مِن لَيالي القَاهِرةِ

حسين العفنان ـ حائل الطّيبة

[email protected]

(1)

( يتجلى قصر أمير مصر المهاب ( أحمد بن طولون التركي) والدنيا تطوقه بنعيمها ورغدها وجمالها وجلالها ، والجنود الأشداء يضعون عيونهم وقلوبهم على مخارجه ومداخله..)

( وتظهر حجرة الأمير الرحيبة ، وقد أرخيت ستائرها ، واحتواها الليل تحت جناحه ، فهربت منه إلى الشمعدانات البديعة المضيئة ، علها تقاوم ثقله وصمته..)

(وفي وسط الحجرة سرير فخم ، مكسو بلين البسط والفرش ، يزين صدره وسائد بيضاء ، ونمارق فاخرة ، ،ويُرى الأمير أحمد وهو جالس على طرفه وقد انتشر فيه الخوف والقلق وأمامه زوجه وقفت باكية وقد فر النوم من عينيها..)

زوج الأمير : ( وقد مالت عليه مرتعشة) : مـا...مالك...مالك أيها الأمير لقد أرعبتني!! و قلعت النوم من عيني ..؟!

الأمير أحمد : ( دون أن ينظر إليها) : هـه ...هـه...أفزعني نهره وزجره..!!

زوج الأمير : من نهرك وأفزعك ؟! من..!

الأمير أحمد : (يحتبس كلامه ويومئ إليها أن تسقيه )

زوج الأمير : ( بارتباك ) إنا لله وإنا إليه راجعون..( تجلب له كوبا باردا ، تناوله إياه )

الأمير أحمد : ( يتناول الماء دون رغبة ، يشرب ..) الحمد لله ..( يشرد قليلا ) من هؤلاء ماذا يريدون ؟!

زوج الأمير : سألتك بالله أيها الأمير، إلا أخبرتني ما أفزعك؟! ومن هؤلاء الذين تتمتم بهم؟!...

الأمير أحمد : ( بهدوء ) لا تخشي شيئا ـ أيتها الأمير ـ فالأمر لا يستدعي كل هذه الجلبة...

زوج الأمير : كيف ؟! والله مالي طاقة حِمل، ولا قدرة صبر!! هذه ليست المرة الأولى التي تفزع فيها من نومك !!

الأمير أحمد : لا تبتئسي ..ليس هناك أمر ذا بال !!( ينهض من سريره ، ويطل من النافذة ) حتى في خلوتي ومخدعي تهرب أيها النوم ، ما أضعف الإنسان ولو كان ملكا..( يطرق ) لكنّ أمرهم عجيب ؟!

زوج الأمير : ( تدرك حالته وقلقه ) لا تهتم دعك من هذا ( تحاذيه والنسيم يداعبهما ) من يجرؤ على سيد مصر وعزيزها ( تمسك يده بحنان ) انظر تحتنا الحرس كلهم عيون على راحتك وسعادتك..

الأمير أحمد : ( يبعد يدها بلطف ، وهو سعيد بكلامها) وما يغني البشر عن البشر ، هذا الرجل الذي رأيته في منامي ، لم يأبه بمنعتي ، تجاوز كل هذه الحدود ، واغتالني هنا..

زوج الأمير : ( وقد شدها كلامه وأخافها ) هي خير إن شاء الله ! وغمة ستنجلي... (بخضوع ) صحتك أولى..لا تبتئس بهذه الكوابيس..!

الأمير أحمد : (شاردا) سمعته إنه رجل مهيب النبرة....يقول : قم ..( يصمت..) صوته الغليظ قد اجتث النوم من عيني، وكأنه سوط ناري مس ظهري...

زوج الأمير : ( بوجل ) ثم ماذا!!

الأمير أحمد : ( لا يلتفت إليها ) أريد كبير الحرس..أريد كبير الحرس..( يخرج )

 (2)

( غرفة حقيرة..تكاد تكون عارية من البسط...وصاع خال من الشعير وجرة صغيرة في إحدى زواياها..وقد علق على الجدار المقابل لهما عمامة نظيفة..وأربعة شبان قد بدا عليهم الهم..يجلسون في الوسط..)

محمد بن هارون : أمرُنا ـ والله ـ قد رق! فالجوع حصرنا في هذا المنزل، وقيد خطواتنا!

محمد الطبري : واه كم شُرح من درس! وكم نوقشت من مسألة! ..( بحرقة )..إني والله أكاد أطيش،حين أرى طلاب العلم، وهم يروحون ويغدون،حاملين الكتب والدفاتر..!!

