عبد الوهّاب الملوّح: الكتابة هي محو البياض وبياض المحو، وكتاباتي لا تتصنف

الملوّح: الترجمة هي امتطاء أحصنة غير مروضة والركض بها في أراض وعرة لإيصال رسالة

منذ الصغر، حاز السينما على مكانة عالية من بين اهتماماته إضافة إلى نشأته في بيئة دينية صوفية تقوم على الإنشاد الديني، شكلا معًا (البيئة الصوفية والسينما) اللبنة الأولى لتكوينه الأدبي، هنا كانت نقطة الانطلاق لشق طريقه نحو عالم أوسع وأصعب الذي لا ينجو منه إلا من عرف قيمة القلم والكلمة وتسلح بأدوات وعدة وعتاد معرفية ثرية تمكنه من توظيفها في خدمة رؤيته وغايته الأدبي الأسمى، وينطبق هذا على ضيفنا الذي يشعر بروح المسؤولية باتجاه الكتابة ويراها مشروعًا ضخمًا لا يمكن التهاون معها، وكانت نتيجة عدة مؤلفات قيمة في الشعر والرواية والنقد والترجمة والمسرح منها تسع مجموعات شعرية ، أربع مؤلفات في الترجمة، وروايتين، وكتاب في الدراسات، إضافة إلى عدة مسرحيات.

يؤمن بمبدأ الكتابة وإعادة الكتابة والمحو. لا ير نفسه إنسانًا عصريًا بل بدائيًا في أصوله! والتجنيس الأدبي عنده فعل مضر للكاتب بحيث يدخله إلى صراع مع الذات

عبد الوهّاب الملوّح شاعر ومترجم روائي، من مواليد قفصة بالجنوب التونسي سنة 1961

نص الحوار ....

عن عبد الوهّاب الملوّح الإنسان يقول:

لعلني من آخر سلالات الإنسان النياندرتالي؛ هذا الذي لم يتخل عن أصوله الأولى في جوهرها الحيواني وفي نفس الوقت عمل على تطوير ذاته بحكم اختلاف مكوناته كإنسان، بقدر ما طورت الحضارات أفسدته الإنسان وأجهز على كل مقوماته كـ ابن للأرض التي يعمل الآن على تدميرها... لا اعتقد إنني إنسان العصر الحديث، ما زلت بدائيًا في أصولي.

 

نشأ في بيئة دينية وعشقَ السينما فكانت بداية التكوين الأدبي لديه: 

لقد تضافرت عوامل عدة لتشكيل هذه النشأة لعل أهمها البيئة التي تربيت وترعرعت فيها حيث أن باكر صباي كان في حضن جدي الذي كان صاحب طريقة صوفية تقوم على الإنشاد الديني، لقد تأثرت بتلك الفترة عميقًا ومن هناك تسلل إلي حب القراءة والتوغل في عالم التخييل إضافة إلى عوامل أخرى منها إني في صباي كنت مواظبًا على مشاهدة السينما فمن حظي أنه كانت هناك قاعة للعروض السينمائية جنب بيتنا وكنت أنظف القاعة في الصباح مقبل حضور العروض السينمائية في المساء.

تختلف طقوس الكتابة عنده فهو الذي يرى في الكتابة فعل مسؤول ومشروع ضخم، لذا،

لا أؤمن إيمانًا كليًا بالكتابة التي تهبط على صاحبها منزلة كالوحي؛ فالكتابة لحظة فالتة لا يمكن القبض عليها وكما إنني لا اكتب تحت الطلب ولا أقع فريسة ابتزاز الأحاسيس الجياشة والانفعالات الصاخبة والعواطف المتحمسة فإنني اكتب بعيدًا عن كل ما هو انفعالي، ذلك أن الكتابة في جوهرها فعل مسؤول وجاد وهي أيضًا مشروع ضخم قائم على التجريب الدائم والبحث في أسئلة الوجود والكينونة.

أشار إلى مهام الكاتب الجاد بالقول:  

مهام الكاتب الجاد الإنصات لصخب الدواخل بما هي ترسبات لمكوناته الثقافية وتشكيلات رؤيته حول العالم في علاقتها بتحولات الواقع انطلاقًا من بيئته المحلية ولتحقيق هذا الفعل، على الكاتب أن يمتلك معجمه اللغوي الخاص وتكون لديه أدواته وعُدَّته التعبيرية الخاصة بما يمكنه أن يمتلك أسلوبه المتفرد وهذا لن يحدث إلا بالكتابة وإعادة الكتابة والمحو لعل الكتابة في جوهرها هي ذلك المحو الذي بعد أن نحرف بياض الورقة بالكلمات يعود بنا إلى الجوهر الأساسي الذي هو البياض، أليست الكتابة هي محو البياض وبياض المحو!

