطة..

*     *     *

المشهد الرابع

"في حصن كعب بن الأشرف.. الوقت ليل..

كعب جالس مع زوجته، فيسمع صوت أبي نائلة يناديه من تحت الحصن".

صوت أبي نائلة: يا كعب.. أنا أبو نائلة يا كعب..

كعب (بصوت عالٍ): اصعد يا أبا نائلة.. سأفتح لك الباب حالاً.

(ينهض كعب ويفتح باب الحصن ثم يعود ومعه أبو نائلة)..

كعب: أهلاً بك يا أخي يا أبا نائلة..

أبو نائلة: أين أنت يا رجل؟ لم نرك منذ زمن.

كعب: اجلس يا أبا نائلة، فأنت في بيتك.

أبو نائلة (وهو يجلس): شكراً لك يا كعب..

كعب: أراك تلهث يا أبا نائلة.. هل ألقى عليك الزمان ظلاله القاتمة؟

أبو نائلة: أجل يا كعب.. وهذا ما دفعني إليك.

كعب: قل يا أبا نائلة.. ماذا تريد؟

أبو نائلة: أنت ترى رثاثة حالي، وهي تنبئك عن حاجتي، وضيق ذات يدي.

كعب: معذرة يا أبا نائلة، إذا صارحتُك.

أبو نائلة: قل يا كعب، فليس من يسمع كلامك سواي وسوى زوجتك هذه.

كعب: كل هذا بسببِ.. بسببِ..

أبو نائلة: بسبب متابعتي لمحمد.. أعرف هذا.. ألستَ تقصد هذا يا كعب؟

كعب: هذا ما أردته يا أبا نائلة.

أبو نائلة: وهذا ما جئتك من أجله.

كعب (متهللاً): هل أدركتَ خطأك باتّباعك محمداً يا أبا نائلة؟

أبو نائلة (يهزّ رأسه وهو مطرق خجلاً): لقد أدركت خطئي يا أخي.. أنا أعترف بخطئي..

كعب: وماذا قررت؟

أبو نائلة: قررت الاعتراف بخطئي.. وها أنذا أعلن توبتي ورجوعي عن دين محمد أمامك..

كعب (في فرح): وحدك يا أبا نائلة؟

أبو نائلة: بل معي بعض أصحابي، ممن عرفوا أن ما نزل بهم من ضيق ذات اليد، إنما كان بسبب محمد.

كعب: وهل يعرف وضعكم هذا أحد؟

أبو نائلة: لا.. لا نستطيع المجاهرة بترك محمد ودينه.

كعب: عظيم.. عظيم.. ابقوا هكذا.. لا ينبغي لأحد أن يعرف وضعكم الجديد هذا.

أبو نائلة: ولا نريدك أن تذكر وضعنا هذا أمام أحد.

كعب: طبعاً لن أذكره، وإلا أفسدْنا كلَّ شيء.

أبو نائلة: والآن.. نريد أن تبيعنا أنا وأصحابي طعاماً.. وَسْقاً أو وَسْقين لكلٍّ منّا.

كعب: لكن.. لابدّ من الرهن يا أبا نائلة.

أبو نائلة: ولكنني أخوك، وأنا أضمن لك أصحابي.

كعب: ومن يضمنك أنت يا أخي يا أبا نائلة؟

أبو نائلة: أخوّتنا..

كعب: هيهات..

أبو نائلة: وعداوتنا لمحمد ودينه..

كعب: لكل مقام مقال يا أبا نائلة.. لابدَّ من الرهن..

أبو نائلة: ماذا تريد أن نرهنك إياه؟

كعب: أرهنوني نساءكم..

أبو نائلة: ويحك يا كعب.. ماذا تقول؟

كعب: لقد سمعتَ ما أقول.

أبو نائلة: ولكن.. كيف نأمنك على نسائنا، وأنت أجمل العرب؟

كعب: إذن.. أرهنوني أبناءكم..

أبو نائلة: وكيف نرهنك أبناءنا، فيُسبَّ أحدُهم ويُعيَّرَ بأنه رُهن بوسْقٍ أو وَسْقين؟ لا.. هذا عار علينا ولا نرتضيه..

كعب: إذن.. ماذا ترهنونني؟ ماذا بقي عندكم حتى ترهنوني إياه؟

أبو نائلة: السلاح..

كعب (في دهشة): ماذا تقول؟

أبو نائلة: نرهنك سلاحنا..

كعب (وقد سُرّي عنه): آ.. فهمت.. ترهنونني أسلحتكم.

أبو نائلة: ماذا تقول؟

كعب: قبلت..

أبو نائلة: ومتى نعود إليك يا أبا سعيد؟

كعب: في الوقت الذي ترغبون.

أبو نائلة: نأتيك غداً، بعد أن نأمن أصحاب محمد.

