العربية بين دعاة التعريب ودعاة التغريب

العربية بين دعاة التعريب ودعاة التغريب

دعد شتات

شخوص الحوار :

- دعد : طالبة في السنة الثالثة بكلية الصحافة في جامعة الملك سعود .

- هديل : طالبة دراسات عليا في قسم فلسفة العلوم بجامعة كامبردج , عادت إلى المملكة خلال عطلة الصيف لتقضي الإجازة بين أهلها .

- سماح : طالبة في السنة الثانية بكلية الأدب العربي بجامعة الملك فيصل .

- ريم : ربة منزل , تزوجت بعد حصولها على الثانوية العامة لكنها ما تزال متعطشة للعلم والمعرفة وإكمال دراستها بشتى السبل .

- سماهر : تخرجت حديثاً من كلية الدراسات القرآنية بجامعة أم القرى وتنتظر تعينها في إحدى إعداديات أو ثانويات المملكة .

- رنا : طالبة طب أسنان في الجامعة الأمريكية بالشارقة , عادت كذلك للمملكة لقضاء العطلة الصيفية مع أهلها .

المكان :

طاولة مستديرة في الحديقة المترامية الأطراف بمنزل هديل  .

الزمان :

بُعَيْد العصر .

الحوار :

بدأت الجلسة بسؤال هديل عن طبيعة الحياة في الغرب وطبيعة الدراسة والتواصل بالإنجليزية في بلد يجهل جل أهله العربية .

كانت وجهة نظر هديل أن هذا الأمر ضريبة حتمية للعولمة , في ظل طغيان اللغة الانجليزية التي أصبحت لغة العلم والمعرفة , وأن العربية تعجز عن مسايرة التطور الحاصل , وأن دورها المستقبلي سينحصر بأداء المكتوبة والنوافل لصعوبتها وعدم مرونتها في مسايرة هذا النمط من العولمة والذي حتمته طبيعة الحياة .

وكعادة الأمور في مثل هذه الجلسات , فقد انقسم الحضور بين مؤيد ومعارض .

دعد : هذا ليس واقعياً بالمرة , تمتاز العربية بالقدرة الفريدة على التعبير بحيث استطاعت صهر حضارات عظيمة في بوتقتها إبان العصور الذهبية للدولة الإسلامية .

هديل : كان يا ما كان .

دعد : أنت يا هديل تخلطين الأمور , العيب فينا لا في لغتنا الأم , هذا كل شيء .

رنا : لا يجعلن تعصبك للعربية يغطي الحقيقة , أنا طالبة طب أسنان , وأدرس بالانجليزية , كنت أتمنى لو كانت العربية قادرة على تقديم هذا العلم بلغتي الأصلية , لكن الواقع غير هذا تماماً .

هديل : إشكالية ترجمة المصطلحات بمدلولاتها الحقيقية هو ما يعيق , وهذه إشكالية بنيوية في طبيعة اللغة العربية ذاتها ,  لقد نشأت هذه اللغة في رحم الصحراء , لذا ترون غناها بالتشبيهات والاستعارات ووصف الليل والإبل والشيح والقيصوم والغزوات المفرطة في محليتها كداحس والغبراء , وشعب جبلة , وليلة الهرير وغيرها من أيام العرب التي لم تعد تقدم ولا تؤخر في عصر النت والفضاء وحرب النجوم . 

سماح : هذه هويتنا الثقافية وإرثنا الحضاري , ولا أظن أحداً ينسلخ عن هويته الثقافية لمجرد فشل بعض القيّمين على التعريب بترجمة مصطلح علمي ما بصورته الدقيقة .

سماهر : هذا ما كنت أريد الإشارة إليه .

ريم : لم أسمع حتى الآن ما يشفي الغليل , كلكم يتحدث بعاطفته , وأنا أعتقد جازمة أن هذا النوع من النقاش يحتاج لبراهين أكثر إقناعاً لتغليب وجهة نظر على أخرى .

هديل : لا , الأمور أبسط بكثير , نحن نعيش في عصر لا مجال للتفاعل معه إلا بالانجليزية , الجبر , الهندسة , الرياضيات ككل , الطب , الكومبيوتر , لغات البرمجة , جميعها أمورٌ لا يمكن فهمها إلا من خلال الانجليزية وإلاّ فإن قصوراً ما سيكون , لأن الغرب هو الأب الشرعي لهذه العلوم جميعها .

دعد : جميل ما قلته يا هديل , ما هي المصطلحات التي أعطوك إياها في فلسفة العلوم وتعجز العربية عن استيعابها ؟

هديل : قائمة طويلة لا تنتهي من المصطلحات .

دعد : مثلاً ؟!

هديل : الكومباس أو البوشل , الأستروليب , الغوريثم , الجيروسكوب .

