مع الكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني

الكاتب المغربي محمد سعيد الريحاني:

"ذات الكاتب هي كونه وعالمه، نعيمه وجحيمه.

والمبدع الحقيقي هو الذي يقول للنص :كُنْ فَيَكُون"

محمد سعيد الريحاني

[email protected]

http://raihani.free.fr

حوار: أبو الخير الناصري

سؤال:  أين يتموقع محمد سعيد الريحاني اليوم؟ أما زال "في انتظار صباح" جديد ينسخ الواقع المر؟ أم أنه يفكر في "الهجرة إلى أي مكان" آخر ينسيه هموم الأمكنة الرديئة؟ أم تراه استكان لمقولة "موت المؤلف" في هذا الشرق الذي وصفه أحد المفكرين يوما بأنه "يقتل الأديب حيا ويحييه ميتا"؟

جواب: التموقع بالنسبة للأدباء عبر التاريخ مثل قراءة نصوصهم الأدبية مرهون بتغير الشروط التاريخية وبتعدد المرجعيات الفكرية والفنية والأدبية. وتصنيف أديب هنا أو موقعته هناك يقابله في نفس الآن تصنيف مغاير هناك وتهميش أو إقصاء كامل هنالك.

لكن، رغم ذلك، علي أن أعترف بأنني، مثل أي كاتب آخر، حددت طريقي، منذ قراري حمل القلم قبل أكثر من عشرين عاما خلت، واخترت أفقي قبل أن أكتب أول حرف من أول نص من نصوصي. وفي رحلتي هذه، كانت الثمرات الثلاث الملخصة للتجربة هي باكورة أعمالي "في انتظار الصباح" المجموعة القصصية المكتوبة ما بين 1991 و2003 والصادرة سنة 2003؛ و"موسم الهجرة إلى أي مكان" المجموعة القصصية المكتوبة ما بين 2003 و 2006 والصادرة سنة 2006؛ و"موت المؤلف" المجموعة القصصية المكتوبة ما بين 2003 و 2010 والصادرة سنة 2010... رغم أن التجربة برمتها كانت ستلخصها "وراء كل عظيم أقزام" المجموعة القصصية الصادرة سنة 2012 والتي أعتبرها "أم كل مجاميعي القصصية المنشورة" لكونها تأخرت عن النشر لأزيد من عشر سنوات هاجر خلالها الكثير من نصوصها إلى المجاميع القصصية الأخرى السابق ذكرها في انتظار نضوج التيمة المركزية التي لم أقتنع بنضجها إلا سنة 2012: تيمة العلاقة بين "العظيم والأقزام"، بين "الاستبداد والانبطاح"...

سؤال: من يتتبع بعض تفاصيل حياة محمد سعيد الريحاني ثم يقرأ إبداعاته الأدبية يستنتج بأن الرجل يكتب نصا واحدا في الحياة وعلى الورق. فبعض نصوصه القصصية القصيرة، مثلا، شديدة الصلة بما عاشه من أحداث ووقائع. وهذا يجعل القارئ الباحث يتساءل عن حدود التقاطع بين المعيش والمتخيل في أدب محمد سعيد الريحاني.

جواب: في مجال الإبداع، البحث عن حدود الاتصال والانفصال بين الذاتي والموضوعي قد يشبه كثيرا البحث عن حدود الاتصال والانفصال بين المياه المشكلة للمحيطات. فالحدود فعلا ماثلة للعيان في علوم المحيطات وتسمى "برزخا" وتشاهد من الأقمار الاصطناعية ولكن لحد الساعة لا يطرح الأمر إشكالا علميا أو خطرا على البحارة أو تهديدا للصيد. إنه تنوع "جميل" على سطح خرائط البحار. وما يقال عن مناطق التماس بين مياه المحيطات يمكن قوله عن مناطق التماس بين المعيش والمتخيل في الإبداع الأدبي.

إن الكاتب، مثل الممثل المسرحي أو السينمائي، لا يكتب إلا ذاته. إنه لا يمكنه التحرر من ذاته ولو في أحلامه. "ذات" الكاتب هي "كونه" و"عالمه"، "نعيمه" و"جحيمه". إنه يتحرر بتحررها ويسمو بسموها ويشقى بشقائها. وإلا فأين حدود المعيش والمتخيل في رواية "لمن تدق الأجراس" لارنست همنغواي و"بحثا عن الزمن المفقود" لآلن بروست و"الخبز الحافي" لمحمد شكري وقصائد الخنساء ومعلقة عنترة بن شداد العبسي؟...