 

لا يعترف بالأجناس الأدبية، والكتابة عنده كل لا يتجزأ ويسهب في الشرح، قائلًا:

 ذات يوم أصدرت فرجينيا ووللف كتابًا بعنوان الأمواج واحتار النقاد في تصنيفه وفرجينيا وولف نفسها قالت عن كتاب يولسيوس لجيمس جويس أي نوع من الكتب هذه؟ وهو ما يمكن أن نقوله عن المواقف والخطابات للنفري أو عن رسالة لغفران للمعري أو عن كتاب المؤانسات للتوحيدي. إذًا؛ عبارة الأجناس الأدبية هي بالأساس مصطلح أكاديمي إجرائي وكذلك نظرية الأجناس الأدبية تمت صياغتها في المخابر الجامعية البعيدة عن هوس الكتاب وفوضاهم الإبداعية، والاستعمال الحديث لهذا المصطلح هو لتسهيل الدرس الأدبي لطلاب الجامعات ليس إلا.

يتابع: لقد دأب النقاد اليوم في معرض حديثهم عن الرواية على قول عبارات من قبيل "رواية تتوفر على ذرى شعرية" أو "رواية شعرية" أو يقولون عن قصيدة ما "قصيدة بها كل أدوات العدة السردية " أو "تسريد الشعر" وكل هذا يؤكد أن الكتابة كل لا يتجزأ. ففي الأصل الإغريقي كان هناك تصنيف لا يقوم على الشكل وإنما على التأثير في المتلقي التراجيديا، الكوميديا وليس انطلاقا من هذا أو تلك رواية، لقد أضر هذا التصنيف الإجرائي بالكتابة عمومًا وأدخل الكاتب في صراع مع ذاته رغم أن الكتابة في حقيقتها كما قال الفقيد إدوارد خراط عابرة للأجناس.

أما سبب تجنيس مؤلفاته:

 فيما يخص كتاباتي فهي بحكم ضغوط الناشر الذي بدوره يخضع لضغوط السوق وقد عانيت في ذلك كثيرًا مع ناشر روايتي "كبابيل الآخرة".

عن مشروع الرواية ومدى التأثر بشخوصها، كرر عدم اعترافه بالتصنيف الأدبي، ولكن:

الرواية هي نفسها مشروع كتابي، كتاباتي لا تتصنف، غير أنها أحيانًا تفيض لتأخذ مسارات أبعد من أن تكون مكثفة دلاليًا مقتصدة لغويًا، متقشفة في المجالات التي تطرقها فتنفتح وتحتاج إلى المزيد من العناية وفق مسار الرؤيا التي انطلقت منها وتفلت من يدي حتى أنها تخلق شخوصها وحدها، لا يتعلق الأمر هنا بمسرح عرائس أو بمخرج سينمائي يعمل كاستينغ للشخصيات رغم أني أذكر أن المخرج الفرنسي غودار غير طاقم تمثيل فيلم كامل لأنه لم يكن مستوعب تمامًا لروح فكرة الفيلم، الكتابة لا تبدأ عندي بنية مسبقة وتخطيط استباقي وفق نظرية الأجناس بل تبدأ من لحظة أنها قابلة للمحو.

يؤكد أن لا مجال للمقارنة بين كتابات المسرحية وكتابات القصة، ولكن، يمكن تحويل رواية وقصيدة إلى عروض مسرحية:

علينا أن نفرق هنا بين النص الأدبي المؤهل ليتم تمثيله على خشبة المسرح وبين الدراماتورجيا، المسرحيات التي تم تقديمها على الخشبة باعتبار أني صاحب النص الأول لها هي في الأصل كانت كتابات أدبية طاغ غلب عليها الحوار وطبعًا لا تعدم أي كتابة من حوار بين الشخصيات لكن  ليتم تحويلها إلى الخشبة فهذي تصبح دراماتورجيا بما يعني تدخل الكتابة السينوغرافية والكتابة الديكورية وكتابة إدارة الممثل والكتابة الاكسسوارية وهذي من اختصاصات مخرج العمل، قلة من استطاعوا التمكن من كل هذه التقنيات من مثل شكسبير وبرتولت برخت وانا مونشكين وسعد الله ونوس والطيب الصديقي، لا مجال للمقارنة إطلاقًا بين كتابة القصة والكتابة للمسرح لكن هذا يتوقف على قدرة المخرج على الدراماتورجيا، ويجدر هنا الإشارة إلى أنه تم تحويل بعض الروايات إلى عروض مسرحية مثل موسم الهجرة إلى الشمال كما تم تحويل قصائد نثرية إلى عروض مسرحية وهو ما حدث مع قصائد للشاعر اللبناني عباس بيضون.