محمد بن نصر ( بتماسك ) : لنثق بالله عز وجل...ولنبحث عن مخرج..!

محمد بن خزيمة : وهل التباكي يقوي النفس الذابلة، ويملأ المعدة الخاوية، نحن لم نأت القاهرة للهو، وإنما ضربنا الأرض للعلم ، فلا بد من إتمام هدفنا ، وإلا فالرحيل!!

( صمــت )

محمد بن نصر ( بتردد) لكن ليس في أيدينا قبل أن نطرد من هذا المكان إلا أن نسأل الناس..!

الجميع : ( باستنكار ) نسأل الناس..!!

محمد بن نصر : ( محرجا ) نعم...نعم... لا حيلة ! فأنتم تعلمون أننا في ضائقة ، وربما سنهلك من الجوع، فقد أُحلّ لنا ما حُرم ،والعمل لا نطيقه وهذه حالنا، فهو يطلب جهدا مضاعفا، ولن نجد وقتا لمراجعة الحفظ ولا لكتابة المسائل...فيضيع منا كل شيء !!

محمد بن هارون : ( بصوت جهوري ) لهلاكنا هنا أحبّ إلينا من أن نريق ماء وجوهنا!!

الجميع : .........

محمد الطبري : ( يقف ) من الخير أن ندفع أحدنا ، ليحفظ كرامة الباقين!

محمد بن خزيمة : ( بوجل ) من سندفع؟!

الجميع : (تظهر عليهم الحيرة والخوف)

محمد الطبري : لا حل سوى القرعة ..

محمد بن نصر : رأي صائب..لعلها تنهي هذا التردد ( يبدأ بعمل القرعة ، والجميع ينظرون إليه بصمت والرعشة تملأ أجسادهم)

محمد بن نصر : ( متألما ) سيخرج..محمد.....محمد بن خزيمة!!

محمد بن خزيمة : ........!!

الجميع : (يطأطئون رؤوسهم ونظراتهم تتعاقب على محمد بن خزيمة.. )

محمد بن نصر : ( يتجه إلى ابن خزيمة ) لا بأس..اصبر واحتسب..فالله لن يضيعك..( يتبعه البقية ويقون عزيمته ..)

محمد بن خزيمة : ( بأسف ) الله المستعان..لكن ( يصمت )

أمهلوني لأركع ركعتين أستخير الله فيهما..(ينهض ويستقبل القبلة ويدخل في الصلاة ..)

الجميع : (ينظرون إليه بصمت وشفقة وحزن..)

 (3)

(جانب من القاعة الملكية ، ويظهر أحد جدرانها المطرزة بالسيوف الهندية ،، وجزء من الباب المزخرف الكبير الذي يفضي إلى باحة القصر..يقف عن يمينه وشماله حاجبان..)

**

(ويُرى الأمير ابن طولون بلباس الإمارة ، وقد اعتلى عرشه في وقت مبكر،،

وعلى مقربة منه وقف أحد وزرائه..)

**

الأمير ابن طولون : هل من أخبار جديدة عن المحمدين ؟

الوزير : سيأتي ـ بإذن الله ـ ما يسر أميرنا المحبوب ..

الأمير ابن طولون : يجب أن تصل الإعانة بأسرع وقت ( يتمتم) من الأرجح أنه قوم صالحون ، وإلا لما تجلوا لي في منامي ..!

الوزير : (برجاء) لا تحمل هما يا مولاي فقد أجهدك التفكير ، أنت حريص على نفع الناس ، وإلا لما رأيت في منامك أحدا يأمرك بالإنفاق ، ولو علمت بحاجتهم لما قصرت يدكم البيضاء عنهم..

الأمير ابن طولون: ( يخفض رأسه ) نعم..سمعته يقول : انهض..! أتنام والمحمدون في حاجة وضعف ..؟!

الوزير : لا تبتئس يا مولاي...جنودك انتشروا في القاهرة..ولن تضيع جهودهم ـ بإذن الله ـ

الأمير : ( يهم بالتعقيب...لغط ينبعث من خارج القاعة الملكية ، يسكت وينصت ، يلتفت هو و الوزير نحو الباب..)

يظهر صوت جهوري واضح : وجدناهم يا مولاي ..تم تحديد مكانهم...وجدنا المحمدين..هم أربعة شبان.. محمد بن جريد الطبري ، ومحمد بن خزيمة ، ومحمد بن هارون الرويناني ، ومحمد بن نصر المروزي ...)

***

ستار