رنا : الكانديلا , وهي وحدة شدة السطوع لجهاز تصليب الحشوات التجميلية .

سماح : هل هذه المصطلحات الخمسة المبهمة هي ما يدفعكم لتغير جلودكم والانتصار للغرب على حساب إرثكم الفكري والثقافي والحضاري .

رنا : لا تكوني حرفية أكثر مما يجب , هذه المفردات على سبيل المثال لا الحصر .

دعد : ما ذكرتموه يحسب لنا لا علينا .

هديل : وكيف ؟!!

دعد : الكومباس أو البوشل هو البوصلة , والبوصلة اختراع صيني , لكن فضل استعماله بالملاحة يعود لأجدادك العرب وحدهم , أما الأستروليب , فهو الإسطرلاب : اختراعٌ إسلاميٌ مئة بالمائة , والغوريثم وحده قصة طويلة تختصر علم الجبر بأكمله .

هديل : والجيروسكوب ؟؟!

دعد : الابن الشرعي للبوصلة , يعود الفضل به للملاح العربي الأسطوري أحمد بن ماجد , هل تعلمين يا هديل أن الجيروسكوبات التي أوصلت أبوللو 11 إلى سطح القمر لا تختلف بالجوهر قيد أنملة عن جيروسكوب جدك أحمد بن ماجد

ريم : ولا تنسوا الكانديلا , وحدة حساب شدة الاستضاءة , فهي اللفظ الحرفي لعبارة القنديله أو القنديل .

دعد : وأنتِ قلتها , المهم أن المصطلح بالنتيجة ليس العائق طالما أنه يعبر عن شيء محدد بذاته , ومن هنا يمكن الاستنتاج بسهولة أن الدلالة اللغوية في أي لغة كانت يمكن على الدوام تطويعها أو إيجاد مترادفاتها بلغة أخرى للتعبير عن الفكرة أو الشيء المعني .

سماهر : ليس الأمر بهذه البساطة والسهولة .

دعد : بل أبسط كثيراً مما تظنين , المهم وجود الإرادة والقناعة بالقدرة على التطوير والتطويع ليصبح المصطلح ملامساً لجوهر الموصوف .

ريم التي استمتعت بالحوار لأقصى حد طالبت دعداً بالمزيد : هل يمكن الخوض في جوهر الإشكالية بغض النظر عن أزمة المصطلح ؟!.

دعد : بالطبع , هن تحدثن عن العصرنة , وسأتحدث بالمنطق نفسه مستعيرة ما جاء على موقع أدباء الشام  , فعندما نستعمل الكومبيوتر لنكتب ونصمم ونحسب ونتواصل مع الآخرين فنحن مدينون بالفضل لعالم مسلم عاش في العصر العباسي الذهبي .

وكذلك عندما نتعلم لغة برمجة ما , سيشرح لنا أساتذتنا أن هذه اللغة ليست سوى مرحلة وسيطة للغة الآلة التي لا تفهم سوى النظام ( الثنائي ) , وبهذا نكون نحن وأساتذتنا ومعنا بيل غيتس  مدينين بالفضل , كل الفضل لهذا العالم المسلم .

وعندما نرى الصور الرقمية التي تبثها المركبات الفضائية والمسابر من المريخ وغيره من كواكب مجموعتنا الشمسية , وعندما نشاهد قناة الجزيرة والعربية وغيرهما من الفضائيات , فنحن ندين بالفضل كله لهذا العالم المسلم نفسه .

لقد قدم الخوارزمي للعالم علم الحساب الأساسي , وهو المعمول به الآن وفقاً للأطر نفسها التي وضعها بالعربية هذا العالم الفذ .

هل تساءل أحد : لماذا يخطئ جميع طلاب المدارس الابتدائية في الغرب عندما يتعلمون الجمع والطرح والضرب  بينما أغبى تلاميذنا لا يمكن له أن يقع قط في هذا الخطأ .

الجواب ببساطة , هو أن التلميذ في الغرب قد اعتاد أن يبدأ الكتابة من اليسار, ويمسك الشوكة باليسار , وتبدأ حياته كلها من اليسار سرعان ما يقع بمطب علم الحساب الذي وضعه عالم مسلم يأكل باليمين ويشرب باليمين والأهم أنه يبدأ بالكتابة من اليمين , وهكذا فإنه عندما وضع قواعد هذا العلم , وضعها من اليمين .

وعليه , فعندما يطلب الأستاذ من تلاميذه حاصل جمع أو طرح أو جداء عددين مؤلف كل منهما من ثلاث خانات مثلاً فإن الطالب العربي يبدأ بكل بساطة – وبشكل فطري -  من اليمين , مبتدئاً بالآحاد فالعشرات ثم المئات , أما الطالب الغربي فيبدأ بالمئات ثم العشرات فالآحاد لأنه معتاد على البدء من اليسار, وهذا ليس صحيحاً بالطبع مما يضطر بالمعلم إلى التصحيح طالباً منه أن يبدأ من اليمين .