الترجمة من الفرنسية....

يشدد أن من الخطأ النظر للترجمة بعين الشخصانية للكاتب الأول وإنما يجب النظر إلى المنفعة لصالح العام:

فعل الترجمة هو إيواء الغريب للغريب، وهو فعل تثاقف وتفاعل بين ثقافات وحضارات بما في ذلك عادات وطبائع ولأن الكتابة في جوهرها هي هذا التفاعل بين داخل الذات والخارج كل هذا الخارج كما في تشكلاته ولا يجب النظر للترجمة من جهة براغماتية شخصانية، لم لا نتحدث عن استفادة شعوب كاملة من الترجمة مثلما حدث للعرب حين شرعوا في ترجمة أعمال الفرس مثل ألف ليلة وليلة، كليلة ودمنة، الشاهنامة...إلخ. ثم اندفعوا لترجمة الفلسفة اليونانية وقامت النهضة العربية الأولى خلال العصور العباسية وهو نفس ما حدث في العصر الأندلسي؛ من الخطأ النظر للترجمة من جهة استفادة الكاتب الأول بقدر ما أن الترجمة هي امتطاء أحصنة غير مروضة والركض بها في أراض وعرة لإيصال رسالة، والمترجم الجيد من يصل بالرسالة سالمة.

في الكتابة والتأليف، لا يهمه المواضيع بحد ذاتها بقدر أهمية طرق وكيفية عرضها على الخطوط البيضاء:

ما يهمني في كتاباتي ليس ما أقوله ولكن كيف أقول، قال الجاحظ المعاني مطروحة في الطريق والكاتب الجيد هو الذي يبتكر أسلوبًا مغايرًا في حديقة عن الحب أو الحرب أو البحر ، وقديمًا قال عنترة هل غادر الشعراء من متردم  وقال قبله زهير بن أبي سلمى ما أرانا نقول إلا كلاما مكرورًا وبالتالي لا تعنيني المواضيع  فالمهم هو كيفية طرق المواضيع المألوفة، أتطرق أحيانًا لتلك المواضيع المتروكة المهمشة التي قد لا تعني أحدًا وهي تلك التفاصيل الصغيرة… جورب مثقوب معلق على حبل غسيل، قطعة جبن على طاولة منسية، دمعة متحجرة على خد جحش.

ما يظهر حاليًا في الساحة الأدبية لا علاقة له بالنقد، والنقد الحقيقي لن تقبل به المؤسسات العربية:

ليس هناك حركة نقدية توازي التراكم الإبداعي النقدي العربي، هناك مجرد تفاعلات انطباعية حول ما يكتب هنا وهناك وأغلبها ذات طابع صداقاتي حميمي لا علاقة لها إطلاقا بالنقد اذا كنا نتحدث عن النقد باعتباره عملية تحليل للنص من الداخل وتحاور معه لاستكشاف مواطن الإبداع فيه والتبشير أو العكس الوقوف على ما فيه من نقائص للأسف نحن العرب ليس لنا نظرية أدبية متكاملة  رغم ما زخر به التراث الأدبي العربي من ترسانات نقدية بالغة الأهمية مازالت تعتبر مرجعيات مهمة في الأدب العالمي من ابن طبا طبا وابن رشيق وابن حزم القرطاجني وغيرهم فباستثناء قلة قليلة حاولت التأسيس لمدرسة نقدية عربية لكن  تم  القضاء عليها في بداياتها. النقد تحرير للعقل ودفع له ليكون متحررًا وهذا ما لن تقبل به المؤسسة عند العرب.

ظل الجسد في الثقافة الإسلامية مدنسًا والأدب جعله مقدسًا....

