مع ربيعة جلطي

ربيعة جلطي:

 في رواية "الذروة"

تنبؤ إلى ما يحدث في العالم العربي هذه الأيام

ليلى زيرق

[email protected]

الشاعرة والأديبة ربيعة جلطي.

جاءني صوتها منسابا عبر الهاتف،محفوفا بالبراءة والرقة،تحيي ذاكرتي عن تلك المرأة التي كنت أسمع شذاها عبر التلفزيون الوطني، في البرنامج الصباحي.

ربيعة جلطي أديبة وشاعرة وأكاديمية من الجزائر،من مواليد الإبداع المبكر ،حاصلة على دكتوراه الدولة في الأدب المغربي تحت عنوان (الأرض في رواية المغرب العربي )،تملكها حس الرواية وتملك حس الشعر وأدوات اللغة فكتبت بالعربية وحجزت لأسمها مكانا مع المبدعين.

ربيعة جلطي امرأة الصمود وشهي الكلمات،مهرة الشعر،الأصيلة؛ التي مازالت تحترم الجمال ،تسدل شعرها الطويل ، تقف على منبر الشعر بتحدي يسندها الحزن والإبداع،تنسج أمالا بحروفها وتحيك تفاصيل حكاية لأولئك الذين غرق بهم الحزن في قاع الحياة، مازالت تحتفظ بصوتها الناعم لم تخدش حياءه الكلمات الحزينة ولم يبهت حضورها البريء الطاغي سنوات الدم في الجزائر.

بعضا من وجدان الصوفيين تحمل،تمتزج عندها النكهات بمختلف أنواعها من صهيل ضاد المتنبي إلى شرنقات الورد في بلاد سرفانتاس إلى بهوي نور فيكتور هيجو.

فقدت حنان أمها منذ الصغر فتكحلت عيونها حزنا،تعلقت بأبيها باحثة عن دفئ يعوضها ما فقدت،عقدت صداقة مع الكتاب ولم يفارقها ،يمزقها الحنين للمكان وتقطب ما تمزق بحزين حرفها،قال عنها الشاعر السوري نزار قباني:إنها شاعرة.

تمتاز كتاباتها بالرشاقة،تحتفي بالتفاصيل، توظف العناصر الحية والرمز والدلالات في بناء الصورة ،تراوغ النص(جدلية الذات والموضوع)، دائمة البحث عن التجدد في اللغة)لا دروع لي ،لا نياشين لي،غير شجرة تزهو بأسمائها الحسنى،تحن إلى الأندلس،وتوصل بلورة مكة).

تفوح من نصوصها غربة الشاعر وغربة الوطن وهموم الإنسان الذي لا يجيد البوح بهمومه،هاجرت قسرا خمس سنوات في الغربة لكنها لم تحرق السفن من ورائها،فأصرت على العودة رغم أن صوت الدم مازال يكتب موتا على المنابر في الجزائر.

كفراشة بين حقول الشعر والنثر تتنقل، حافية على جمر الكلمات تمشي بخفة راقصة البالي بين الغناء والعزف إلي أن استقرت في ميناء الكتابة وأرست سفنها،استحدثت مهرجان الشعر النسوي الذي أصبح تقليدا سنويا يُقام كل سنة في بلادها.

كاتبة اقترفت ذنب الشعر وبلغت الذروة بالرواية،ترجمت وترجم لها كبار الأدباء منهم عبد اللطيف أللعبي ورشيد بوجدرة.

أول الغيث ثورة ،فجاء (تضاريس في وجه غير باريسي سنة 1981 عن دار الكرمل)،(التهمة سنة 1984)،(شجر الكلام 1991 عن دار السفير المغربية)،(كيف الحال 1996 عن دار حوران سوريا)،(حديث السر 2002 دار الغرب الجزائر)،(من التي في المرآة 2004 عن دار الناية سوريا)،(حجر حائر 2004 عن دار النهضة)،(بحار ليست تنام 2008 عن دار الناية )و (رواية الذروة التي فازت كأفضل رواية جزائرية لعام 2010 في مسابقة نظمها النادي الأدبي الجزائري عبر الانترنت.