كعب: لا بأس.. أنا في انتظاركم..

أبو نائلة: طابت ليلتك يا أبا سعيد..

كعب: طابت ليلتك يا أبا نائلة.

أبو نائلة: إلى اللقاء..

كعب: إلى اللقاء مع صحبك يا أبا نائلة..

*       *      *

المشهد الخامس

"في منزل محمد بن مسلمة.. ابن مسلمة وأصحابه الأربعة، كما في المشهد الثالث".

ابن مسلمة: ضحكتُك العريضة يا أبا نائلة، تشي بتوفيقك.

أبو نائلة (باسماً): الحمد لله.. استطعت أن أخدع عدوَّ الله.

عباد: كيف؟

أبو نائلة: حسب الخطة التي اتفقنا عليها..

الحارث: وصدّقك؟

أبو نائلة: كاد يطير من الفرح، وأنا أحدّثه عن انصرافنا عن الإسلام وعن محمد رسول الله.

الجميع: صلى الله عليه وسلم..

أبو عبس: ثم ماذا يا أبا نائلة؟

أبو نائلة: اتفقت معه على أن نذهب إليه ليل غد، بعد أن ينام الناس، ومعنا أسلحتنا..

عبّاد: طبعاً ستكون معنا أسلحتنا.. أم تريدنا أن نخنقه بأيدينا؟

أبو نائلة (مبتسماً): ستكون معنا أسلحتنا لنسلّمه إياها رهائن.

أبو عبس: رهائن عن ماذا؟

أبو نائلة: عن الطعام الذي سيُسلِفنا إياه.

أبو عبس: أيَّ طعام يا رجل؟

ابن مسلمة: هل كنتَ نائماً عندما وضعنا الخطة يا أبا عبس؟

أبو عبس (ضاحكاً): نسيت.. لقد أنساني ذكرُ الشيطان ابنِ الأشرف، ما كنّا اتفقنا عليه.

ابن مسلمة: ولكنك لن تنسى أن تشحذ سيفك جيداً يا أبا عبس.

أبو عبس: سوف أسهر على سنّه وشحذه، ليكون بتّاراً يقطّع عدوَّ الله إرْباً إرْباً.

أبو نائلة (ينهض): والآن.. دعونا نذهب، ولقاؤنا غداً بعد صلاة العشاء في هذا البيت إن شاء الله.

ابن مسلمة: لا أريد أن أوصيكم بالتكتم على ما اتفقنا عليه..

الجميع: إن شاء الله.

(ينهضون)..

أبو نائلة: ألا نخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان؟

ابن مسلمة: سوف نذهب معاً.. أنت وأنا يا أبا نائلة، لنخبر النبيَّ الكريمَ.

الجميع: صلى الله عليه وسلم..

ابن مسلمة (متابعاً): بما تمّ.

(يخرج عباد بن بشر وأبو عبس بن جبر والحارث بن أوس، ويبقى أبو نائلة مع محمد بن مسلمة في البيت).

ابن مسلمة (يهجم على أبي نائلة معانقاً): دعني أعانقك يا أخي يا أبا نائلة، فقد أرختَ همّاً كالجبال كان على عاتقي.

أبو نائلة: لماذا كلُّ هذا الهمّ يا أبا عبد الرحمن؟

ابن مسلمة: كنت أخشى أن لا أتمكّن من الوفاء بوعدي لرسول اللهِ.

الجميع: صلى الله عليه وسلم..

ابن مسلمة (متابعاً): بقتل ابن الأشرف، لِما تعرف من امتناعه في حصنه وبين قومه اليهود..

أبو نائلة: والآن؟

ابن مسلمة: أكاد أرى مصرعه.. أراني أحتزُّ رأسَه، لأحمله إلى سيّدي رسول الله صلى الله عليه وسلم..

أبو نائلة (كالساهم): صلى الله عليه وسلم..

ابن مسلمة: فلطالما آذى رسول الله، بأبي هو وأمّي.. لقد آذاه كعبٌ كثيراً يا أبا نائلة.

أبو نائلة: لعنة الله عليه من طاغية أثيم..

ابن مسلمة: والآن.. هيّا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

*      *      *

المشهد السادس

"الوقت بعد منتصف الليل – محمد بن مسلمة وإخوانه الأربعة بلصق حصن كعب بن الأشرف".

أبو نائلة: هاقد وصلنا إلى حصن كعب.

ابن مسلمة: اسمع يا أبا نائلة.. اسمعوا كلّكم..

أبو نائلة (في همس): أنا أسمعك يا أبا عبد الرحمن.

ابن مسلمة: أنت تنادي كعباً، ويكون ابنُ عمّك عبّاد بن بشر معك يا أبا نائلة.. وأنت يا حارث وأنا نكون على يمين باب الحصن.. وأنت يا أبا عبس تكون على شمال باب الحصن..