 

 

سؤال:  من تجليات المغايرة في أدبك أنك اخترت "الكتابة بالتيمة القصصية"، وهو اختيار تشرحه قائلا :"أفكر، أولا، في عنوان للمجموعة القصصية وهو العنوان الذي يصبح مباشرة تيمة محورية تجتمع حولها كل عناوين النصوص التي تتناسل داخل حقل مبحث واحد.."( نص "موت المؤلف"، ص63). ألا يشكل هذا الاختيار في الكتابة بالتيمة القصصية نوعا من أنواع فرض قيود على الذات المبدعة التي تصير مع هذا الاختيار مقيدة في إطار محدد؟

جواب:  الكتابة ليست مُسَكنا أو مُهَدئا أو مُطَهرا. كما أنها لا تنوب عن الوصفات الطبية والصيدلانية في الأمر. الكتابة أرقى من أن تحصر في حالات البؤس والألم والإحباط... صحيح أن المعاناة والألم والإحباط حطب الكتابة الإبداعية وضامن وهجها وتوهجها ولكن الوعي بأدوات الكتابة الإبداعية وبوظائفها وغاياتها يكسب العمل الإبداعي المنتج خلودا بعدما تنطفئ المعاناة وينسى الألم ويختفي الإحباط...

لا أنفي حقيقة وجود كُتاب يكتبون للإفلات من قسوة اللحظة وبطشها كما فعل الكاتب الفرنسي المعروف جون جونيه الذي بدأ الكتابة واعتزلها وهو بين جدران السجن. إذ لم يكتب شيئا يذكر لا قبل ولا بعد السنوات السبع التي قضاها في الحبس بفرنسا... ولكنني، في نفس الوقت، أومن بأن "المبدع الحقيقي هو الذي يقول للنص كُنْ فيكون". وهذا هو جوهر فلسفتي في الكتابة الإبداعية: ألا يقض المبدع عمره منزويا في زاوية من زوايا البيت ينتظر الإلهام وأن يحدد هو إلهامه بشحذ مواضيعه  وأشكال عرض نصوصه...

بالنسبة لي، الأمر حسمته منذ سنين. فأنا سيد نفسي والإبداع بالنسبة لي ليس "غيبا". الإبداع هو "عالمي" الذي أعيش فيه، إن في الواقع أو في الحلم. ولذلك، كانت مواضيع كل نصوصي  ثلاثا: الحرية والحلم والحب.  وأنا أختارها اختيارا كما افرد لكل تيمة من التيمات الثلاثة المذكورة مجموعة قصصية خاصة بها. كما أخصص لكل باقة من المجاميع القصصية مرحلة خاصة بها. فقد انتهيت هذه السنة من "المرحلة الداكنة" التي كنتَ، أنتَ، ولا زلتَ شاهدا على حروبها منذ عشر سنوات. وقد شملت هذه "المرحلة الداكنة" المجاميع القصصية التي حرصت على تصمم أغلفتها "الداكنة" بنفسي كي تنسجم مع طبيعة المرحلة ومع طبيعة النصوص المضمنة بين دفتيها وهي: "في انتظار الصباح" عام 2003، "موسم الهجرة إلى أي مكان" عام 2006، "موت المؤلف" عام 2010، "حوار جيلين" المشتركة مع الكاتب المغربي إدريس الصغير عام 2011، "وراء كل عظيم أقزام" عام 2012، "لا للعنف" عام 2013، والمجموعة القصصية "2011، عام الثورة" الحائزة على جائزة المهاجر الأسترالية للإبداع مناصفة مع القاص والشاعر الدانماركي نيلس هاو والتي لا زالت تنتظر النشر...

أما الآن، مع نسائم "الربيع العربي"، فأنا أتنفس الهواء العليل الذي ينفخ من كل الجهات الأربع حولي.

الآن، بعد كرامات "الربيع العربي" المباركة،  لم يعد ثمة مجال لثقافة وإبداع المرحلة السابقة "الداكنة" التي هيمنت عليها مطالب الحرية والتحرر وطغت عليها أساليب السخرية من الواقع وأبطاله...