الأسئلة :

1- ماذا تعني لك الكتابة،كتابة الشعر خاصة؟ هل هو بوح،هل هو متنفس  ربيعة :

ربيعة:

الكتابة بالنسبة لي مثل من يجد نفسه  يردد أغنية أو نشيدا داخليا امتلأ به حتى لم يعد يقدر عليه وحده، فأضحى من الضروري عليه أن يستعمل صوته ليُسمِعه لنفسه و لغيره، أعني أن الكتابة هي مرحلة تالية للحالة   الشعورية و الشعرية في الوقت نفسه..الشعر يعاش أولا يكتسح مشاعر صاحبه  يرويه ويملؤه يدوخه يوجعه أو يفرحه حتى لم يعد له بد من البوح، والكتابة هي نتيجة  هذا التدفق و الفيض الذي لابد منه لإحداث التوازن، توازن مزلزل تشترك فيه الأنا الشاعرة و القارئ المورط.

2- في روايتك (الذروة )لم تعطي أملا كبيرا للشعوب لينعموا بالتفاؤل،فتغير الحاكم لم ينتج عنه تغير في حالة الحكم،وبقيت الممارسات السائدة كما هي حتى بعدما تغيرت الوجوه،هل هذا ما ترينه أيضا في بعض الثورات التي أحدثت تغيرا كبيرا في العالم العربي؟

ربيعة:

الحكام وحاشيتهم  أطلقوا أيديهم في كل شيء لعقود بدت لا متناهية  وكأنها  مثل قدر أو عقاب إلهي لامفر منه.. الغضب الذي يقلب الأشياء الآن ويجر الأبسط الحمراء من تحت أقدام الأنظمة ناتج عن الألم وعن الرغبة في الانعتاق  مثل النمر الذي يأكل رأس مدربه حين يتعب من سوطه ومن شطحاته .. الشعوب أمامها زمن طويل لبناء ما حطمته الأنظمة إن على المستوى النفسي الداخلي أو الخارجي الفيزيقي، لقد تم تدمير المجتمع و معه دمر الإنسان العربي، لقد فرغت الشعوب من كرامتها. الزمن السياسي الأغبرو الطويل الذي عاشته الشعوب العربية نتج عنه الهزال  في كل شيء على الرغم من الثراء الذي تمده أرضهم كل ثانية،  في روايتي "الذروة" تصوير للشعب الذي لا يعير انتباها للبهلوانيات التي تقوم بها الأنظمة  في الشارع  إيمانا منه أن التغيير بالنسبة له ليس شكليا بين صاحب الغلالة وخادمه الشاذ بل التغيير الجذري  الكلي  المحلوم به  لابد أن يأتي من التضحيات، إن التغيير المطلوب ليس مجرد مسرحية سخيفة  بين أطراف النظام نفسه وتبديل الأدوار بين عناصره.

3- في مجموعتك الشعرية (تضاريس على وجه غير باريسي)تطرقت لعلاقة الجزائري بالثقافة الفرنسية،وغربته داخل لغة غريبة عنه،ألهذا ا السبب لم تكتب باللغة الفرنسية مثل ما فعل الكثيرون من الكتاب في الجزائر؟

ربيعة :

فعلا معك حق، ففي كتابي الشعري "تضاريس لوجه غير باريسي" قصائد كثيرة عن حالة الاغتراب بمفهومه الفلسفي الوجودي وعن معاناة الجيل الأول من المغتربين المغاربيين الذين كانوا يقصدون أوروبا وفرنسا بالذات من أجل كسب لقمة العيش، أما بالنسبة للغة الفرنسية فأنا أحب هذه اللغة وقرأت بها منذ صغري وأعجبت بكثير من كتابها وفلاسفتها وشخصياتها الثقافية وأتابع بعناية ما ينشر بها وما يستجد فيها ولكنني أفضل الكتابة باللغة العربية لأنني أجد نفسي فيها كمن يسبح في بحر يدرك سر أمواجه، ألعب في مائه وأرمي بنفسي من أعلى صخوره حتى ألامس عصب ألوانه العميقة المدهشة، بحر أحاول منذ صغري  امتلاكه فتنة وأسرارا، أعتقد أن اللغة العربية هي من أجمل لغات العالم وأكثرها مرونة، حين أكتب بها أشعر أنني أملك حزمة طيعة من الأضواء الملونة بين أصابعي . 