عبّاد: سوف يرانا في هذه الليلة المقمرة.

ابن مسلمة: لا يهمّ.. المهمُّ أن نضع فيه سيوفنا، فلا ينبو عنه سيف واحد بإذن الله.

الجميع: إن شاء الله.

ابن مسلمة: هيّا ليأخذ كلٌّ منّا مكانه..

(يتحركون بهدوء حسب تعليمات ابن مسلمة).

ابن مسلمة: نادِه يا أبا نائلة..

أبو نائلة (ينادي): يا كعب.. انزِلْ إلينا يا أبا سعيد.. أنا أبو نائلة..

صوت كعب: أهلاً بك يا أبا نائلة.. هل جاء معك أصحابك؟

أبو نائلة: أجل يا أبا سعيد.. ونحن في انتظارك..

صوت كعب: أنا قادم إليكم..

أبو نائلة: لا تتأخر.. فقد تأخّر الليل.

صوت زينب زوجة كعب: لا تنزل إليهم يا حبيبي.

صوت كعب: لابدَّ من نزولي يا زينب.. أنا على موعد معهم..

صوت زينب: اسمعْ منّي يا أبا سعيد.. لا تنزل إليهم..

صوت كعب: لماذا يا زينب؟ ماذا جرى لك يا ابنة العم؟

صوت زينب: والله إني لأسمع صوتاً يقطر منه الدم..

ابن مسلمة: هل تسمع يا أبا نائلة؟

أبو نائلة: أخشى أن لا تتركه ينزل إلينا..

ابن مسلمة: حُثّه على النزول يا أبا نائلة..

أبو نائلة (صائحاً): أين أنت يا أبا سعيد..

صوت كعب: أنا قادم إليكم.. دعيني يا امرأة، ولا تفضحيني عند أصحابي.

صوت زينب: إنهم ليسوا أصحابك.. إنهم أصحاب محمد..

صوت كعب: كانوا...

صوت زينب: وما زالوا..

صوت كعب: أنتِ لم تفهمي حديث أبي نائلة..

صوت زينب: بل سمعتُه وفهمته.. وأنا الآن أسمع صوتاً يقطر منه الدم.. فأبقِ على نفسك يا كعب، وقل لهم من هنا أن يأتوك في النهار.

صوت كعب: لا يستطيعون.. عندئذ يُفتضح أمرُهم يا زينب، ويقتلهم محمد..

صوت زينب: إذن.. ليخرج معك بعض أصدقائك..

صوت كعب: لا أستطيع.. ما بيننا سرٌّ لا ينبغي أن يطّلع عليه أحد..

صوت زينب: اسمعْ مني ما أقوله لك يا حبيبي..

صوت كعب: لا أستطيع.. يخافون من محمد إذا علم بذلك..

صوت زينب: طمئنهم..

صوت كعب: لا يأمنون إفشاء سرّهم..

أبو نائلة (صائحاً): هل نذهب يا كعب؟

صوت كعب: بل أنا قادم إليكم فوراً..

(كعب يفتح باب الحصن ويخرج إليهم، تفوح منه روائح المسك والعنبر).

كعب: أهلاً بك يا أبا نائلة..

أبو نائلة: خشيت أن لا تنزل، حتى فكّرتُ وأصحابي بالعودة إلى بيوتنا.

كعب: أين أصحابك يا أبا نائلة؟

أبو نائلة: (يشير إلى يمين الباب) هذا ابن عمي عباد بن بشر..

كعب: أهلاً بك يا عبّاد..

أبو نائلة: وذاك محمد بن مسلمة.

كعب: لطالما انتظرتك يا أبا عبد الرحمن، فقد أفسدك محمد علينا.

ابن مسلمة: ها قد عدنا نادمين يا أبا سعيد..

(يقترب ابن مسلمة من كعب)

ابن مسلمة: الله.. ما هذا العطر يا أبا سعيد؟

كعب: سوف تنال منه الكثير يا أبا عبد الرحمن، بعد أن ننتهي من محمد ودينه، وتعود المياه إلى مجاريها فيما بيننا..

ابن مسلمة: هاتِ رأسك لأشمّ هذا العطر الذي افتقدتُه طويلاً يا أبا سعيد.

كعب (وهو يقدّم رأسه لابن مسلمة): كلّ هذا بسبب محمد.

ابن مسلمة (وقد أمسك بشعر كعب): دونكم عدوَّ الله فاقتلوه.

(تنزل السيوف على كعب، فيصرخ كعب صرخة مدوّية، ثم يسقط متخبّطاً بدمائه.. ابن مسلمة يحتزُّ رأسه، ويأخذه معه، وينصرف مع إخوانه بسرعة).

ستار