الأمانة

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

قيس    فتى ترك له والده مزرعة صغيرة وبيتا متواضعا فيها ، يعمل قيس في المزرعة وحده ويبيت في البيت  الذي بناه أبوه عليه رحمة الله بيديه.

v     في احدى الأمسيات وبينما كان قيس يستعدّ للنوم بعد يوم شاق سمع طرقات خجولة على الباب

قيس : أعوذ بالله من طارق سوء من يطرق عليّ بابي هذا المساء في هذا المكان!؟

لأفتح بحذر  … من بالباب ؟

صوت فتاة : أنا يا أخي  ضللت الطريق ولا أعرف أين أذهب فهلا دللتني دلك الله على طريق الجنة.

قيس يفتح الباب : يا الله من هذه الحورية التي أمامي ؟ من أنت أيتها الفتاة وكيف وصلت إلى هنا ؟

  وماذا تفعلين في هذا المكان الموحش المقفر؟

الفتاة : كنت ذاهبة لزيارة أختي في قرية ( العسلية ) وقد ضللت الطريق ولم أعد أعرف أين أنا فهلا ساعدتني ودللتني دلّك الله على طريق جنان الخلد !

قيس : بدا عليه الاضطراب                       

 

قيس : بدا عليه الاضطراب والحيرة وأحس بفيض من النخوة والحمية وعلى الأخص عندما نادته يا أخي ، قال: قرية ( العسلية ) بعيدة جدا عن هذا المكان وهي في الطرف الجنوبي وأنت في أقصى الشمال .

الفتاة لم تنبس ببنت شفة إنما أخذت عيناها تفيضان بالدموع .

قيس : ماذا تفعلين الآن ؟ وإلى أين تذهبين في هذا الليل؟ ولا مكان هاهنا تذهبين إليه ؟

الفتاة : وافوض أمري إلى الله ... وافوض أمري إلى الله ..

قيس : لا حول ولا قوة إلا بالله .. حسبنا الله ونعم الوكيل ... إن شئت دخلت إلى البيت  عليك أمان الله وحفظه ورعايته ، واشهد الله أني سأكون لك كالأخ حرصا وصونا ،واعاملك  كما أعامل أختي.. يا رب اشهد علي    يا رب اشهد علي .

الفتاة :وقد أحست بنبرة صدق في صوته : بارك الله فيك يا أخي وأعانك على الخير والمعروف

قيس : أدخلي يا أختي ادخلي  ولا تخشي شيئا أنت في بيت أخيك اطمئني

قال في سرّه لا شكّ انها جائعة .. الحمد لله عندي بعض الطعام.....

تفضلي كلي ريثما أعد لك مكانا تنامين فيه

الفتاة بصوت مضطرب :لقد اتعبتك معي ...

قيس : يضحك بلا مبالاة : هه...هه..ههههه  ثم بحث في ظلمة  الغرفة عن ملاءة كبيرة .. ها قد وجدتها  سأجعلها ستارا بيني وبينها وستنام هي هنا وأنا أنام في الجانب الآخر لا تراني ولا أراها ... يسألها : هل شبعت ؟ هل يلزمك  شيء .... ستنامين هنا خلف الستارة وهذا وعاء الماء بقربك إذا عطشت ... لا تخافي  عليك عهد الله وأمانه

الفتاة : وأين ستنام أنت ؟

قيس :سأنام في الطرف الآخر خلف الستارة من هذه الناحية  وإذا احتجت شيئا فقط نادي : يا قيس   وأكون في خدمتك .

تصبحين على خير .

الفتاة : تحدّث نفسها ( كيف سأنام ؟ كيف يغمض لي جفن وأنا في مكان منقطع  وفي بيت غريب مع شخص لا أعرفه ... كيف ... كيف ؟ يا رب ..يا حيّ يا قيومّ... يا حي يا قيوم لجأت اليك  وفوضت أمري إليك ووقفت ببابك يا رب ... يا رب ّ.ّ.... )

قيس :  يحدّث نفسه ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ... ابدأ لا يكون ... ابدأ لا يكون... أخزاك الله يا شيطان ... متى سأنام  احسّ برأسي صار كالبالون  وأن قلبي صار كالمرجل. يا رب أعني   إنها أمانة في رقبتي  اشهدتك على ذلك  أعني يا رب .)

من شدّة تعبه أخذته اغفاءة ( ما بك يا قيس ؟ أنت شاب  متقد شبابا ورجولة  وهي فتاة جميلة جاءتك بقدميها جاءتك هدية كيف تفوّت هذه الفرصة عليك ؟ إنها لن تتكرر !! ) ينتفض وهو يصرخ : لا ..لا

يعود للنوم من جديد يتراءى له الشيطان من جديد بلسان الناصح يقول له :

( لا لوم عليك يا قيس لا لوم عليك هي التي طرقت بابك  وأنت شاب  أين رجولتك ... أين رجولتك .