4- في (الذروة) نأيتِ بالمرأة عن الصورة النمطية التي أسرت فيها منذ عقود، ورسمت لها مخيالا جديدا، ونقلتها نقلة كبير نحو المرأة التي تعاني كفرد مثلها مثل الرجل من صاحب الغلالة كما أطلقت عنه ؟هل برأيك أن المرأة العربية أصبحت قادرة على قيادة نفسها والرجل والمجتمع ولا خوف عليها من تقلد موازين الحكم؟

ربيعة:

كانت المرأة دائما (حتى وهي غائبة فيزيقيا عن الشارع ) المحركَ الأساسي لأي تململ في الشارع السياسي والاجتماعي، النساء هن النسيج الذي يعول عليه لتخصيب أو ولادة أو تفتح أو استقبال أو دعم الأفكار الجديدة و الحداثية. أظن أن المرأة في رواية "الذروة" حسب النقود التي قرأتها انتقلت من شخصية المرأة الضحية  التي تئن وتشكو وتتذمر  إلى المرأة الفاعلة  المرأة الممانعة  بأوجهها المختلفة  هي الضحية ولا يستبعد أن تكون الجلاد وهي العفيفة ولا يستبعد منها  دور الساقطة  وهذا يقنع القارئ أكثر ويجذبه، و هذا هو الوجه الحقيقي و التاريخي للمرأة العربية و المغاربية اليوم .القارئ العربي خرج من زمن المراهقة الاجتماعية و السياسية و الجنسية التي عاشها جيل السبعينات و ما قبل، لم يعد ساذجا لم يعد رومانسيا بالمفهوم السلبي لفلسفة الرومانسية، لقد تطورت رؤيته للأشياء  فأصبح قارئا واعيا لما حوله  مدركا للعلائق التي تحكم الأشياء والناس و النصوص التي تنتجها الأنتلجانسيا التي تتكلم وهما أو حقيقة باسمه، مجتمعاتنا تتقدم بسرعة استثنائية بجموع نسائها ورجالها في علاقاتهم ونضالاتهم وأخطائهم وأخطارهم والرواية التي  لا تكون على  الريتم نفسه لتلاحق  هذا التطور بأدوات جمالية ووعي سياسي لن تفتكّ إعجاب القارئ العربي و لن تدخل خزانة الأدب الخالد. 

5- في مجموعتك الشعرية(حجر حائر)،لم نر حجرا للبناء والتشييد كما هو معهود عنه ،لكننا وجدنا حجرا حائرا متخبطا،صامتا،هل هذا التوصيف محاكاة لحال الشعوب العربية ؟

ربيعة:

 سؤالك مهم جدا  لأنه فعلا يفكك رمزية عنوان المجموعة الشعرية  للتوجه نحو مساءلة عميقة لكتاب "حجر حائر" الصادر عن دار النهضة ببيروت سنة 2009 وسؤالك يصب في القراءات النقدية التي حظي بها هذا الكتاب في المشرق والمغرب و التي حاولت تفكيك الرمزية في القصائد .. "حجر حائر" كما تفضلت هو كتاب عن حال الوضع العربي  الذي  يمكن أن أطلق عليه اسم: "العصر الحجري الجديد" سياسيا و اجتماعيا و ثقافيا،  والغضب المبثوث بسخرية سوداء تارة وبألم تارة أخرى  في قصائد  كتابي الشعري "حجر حائر"  التي تتحدث عن وضع الشباب المزري وحالات الفقر و الظلم والتسيب والإهمال والاستغلال و الفساد و اللامشروعية واللامحدودية للسلطة، غضب قصائد "حجر حائر" هو نفسه الغضب الذي كان يتراكم في مجتمعاتنا  و قلوب شبابنا،  الغضب الذي حرك الانتفاضات الشعبية في كل مكان ولا يزال، أقول في "حجر حائر" 2008:

 " من حسن حظ الحاكم،

أن له السيفَ الطويلَ،

والنشيدَ الوطنيَّ،

والأوزانَ والأعلامَ،

والقوافي والأقنعة.