تطرق الأدب العربي والغربي إلى الجسد هو للتأريخ واستكشاف الذات وليس بهدف إغراء وشهوانية:

هذا شكل آخر من أشكال تصنيف الأدب وحبسه في خانة مخصوصة من قبيل الأدب النسوي، الأدب الزنجي، الأدب السجني، الأدب الجسدي، هذه التصنيفات فضيحة النقاد الجدد، الأدب لا يُجزأ، هل يمكن أن تخلو كتابة من الحديث عن عضو من الجسد وهل يمكن أن تخلو كتابة من إغراء جسدي، هناك كتابات تبالغ في ذلك واعتقد أنها تذهب نحو استكشاف تلك المنطقة المسكوت عنها في داخلنا، لقد زخر الأدب العربي القديم شعرًا وخبرًا وحديثًا بالتطرق للجسد باعتباره منطقة إغرائية شهوانية ولم يكن المقصود منها جلب القارئ بقدر ما كانت تأريخا لما يحدث فعلًا بل وهناك كتب ذات بعد أنطولوجي في هذا الغرض من مثل الإيضاح في علم النكاح وغيره كما زخر الأدب الغربي بمثل هذه المواضيع الموتيفات ويكفي فقط قراءة أعمال الماركيز دو ساد أو رواية عاشق الليدي شاتلي أو علاقات خطرة وكل هذي الروايات وأن تطرقت للجسد لم تكن تبغى إغراء القارئ بل الذهاب نحو استكشاف الذات من خلال الجسد. لقد ظل الجسد في الثقافة الإسلامية مدنسًا والأدب جعله مقدسًا.

تأثر بـ شاكر السياب، ومعجب بالآخرين:

طبعًا لا يكاد ينجو كاتب من تأثير كاتب آخر عليه بل وأؤكد أن أغلب الشعراء العرب في العصر الحديث خرجوا من كم بدر شاكر السياب وأنا منهم وهو ما لا يعني إنني وقعت تحت سطوة الشعراء الملاعين بودلير، رمبو، فرلين وطريقة تمردهم على السائد في الكتابة وأرى انهم مازالوا إلى الآن يتصدرون المشهد.

تنخر المحسوبية والعلاقات المعرفية في جسد الملتقيات الثقافية بدلا من تكريم الأدب كقيمة فكرية وجمالية:

للأسف سادت العلاقات الإخوانية والصداقاتية حتى تحولت إلى علاقات طاغية في هذا المضمار حيث صارت الملتقيات مآدب وولائم ووكالات أسفار للأحباب والمقربين وتم استبعاد الفاعلين الحقيقين فإذا كان الهدف من الملتقيات الأدبية هي البحث عن الإضافة الأدبية والجمالية فهي في الحقيقة صارت للقاء أحبة وعشاق افتراضيين والأنكى من ذلك يتم بمباركة رسمية من الجهات المسؤولة وهو الشأن حتى في معارض الكتاب.

وضع الأدب والثقافة في تونس:

تونس دائمًا منتعشة ثقافيًا ودائمًا هناك حراك ثقافي جاد فيها لكن ليس بالأساس ما يظهر على منصات التواصل الاجتماعي بل وبالعكس ممكن ما يظهر على سوشيال ميديا هو الأردأ فهناك حركة نشر كثيفة وهناك إصدارات أدبية مهمة جدًا كما هناك توجه نحو البحث الجمالي الجاد وهو ما لا تظهره وسائل الإعلام ولا منصات التواصل الاجتماعي.

...........

أهم مؤلفات الشاعر والمترجم والروائي عبد الوهّاب الملوّح في الشعر والرواية والدراسات الأدبية والترجمة والمسرح

أصدر في الشعر: 1ـ رقاع العزلة الأخيرة، تونس سنة 1993. 2 ـ الواقف وحده، تونس 1997. 3 ـ سعادة مشبوهة، تونس 2000. 4 ـ أنا هكذا دائما، تونس 2002. 5 ـ الغائب، تونس 2002. 6 ـ الليل دائما وحده، بيروت 2010. 6ـ Nul ne vient a sin heure2015 فرنسا. 7ـ راقص الباليه، تونس 2011. 8ـ كتاب العصيان، تونس 2013. 9ـ كتدبير احتياطي، 2019

صدر له في الرواية: ـ "منذ" 2008. ـ "كبابيل الآخرة" 2018

صدر له في الترجمة: 1ـ رسائل فرنادو بيسوا إلى حبيبته، 2000 فلسطين. 2ـ بورتريه سوزان، 2015 مصر. 3 ـ يوميات الحداد (مذكرات) للكاتب رولان بارت، 2018 تونس. 4 ـ على مرتفعات اليأس لـ إميل سيوران، 2020 السعودية

صدر له في الدراسات: ـ "فخاخ الدهشة" 2016 تونس، وهو يتضمن دراسات ومقالات تبحث في خصائص قصيدة النثر العربية. كتب عدة مسرحيات تم إخراجها منها سوس، انتلجنسيا، غرائب...

clip_image002_05bf4.jpg     clip_image004_6d767.jpg

 clip_image006_864e7.jpg clip_image008_7f0d9.jpg 

وسوم: العدد 876