انتفض من جديد وهو يقول : خسئت أيها اللعين ..خسئت ...،

الفتاة : سمعت صوته ولاحظت انتفاضته ( ما به ؟ ماذا حدث له  )

هاه إنها فكرة ، اي والله انها فكرة جيدة سأنفذها  قام من فوره وبحث عن شيء صنع منه شمعة واشعلها ووضعها بجانبه .

الفتاة تراقبه دون أن يشعر

كان كلما اشتدت عليه وساوس الشيطان يضع اصبعا من أصابعه فوق لهب الشمعة ويقول : هذا جزاؤك يا قيس إن خنت الأمانة ! هل تطيق يا قيس لذع النار ! هل تطيق الحريق في نار جهنم ! هل تطيق مسّ صقر..؟

فلم ينقض الليل إلا وأصابعه العشرة محروقة .

المشهد الثاني :

في الصباح أوصل قيس الفتاة إلى مشارف قريتها وعاد ادراجه إلى مزرعته وقلبه يرقص فرحا وسرورا أن وفقه الله على حفظ الأمانة .

اما الفتاة فقد دخلت بيتها ورمت نفسها في حضن أمها وأبيها وحكت لهما كل الذي حدث معها وقالت :

ما أحسبه إلا ملاكا يا أبي !!

الأب : خيرا انشاء الله  الحمد لله على السلامة يا ابنتي  سأذهب في شغل طارئ فلا تقلقوا عليّ  ثم خرج وهو يفكر ( سأذهب لأتحقق من أمر هذا الشاب ) وصل الأب مزرعة الشاب وجاء البيت وطرق الباب !

قيس : من بالباب ؟

الأب : عابر سبيل يريد شربة ماء

قيس : اهلا وسهلا ومرحبا   يفتح الباب     تفضل يا عماه على الرحب والسعة

الأب :  لقد اشتدت علي حرارة الشمس أرجوك شربة ماء يا بني

 قيس : على الرأس ثم العين  تفضل واسترح

الأب : يدخل يناوله قيس الماء بكل أدب    يلاحظ الأب أصابع قيس المحروقة   ماذا جرى لأصابعك يا بني ؟

قيس : إنها حكاية طويلة يا عماه  لا تشغل بالك

الأب : عزمت عليك إلا أخبرتني فقد أثرت فضولي !

قيس : لا بأس سأخبرك

الاب : استمع لقبس وهو بتحدث بلهجة الواثق الصادق فوجد الأمر كما ذكرت ابنته هادية ، قال : بارك الله فيك يا بني !  إنك حقا رجل شهم حر ابن حر.

قيس : أنا لم أفعل غير واجبي يا سيدي ، إنها كانت أمانة في عنقي  ومن المحال أن اخون الأمانة !!

الأب : لعلك تريد أن تعرف من أنا ؟

قيس : من دواعي سروري يا سيدي

الأب : أنا والد الفتاة وقد حدثتني عن أخلاقك وشدة مخافتك لله وشهامتك فأحببت أن أتعرف عليك  وإني أدعوك لزيارتنا في القرية غدا عزمت عليك إلا أجبت دعوتي فلا تخيبني أرجوك

قيس : استغفر الله    مثلك لا يخيب يا عماه  ولي الشرف في زيارتك .

الأب : إذن إني أنتظرك غدا  عند المسجد إنشاء الله . والآن السلام عليكم

قيس : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .

المشهد الثالث :

أخبر الرجل أهله أن يستعدوا فسوف يقدم عليهم ضيف عزيز ، سألوه من يكون لم يردّ

لبى قيس الدعوة وذهب إلى القرية وقصد المسجد حيث كان والد الفتاة بانتظاره وبعد الصلاة ذهبا الى البيت بعد أن نادى الرجل بالمصلين ودعاهم للغداء عنده إكراما للضيف

الأب : تفضل يا قيس استرح قليلا قبل أن يتوافد رجال القرية

قيس : شكرا جزيلا لقد أتعبت أنت نفسك من أجلي ..

الأب اكتفى بابتسامة ثم خرج  يتفقد عمل الأسرة ومراحل تحضير الطعام

انتهى الحضور من تناول طعام الغداء وجلسوا يتبادلون اطراف الحديث وفجأة يدخل أبو هادية ويقول بصوت مرتفع :

أبو هادية : أهلا بكم يا وجوه الخير وأريد أن أعرفكم على ضيفنا الكريم

هذا قيس يسكن في الديرة الشمالية وهو من خيار الناس أصلا ومحتدا وقد عزمت على تزويجه من ابنتي هادية ليكون لي صهرا وسندا

الحضور : مبروك... مبروك 

تقدم الحضور من قيس يباركون له ويهنئونه وهو مندهش وقد أخذته المفاجأة ولم يزد على أن يهزّ برأسه دون أن يقوى على الكلام .

الأب : ينظر إلى قيس مشجعا ومطمئنا وقد لمعت عيناه وارتسمت على شفتيه ابتسامة السعادة والرضى ..

قيس يحدث نفسه : لقد صنت الأمانة وحفظتها فجاءتني هادية هدية ..الحمد لله.. الحمد لله ..

وسوم: العدد 695