وله ريش النعام،

وممشى من عبيد،

والحصون الوارفة،

والعسس الواقفة.

ومن حسن حظ الشعب

أن له الصبرَ الجميلَ جدَّا،

والصمتَ الذي،

 يَسبقُ العاصفة !"                                       

 

6- تكتبين شعر التفعيلة وقصيدة النثر على حد سواء،هل هو إثراء في التجربة أم بحث عن مساحات للانتشار؟

 ربيعة:

بالنسبة لي لا تجزيء في القصيدة ،هي كلٌّ واحدٌ، تأتي القصيدة ومعها معناها ومبناها، موسيقاها وإيقاعها .تخرج من رحم اللغة كاملة  مكتملة غير خديجة ،لا حاجة لها أو لنا أن نضعها في آلة تنفس اصطناعي ..  كنت في بداياتي أكتب القصيدة الكلاسيكية فثقلت في يدي إلا أنني أحب قراءة  شعراء نا من رموزها، ثم جاءت قصيدة التفعيلة ثم القصيدة النثرية  التي أراها بدأت  تؤسس لموسيقاها الخاصة وكينونتها وهي الآن تتسرب بيسر إلى ذوق القارئ العربي الجديد.

7- يقول أدونيس: (أهلا بالسرد،ولو حزن الشعر)،ربيعة جلطي بعد إصدارات عديدة في الشعر نثرت روايتها (الذروة)مبتعدة عن صديق لطالما برَها،هل هو زمن الرواية؟

ربيعة:

الشعر بالنسبة لي ليس اكسسوارا أبدله متى اقتضى الأمر أو المزاج بل الشعر هو الحامل الأساسي لوجودي هو المبعثر والمنظم لتفاصيلي هو المرسل لموجات  حساسيتي المفرطة تجاه ما حولي  والمكون لأصغر الذبذبات  في تلاحمي أو تعارضي أو اختلافي مع الأشياء التي ترافقني  في وجودي على هذه الأرض منذ طفولتي .. كتابته ونشر بعضه  لا يشكلان سوى  جزء صغير منه .                    كتابة الرواية تحمل شعريتها المختلفة المتمثلة في انسيابية السرد ولكنني أظل حتى في المساحة الواسعة التي تقدمها الرواية أظل أفضل الجملة المكثفة الموحية وأنبذ التكرار والثرثرة .                           ثم إنني  لست أستسيغ الحَجْر على المبدع ووضعه في علبة أنيقة تدعى الشعر أو قطعة سيلفان ملونة تسمى  الرواية.  لا ..المبدع هو الذي يفاجئ، إنه مثل الزئبق أو الضوء الذي يسبق سرعة التخمين..أدونيس الشاعر الكبير والمنظر المتأمل في الحالة الشعرية العربية نفسه ، فاجأ العالم  بمعرض خاص به كفنّان تشكيلي أقامه في مدن مختلفة.

8- كيف جمعت بين عقل الأكاديمي المرتبط عادة بالنظريات المتخشبة،وبحس الشاعرة المتجددة التي لا ترسم حدودا ولا تقف عند الحواجز؟

ربيعة:

التحصيل و القراءة و المعرفة العالِمة تمثل الترمومتر الحقيقي  للثقافة الإبداعية. أنا لا أومن بكاتب أو شاعر أو روائي دون ثقافة تاريخية نقدية. العقل يسبق الإبداع دون أن يلغي حريته. حين تتحرك الكتابة الإبداعية تتحرك في فضاء حر لا تحده سوى الثقافة و المعرفة و التاريخ كسلط يجب التعامل معها بحساسية مفرطة، لا مبدع دون ثقافة عميقة قادرة على قراءة ما يحيط بنا. الموهبة مسألة أساسية في الكتابة الإبداعية و لكنها لا تعوض دور الفكر و الثقافة.