الآن، مع "الربيع العربي"، صار انتقالي إلى المرحلة "الفاتحة" منتظرا وصار معه فتحي للتيمتين المؤجلتين مرتقبا. وعما قريب، ستتحرر الإصدارات "الفاتحة" مع التيمتين المؤجلتين: تيمتا "الحلم" و"الحب". ومن بين الأعمال المعدة للنشر في هذا الاتجاه: المجموعتان القصصيتان "العودة إلى البراءة" و"كما ولدتني أمي" ورواية "قيس وجولييت"...

سؤال:  كثيرا ما نتحدث عن المثقف والسلطة ونحن نتكئ على مشهد الصراع بينهما. لكن ماذا عن بعض المثقفين الذين يتفوقون على السلطة ورجالها أحيانا فيما يتصل بابتكار أشكال جديدة من القمع والتسلط والإقصاء الممارس على غيرهم من المثقفين؟

 

جواب:  لفظة "Moderne" التي تعني "جديد" و"عصري" و"حديث" ظهرت لأول مرة في القرن السادس الميلادي في عهد الدولة البيزنطية بُعَيْدَ تبني الإمبراطور قسطنطين الدين المسيحي كدين رسمي للإمبراطورية البيزنطية. وقد نعت  ب"الدين الحديث" أو "الدين الجديد" تمييزا له عن "الوثنية"، الدين القديم للإمبراطورية ذاتها.

أما ابتداء من القرن السادس عشر الميلادي، فقد اتخذت الكلمة مفهوما مغايرا لتتحول من "الدين الحديث" أو "الدين الجديد" لأوروبا إلى "طريقة التفكير الجديدة أو الحديثة" للأوروبيين في ما صار يعرف ب"الحداثة" Modernisme، وهي فلسفة تعلي شأن العقل وتجعل الإنسان مركزا لكل ما يتخذ من قرار في ما صار يعرف خلال الخمس مائة سنة التالية لعصر النهضة ب"النزعة الإنسانية".

فإذا كان مفهوم "الجديد" و"الحديث" يحيل على الطراوة في الزمن، فإن مفهوم "الحداثي" يحيل على درجة الوعي بقيمة العقل في الوصول للحقيقة وبمركزية الإنسان في الوجود.

للأسف، المفاهيم التي "نستوردها" من تربات غيرنا لا نؤصلها في تربتنا حتى نستأنس بها فنحيا بها وتحيا هي بنا. وبهذا "الاستيراد"، تصبح كل الفلسفات التي نستوردها من ديمقراطية وحداثة ومؤسسية مجرد شعارات جوفاء يرددها "قبليون" بدائيون يعلنون الأجوف من الواردات ويضمرون جشعهم للسلطة وخوفهم الدفين من البقاء بمفردهم على الحلبة في زمن الشدة فيستعدون لليوم المشؤوم بتقريب الأقارب ومكافآة الأحبة وتسييج المنصب بأبناء القبيلة بمعناها العام للحيلولة دون غزو الوافدين أو زحف الزاحفين أو طمع الطامعين أيا كان هذا المنصب، كرسيا في مكتب إدارة جمعية أهلية في حي شعبي أو عرشا على رأس النظام السياسي...

وقد كنتُ ولا زلت ضحية هجومات هذه القبائل البربرية المنسوبة ظلما إلى السياسة والنقابية والثقافة والفعل الجمعوي منذ قراري دخول عالم الكتابة والنشر عام 2001 رافضا كل محاولات الاستقطاب الرخيصة وضاربا عرض الحائط كل العروض الحزبية البئيسة موثرا الفعل الثقافي "الحر" و"المستقل" على الانضمام إلى قطعان الانبطاح. أما التفاصيل، فربما طالعتها في أعمالي المنشورة ورقيا وإلكترونيا والمتوفرة كاملة وبالمجان على الإنترنت في شكل كتب إلكترونية...

سؤال:  من المقولات التي تكاد تُقدس في هذا العصر مقولة التخصص. وأذكر أن أحدهم عاتبك بسبب تعدد الأجناس التعبيرية لديك (قصة قصيرة، رواية، بحث،مقالة...) كأن تعدد الأجناس التعبيرية واحد من العيوب والنواقص.  بماذا ترد على من يدعون إلى ضرورة  التخصص في جنس تعبيري واحد؟

جواب:  التخصص كاختيار أكاديمي وإبداعي بدأ مع عصر النهضة من خلال تفكيك العلوم الشاملة إلى علوم تجريبية لتسهيل السيطرة عليها وتفعيل خدمتها للإنسان الذي صار مركزيا في كل العلوم والفنون والإنتاجات الرمزية للمرحلة النهضوية.