هذه الإشكالية تحصل ملايين المرات في جميع مدارس الغرب الابتدائية عند بداية كل عام دراسي جديد , بينما هي حالة منعدمة كلياً في مدارسنا .

وكما قدم الخوارزمي للعالم علم الحساب , فإنه قدم أيضاً علم الجبر والمصفوفات واضعاً الحلول النهائية للمعادلات الخطية من الدرجة الأولى ومعادلات الدرجة الثانية وفق تموضعات مصفوفية ما زال العالم يستخدمها بحذافيرها و يسميها حتى اللحظة بالخوارزميات , ولذا عليكن أن لا تستغربن أمثال هذه العبارة في تقارير ويندوز ولينكوس عندما يبدأ نظام التشغيل بالانهيار" خطأ غير محدد في الخوارزمية كذا " , فهذه الخوارزميات هى البنى الأساسية لجميع أنظمة تشغيل الكومبيوتر في العالم .

لم تقف انجازات هذا العالم الفذ عند هذا الحد , فقد قدم للإنسانية أعظم ابتكار في الرياضيات عبر جميع العصور وهو الصفر ( Zefro   أو Zephron  ) باللاتينية التي اختصرت بالانجليزية فيما بعد إلى Zero .

لقد قدم الصفر للعالم مجموعة الأعداد الطبيعية الكاملة .

نظام العد العشري الكامل هذا هو الأب الشرعي لنظم العد كلها , بما فيها الثنائية والستة عشرية المستخدمة في الكومبيوتر حالياً .

سماح : لا تنسي الكاشاني يا دعد , لقد قرأنا عنه سوية في الصيف الماضي.

دعد : ( أذكرتني الطعن وقد كنت ناسيا ) , الكاشاني عالم مسلم عاش في القرن الثالث عشر الميلادي , كتب أبحاثة جميعاً بالعربية , يعتبر واضع أسس الآلة الحاسبة الحديثة , مخترع الفاصلة العشرية , الكسور العشرية , العدد الأعظم في الكون : 3.14 المساوي لـ قسمة 22/7 التي أتاحت حساب مساحة الدائرة والكرة والمخروط بدلالة نصف القطر وهو ما لا يمكن الاستغناء عنه في الهندسة وجميع العلوم .

سماهرلا مزيد لما جئتن به , لكنني أحب أن أضيف ما أعرفه عن كيميائي عربي يعود له الفضل في تطور علم الكيمياء ككل وأعني جابر بن حيان .

اكتشف هذا العالم العبقري العديد من المركبات الكيميائية , وأهمها : " روح الملح " أي حمض كلور الماء و " زيت الزاج الأخضر "  أي  حمض الكبريت الذي يستعمل اليوم في جميع البطاريات السائلة كمتحلل كهربائي مثالي بغرض تخزين الطاقة الكهربائية , وكتب أبحاثة جميعها أيضاً بالعربية , إن عدم معرفة هذا العالم الكبير بالمصطلح الإنجليزي لما اخترعه لم يمنع المعمورة كلها على أن تنهل مما جاد به .

ريم : وهذا ينطبق على جميع العلماء المسلمين الذي كتبوا أبحاثهم بالعربية , لم تكن هذه اللغة حاجزاً لهم عن الابتكار قط  , بل على العكس , فلقد ساعدتهم مرونتها وسلاستها على الانطلاق نحو عالم الإنسانية الرحب , فقدموا عصارة أفكارهم لتعم بالخير على جميع البشر دونما تمييز .

لقد جعل هؤلاء العلماء , الغرب يلهث ورائهم لتوليد مصطلحاتٍ لما جاؤوا به وليس العكس .

دعد : أحسنتي ريم , فهذا ما كنت أريد الوصول إليه , لدينا لغة عظيمة حفظها القرآن من العيوب التي أصابت اللغات الأخرى التي ماتت كاللاتينية , لدينا الأسس والقواعد وعدم الخشية من الانقراض كونها محفوظة بالذكر الحكيم , وكل ما علينا هو البعد عن التقوقع والتقعر ونفي الاستطاعة لنعود بلغتنا , وتعود بنا كما كنا -( خير أمة أخرجت للناس )- .

تمتمت هديل بشيء لم يسمعه الجميع لكنهم فهموه : لحكمة إلهية نكتشف نفحات منها كل يوم  قول رب العزة في محكم التنزيل -( إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون )-

ردد الجميع  دون اتفاق مسبق : قد عقلنا يا رب .

في هذه الأثناء وصل سائق أسرة هديل وزوجته , اتجه الجميع نحو السيارة التي تحضّرت لتوصيلهم إلى بيوتهم .