 

9- التواصل مع القراء الجدد بوسائلهم مثلما يفعل الكاتب العالمي باولو كويلو في حسابه على الفيس بوك ،هل هو فكرة خلاقة،هل ممكن للكاتب العربي أن يقوم بها أم انه مازال يقيم في برجه العاجي؟

ربيعة

دخلت عالم الفيسبوك منذ سنوات وقبله الانترنيت ،لأنني أومن أن من ليس له قدرة على التعامل بهما ومعهما  سيظل "أميا" وعلى خصام مع عصره،  لم أتفنن في خلق صفحة خاصة  تطل على الناس والمعجبين و"الفانز" من فوق ،ولم أصنع مدونة  خاصة أوغيرها  وكل مدونة تحمل اسمي هي من خلق وإشراف قراء لا أعرفهم شخصيا وهذه مناسبة لكي أشد على أيديهم و أشكرهم جزيل الشكر.

إن صفحتي على الفيسبوك منذ سنوات  أردتها بسيطة  مفتوحة للنقاش اليومي تجمع نخبة من الروائيين والشعراء  والفنانين والمثقفين وعشاق الأدب من القراء  يتناقشون انطلاقا من نص شعري لي  أو رأي في الأحداث  السياسية والاجتماعية والأدبية  والفنية المتسارعة في حياتنا  .. ويسعدني مستوى النقاش العالي والاحترام السائد بين أصدقائي الذين كثروا مع  توالي السنين فأصبحوا شعبا جميلا واعيا حاضرا في كل ما من شأنه تغيير الأوضاع والأفكار والمعاملات والممارسات ..

نعم صدقت، الأديب يحتاج إلى لقاء متئد وصادق مع قرائه الذين يصبحون أصدقاءه ،لأنه يكتب لهم وعنهم، سيتعرف عليهم أكثر إن كان صادقا معهم،و سيكونون كذلك معه. يكبر في قلوبهم قبل عيونهم لأنه لا ينظر إليهم من علٍ في حياته كما في كتبه، ويشير إليهم بأطراف أصابعه أن اعبدوني .بل يتناقش معهم ويعرف من خلال تعليقاتهم التي غالبا ما تكون من القلب ما يهتمون به كأولويات وآراءهم حوله .

صفحتي على الفيسبوك منذ سنوات كانت ميدانا للحرية . تجمع الثوار والحالمين بالتغيير .لم يكتفوا بقراءة قصائدي ونصوصي التي تنعت بالثائرة  بل يأخذونها وينشرونها على صفحاتهم وكم أسعدني و يسعدني ذلك .

10- أتت السياسة واضحة مكشوفة في كتاباتك،وأنت قلت من قبل (نحن كائنات سياسية بالفطرة،تلحقها السياسة حتى جواربنا وأرحامنا..هل للعشرية السوداء في الجزائر أثرا في هذا الاتجاه؟

ربيعة:   في العشرية السوداء كانت سيارتنا العائلية أول سيارة مفخخة تعرضنا لمحاولة اغتيال، أجبرت  على إثرها على  الابتعاد ولكنني لم أستطع البعد طويلا عن البلد وعن والدي الحبيب الذي توفي بين يدي. في العشرية السوداء فقدت الكثير من الأصدقاء الأعزاء .باختصار كلنا متنا قليلا بسبب العشرية السوداء بما خلفته فينا من خراب .وأتمنى ألا يبتلي بها بلد وألا يعيشها أحد .ولكن ليست العشرية السوداء وحدها من أذكى في كتاباتي نار الرفض إننا فعلا كائنات سياسية والتاريخ البشري يؤكد ذلك . وأما هنا أتحدث عن السياسة كفنّ  في الحياة  وليس كمهنة ،لأن أغلبية من يتحدثون باسم السياسة في بلداننا ويحكموننا باسمها ، ويتشدقون في وسائل إعلامهم الكسيح  من الأحسن لهم  أم يبحثوا عن شغل آخر.. رواية الذروة  تمارس السياسة على شبه السياسة التي يقوم بها هؤلاء المتنطعون والقابعون فوق كراسيهم منذ زمن حتى اشمأزت منهم النفوس و العقول و اللغة.