كما تخصصت فنون وآداب عصر النهضة وما بعده في موضوع يكاد يكون محط إجماع وهو "الإنسان" بحيث ضيقت الفنون التشكيلية اللوحة التي كانت قبل عصر النهضة تحكي "قصة" حتى صارت مجرد "بورتريهات" لشخصيات إنسانية ليست بالضرورة من عوالم الكنيسة كلوحة "الموناليزا" لدافينشي و"كليوبترا" لميكائيل آنجيلو. كما صارت عناوين الأعمال الأدبية تحمل أسماء إنسانية ك"ماكبث" و"عطيل" و"هاملت" و"دون كيشوت" و"توم جونز". وفي مجال الموسيقى، كان التحول ذاته ماثلا على عناوين أوبرا "عايدا" و"كارمن" وغيرهما...

كما تم تفكيك الصلات بين أدوار الفاعلين في الحقول الأدبية والفنية والفكرية فظهرت للوجود أدوار جديدة كالناقد والباحث والمفكر والروائي والقاص...

لكن التخصص بلغ أوجه مع القرن العشرين حيث وصلت حركة استقلال فروع العلم والمعرفة أوجها حتى بات صعبا، في مجال التحصيل العلمي، تصور "أفلاطونات" جديدة في مختبراتنا و"أرسطوهات" معاصرة في بورصاتنا و"سقراطات" حديثة في حياتنا الراهنة...

أما في الفن والأدب، فقد حاول فنانون وأدباء معاصرون محاكاة العلماء في تخصصهم، فتخصص بعضهم في "جنس أدبي معين" (السرد مثلا) وراوح بين أنواعه الأدبية (القصة القصيرة والأقصوصة والرواية) أو اكتفى بنوع واحد داخل الجنس الواحد لكن ثمة آخرون رفضوا مفهوم التخصص في الإبداع الأدبي فكتبوا في كل الأجناس الأدبية كفيكتور هوغو الذي كتب في الشعر والرواية والمسرح أو راوحوا بين أجناس التعبير الإبداعي وفروع معرفية أخرى كفريديريك نيتشه وألبير كامو وجون بول سارتر وهرمان هيسه وجورج برنارد شو ممن كتبوا في الفلسفة والأدب...

بالنسبة لي، التخصص الذي ألتزم به هو تخصص في العطاء الفني والأدبي. أما تصنيف هذا التخصص وتقييمه فموكول لغيري من القراء والنقاد والباحثين في عصري وما بعد عصري...

سؤال:  قلت مرة في جواب عن أحد الأسئلة :"أنا الآن أفكر في نشر أعمالي مجمعة في مجلدين اثنين تحت عنوان "الأعمال القصصية الكاملة" أرجو من خلالهما دخول تاريخ القصة القصيرة الإنسانية، وأتفرغ بعدهما للرحلة التي كنت دوما مولها بها..." (جريدة الحياة الجديدة الفلسطينية، عدد 14 مارس 2006).  هل ترغب حقا، وهل تؤمن بإمكانية التخلي التام عن الكتابة؟

جواب:  التخلي عن الكتابة قرار صعب ولو أنني أومن بقدرة الإنسان على تذليل الصعاب كيفما كانت وحيثما وجدت. لكن التخلي عن الكتابة كالتخلي عن الأنياب بالنسبة للفيل أو التخلي عن السلاح بالنسبة للمحارب أو التخلي عن الأنوثة بالنسبة للمرأة أو التخلي عن البراءة بالنسبة للطفل... لقد قضيت عشرات السنين أنمي وأصقل هذه الملكة التي تمكنت أنا منها أخيرا وتمكنت هي مني ولا أعتقد بأنني سأضيعها في يوم من الأيام مهما عظمت الإغراءات والإكراهات.

بالفعل، الرحلة تستهويني. لكن الرحلة ليست بديلا عن الكتابة. إنها كفة ثانية توازن كفة الكتابة وتمتص ثقلها وتخفف عنها وزرها...