-   قلت: (في غياب النقد والنقاد ستظل جميع القطط رمادية) ..هل غياب النقد يساوي بين جميع الأقلام الموجودة في الساحة رغم رداءة بعضها وبهذا يغيب الإبداع الحقيقي في خضم الزحام ؟

ربيعة :

غالبا ما  نحتاج إلى رأي غيرنا  من المتخصصين في مجالات التأثيث  وزواج الألوان ونحتاج إلى من يقودنا في المعالم السياحية ويفك ألغازها ويفتح دهاليزها و أسرار خطوطها  .

إلا أنني لا أعتقد أننا كقراء وككتاب نرتاح لمن يغطي وجهه بطاقية الأكاديمية المزعومة ، ومغمض العينين ،يتعثر في النظريات تلو النظريات فيأتي رأيه مفبركا و متعثرا خارج التاريخ و بعيدا عن الجمال و الفن كممارسة ،فخارج النظريات الرمادية  و المفاهيم المغمومة  لمثل هؤلاء النقاد يجري هواء الإبداع  وخضرته وأقواسه القزح. يعيش بعض  مَنْ يُطلَق عليهم اسم "النقاد الأكاديميون" مرضا ثقافيا ناتجا عن عقدة العزلة التي يعيشونها بعيدا عن مجتمع الإبداع في العالم العربي، إنهم لا يؤمنون بشيء كتبه رجل والأفدح إن كتبته امرأة  فإنهم سيضعونها  بقفص تحت رحمة سوط ثقافي يخرجونه من أدراج التاريخ ثم  يكذبونها ، ويناقضونها،ويوبّخونها،ويكفّرونها،ويعهّرونها،ويجهّلونها،ويتفّهونها ثم يخرجون منتشيين شاهرين ذكورتهم بيمينهم مدعين  أنهم الأفهمون وأنهم  الأفضلون وأنهم الأصوبون وأنهم الأذكياء وأنها الأنثى  ناقصة عقل ودين  .

ككتاب وكقراء  أيضا ، نحتاج إلى ناقد مثقف ، متخلق لا يضع  أفعى أوضغينة  مسمومة في قفة نقده، ويشتغل على  النص وكأنه ملك له ،  ديموقراطي الفكر، مُهوّأ الذهن ليرشدنا  في النص الأدبي إلى حيث لا تصل إليه القراءة  بالعين المجردة العابرة، نحتاج إليه يتقن استخدام المناهج النقدية، يجددها ويشعل مصابيحها فيفك مغاليق النص الروائي والأدبي و يفكك مواده الأولية تفكيكا ماهرا، ويجعلنا من خلاله نكتشف كنوزه وخرائطه ودهاليزه  السرية  أكثر، ونتمتع أكثر، ونستفيد أكثر/ ونغامر في القراءة والكتابة أكثر .

12- الأزرق الفضي النائم في النار والمتنكر في أنثى والهارب من الغرق والمذوب من جهنم الأزرق أمامي والحائط ورائي توصيف بليغ لما يعانيه الشباب العربي في ظل الوضع السلبي الذي تعيشه أغلبية الأوطان العربية،أين شعرك من الثورات التي يقودها الشباب في الإطاحة بما يسمونهم أنظمة التجويع السياسي والاجتماعي؟

ربيعة :

أشعر بالفخر بإنسانيتي لأن قصائدي  لم تدر ظهرها لأوجاع الناس ، كثيرون من أخبروني  أنهم بكوا بعد قراءتها ليس من ألم ولكن لأنهم وجدوا أنفسهم ومجتمعاتهم فيها .." نشيج الغرانيق" القصيدة التي  تفضلتِ بالاستشهاد بأبيات منها ،اعتبرها البعض إلياذة معاصرة  للشباب العربي  الذي تحاصره البطالة والظلم والفقر والفراغ والأسى و اليأس و الغد  المفقود، على الرغم من ثروات بلادهم  الفلاحية والسمكية والسياحية والمعدنية والبترول والغاز و الشمس .. هؤلاء الشباب لم يجدوا بدا من الهروب من أوضاعهم غير الهروب من بلدانهم، مع أن أغلبهم يعرفون بأنهم سيموتون غرقا في البحر..هؤلاء الشباب يحبون بلدانهم ويعز عليهم أن يغتربوا يعز عليهم أن  تبكي أمهاتهم، ولكن الأنظمة العاجزة  و العجوزة المتآكلة بدل أن تحل مشاكلهم راحت تسن قوانين تجريمهم أو تستعين بالمفتين لصنع فتوى تحريم "الحرقة" أي الهجرة غير الشرعية. ليس هناك ماهو شرعي و ما هو غير شرعي في بلاد قائم نظامها السياسي من أساسه على اللاشرعية.

أنا منذ البدء آمنت أن الشعر ليس للعبث، وأومن بعمق أن من يرى ظلمَ الطغاة حوله..ثم يرنو إلى السكينة ،ولا يرفع نبضَ قلبه في وجه الاستبداد، كم تليق بمعصميه الأغلالُ! كانت قصائدي دوما  تحمل شمعة ولو صغيرة  تحاول أن توصل بها  قليلا من ضوء الكلام إلى الناس.. الثورات التي تنظف الأرجاس والظلمة هي جزء أساسي من فلسفة الكتابة لدي لكن دون السقوط في الأيديولوجوية و الشعاراتية التي تفرغ القيم الإنسانية من محتواها النبيل.

13- اخترت السخرية لتطبع بعض كتاباتك،رغم صعوبة هذا الفن ،هل هذا الأسلوب هو الأنجع لخطف لب القارئ ؟

تقول جدتي "إذا كثر الهَمُّ يضحك " الأضداد  تسير نحو حتف بعضها البعض، والواقع العربي بسياساته و سياسييه و من يدور في أفلاكهم من  التوابع يشبه سكيتشا هزليا، و من الفنان الفلسطيني الكبير ناجي العلي الذي رافقت رسوماته العميقة قصائد  ديواني "كيف الحال" 1996 تعلمت  كيف أنَّ السخرية قادرة على مقاومة الانهيار والهزيمة؛ الظلم والظلمة، كيف أنَّ السخرية المرَّة من أعطابنا ومن خيباتنا ومن حكامنا قادرة على شحذ الوعي وتجديد الخطاب، وفي روايتي «الذروة» حاولت أن أستثمر هذا الخطاب الساخر لقول مأساة السلطة وفسادها، لقول الخيانات  في العالم العربي باسم الدين تارةً وباسم الديموقراطية المضحكة  تارة أخرى. في الذروة  ، لا يبدو البطل نبياً معصوما من الأخطاء ومنزها عن النقائص مثلما بدا في الرواية السياسية بمفهومها الكلاسيكي السبعيني ، في رواية «الذروة» البطل شخصية تدور في عالم متناقض يضحك حد الدموع ويبكي حد القهقهة ، لذلك فإن  حجم الفساد  وأشكاله  العديدة والمختلفة الذي تعيشه الأنظمة العربية لا يمكن قوله إلا عن طريق السخرية، فهو فساد في واقعيته يتجاوز  الخيال في أقصى تجلياته، واختياري  لسلاح القول الروائي الساخر  يدخل ضمن بحثي تجريبي جمالي و لغوي عن وسيلة أخرى تعري البشاعة المستفحلة  وتقزمها عل  ذلك يوقظ القلوب والضمائر لتغيير وضعها  الكئيب 

14- من هم الكتاب الذين يأخذون ربيعة جلطي في رحلة من الدهشة

ربيعة:

الكتاب الذين لا يعطون الدروس في كتبهم بطريقة مباشرة كمن يشبه فقهاء المواسم..  أرتاح للكتاب المغامرين القلقين العصبيين في كتاباتهم .. أبحث عن الكتاب الذين يفاجئونك بهاوية كبرى وسط حكاية  تبدو طريقا عادية ..

يعجبني الكتاب المجنونون باللعب باللغة وهم يخرجون ألسنتهم لرهبنة القواميس

أقرأهم بالعربية والفرنسية والاسبانية  إلا أنني أحبهم بلغة القلب .